خواطر حول الالتزام في كنيسة أنطاكية

 

 ريمون رزق - 2015

النور - العدد الرابع 2015

 

سأتوقّف أوّلاً عند ممارسات كثير من المؤمنين الملتزمين الشخصيّة، إذ يبدو لي أنّنا جميعًا بحاجة إلى وقفة تأمّل وتوبة، عساها تفتح المجال أمام تغيير هذه الممارسات جذريًّا.

يسود في بعض من الأوساط الكنسيّة جوّ من الثرثرة والاستعداد الدائم لإدانة الآخرين، وكأنّي بالبعض ينصّب نفسه معلّمًا للمسكونة. تصرّف كهذا يخالف كلّيًّا التعاليم الإنجيليّة ومحوريّة يسوع في حياتنا. إن لم نسع إلى التمثّل بأخلاق المسيح في كلّ أمور حياتنا، وتاليًّا التحلّي بالتواضع والمحبّة، والتخلّي كلّيًّا عن كلّ إدانة، لن يكون لنا علاقة حقيقيّة بيسوع مهما أكثرنا من الصلوات والسجدات والصوم والمعرفة. علينا أن نعي أنّه »لا يوجد مؤمنون حقيقيّون من دون السعي الدائم إلى التفتيش عن يسوع وملاقاته والالتصاق الحميميّ به، والعيش الواعي في حضرته واكتشافه في إخوته وخدمته فيهم، والشهادة له في عالم بات لا يعرفه. يسوع وحده يجعلنا مسيحيّين ويجمعنا إلى واحد. وليست الشدائد التي تمرّ فيها كنيستنا، هذه الأيّام، سوى إشارة لا تقبل الجدل إلى أنّنا مبتعدون عنه رغم كوننا نُكثر الكلام عليه. أمّا آباؤنا، فقد نبّهونا إلى أنّ المهمّ ليس أن نتكلّم على اللَّه، بل أن نتنقّى من أجله ونتمثّل به«. يعلّمنا الآباء أنّ المحبّة تفوق كلّ معرفة، وكما يقول بعضهم، هي أعظم من الصلاة. يَكثر الكلام في أوساطنا على أهمّيّة الآباء وضرورة التقيّد بما قالوه، غير أننّا نكتفي بالترداد والتعلّق بأقوال نفصلها عن المواقف الحياتيّة التي أوجبتها حينها. عند مطالعة النصوص الآبائيّة نرى أنّ كلّ شيء في الحياة المسيحيّة »يتعلّق بالقريب، فإن ربحناه ربحنا اللَّه، وإن أعثرناه أخطأنا إلى المسيح« (أنطونيوس الكبير). ويقول القدّيس أفرام السريانيّ: »مَن كانت عنده محبّة، فعنده اللَّه. ومَن كان لديه التواضع، فهو شبيه باللَّه. ومَن يتكبّر، يفترق عن المسيح... والذي يزدري الخاطىء يدين نفسه... ومَن شهَر أخطاء إخوته يدنّس نفسه... ومَن ازدرى أخاه يضلّ، ويجهل، أمّا الذي يشاطره المحبّة، فيقبله اللَّه«. ويقول القدّيس ذوروثيوس الغزّاويّ: »كلّما اتّحدنا بقريبنا زاد اتّحادنا باللَّه... بقدر ما نكون خارج محبّة اللَّه نكون بعيدين عن القريب. لكن إن أحببنا اللَّه واقتربنا منه فإنّنا نقترب من القريب ونحبّه ونتّحد به. وبقدر اتّحادنا بالقريب، يتقوّى اتّحادنا باللَّه«. هناك إذًا حركة واحدة ومحبّة واحدة توصلنا إلى اللَّه والقريب حيث اختار اللَّه أن يسكن. لا حياة مع اللَّه بدون حياة محبّة وخادمة للقريب. تجمع الحياة الروحيّة التوق نحو اللَّه والتوق إلى الإنسان في آن. الصلاة إن لم تكن تحمل أمام عرش اللَّه مشاكل الإخوة والجماعة تكون ناقصة. والعمل مع الإخوة، إن لم يكن امتدادًا للصلاة ولعلاقتنا مع اللَّه يبقى سطحيًّا وفارغًا.

أعتقد أنّ الأهمّ في مسيرتنا اليوم هو أن يطرح كلّ واحد منّا على نفسه أين هو من كلّ ذلك. أين نحن من محوريّة يسوع في حياتنا؟ أين نحن من محبّته؟ كيف تلتحم محبّتنا للآخرين بمحبّته؟ نردد كثيرًا أحد أقوال المطران جورج (خضر) »إنّ برنامجنا الوحيد هو يسوع المسيح«. فهل نعي ما نقول؟ هل نسعى حقًّا إلى عيشه؟ هل نعي أنّ كلّ برنامج آخر، إن لم يكن مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا به، يكون باطلاً. إن أردنا أن نكون حقًّا مسيحيّين ملتزمين، لا بدّ لنا من أن نعي أكثر فأكثر هذه الحقيقة، وأن نفعّل، قبل أيّ نشاط آخر مهما سما، تكريسنا الكلّيّ ليسوع. كنيسة أنطاكية بحاجة اليوم إلى أناس يتكرّسون للربّ، ولا يهمّهم شأنٌ آخر لا يشعّ نوره فيه. أناسٌ همّهم الوحيد إرضاؤه وابتغاء وجهه المنير والدامي في آن من أجل خطايانا. أناسٌ لا يفتّشون عن جاه أو تقدير أو شرف آخر. إذ لا شرف لهم سوى شرف الخدمة وغسل أرجل الإخوة. بدون هذا السعي، لا قيمة لهم ولا حاجة إليهم. كثيرون هم المعلّمون. كثيرون هم المنظّرون. كثيرون هم الأسياد أو الذين يبتغون الوجاهة حيث طلب منّا الربّ ألاّ ندعو أحدًا على وجه هذه الأرض سيّدًا أو أبًا، لأنّ أبانا واحد وهو في السماوات. الكنيسة بحاجة إلى »الصغار« الذين قرّروا أن يتبعوا يسوع إلى حيث يريد أن يكونوا، واعين أنّ طرق الربّ تؤدّي دومًا إلى صليب فقيامة.

هل نريد أن نكون من هؤلاء الصغار؟ هل نسعى الى ذلك؟  مَن يريد ويثابر، بمعونة اللَّه والإخوة، هو عضو ملتزم حقًّا في كنيسة المسيح، وفي حال العكس يكون قد ضلّ الطريق مهما بلغت مشاركته في الخدم والاجتماعات واللقاءات والندوات، أيًّا كانت أهمّيّتها.

الورشة إذًا هي أوّلاً في داخل كلّ شخص منّا وفي تصرّفاته، لنلبّي متطلّبات ذاك الذي مات من أجلنا، وشاء أن نبادله المحبّة بمحبّة بعضنا البعض وعدم الإدانة.l

 

المشاركات الشائعة