مقدّمة كتاب "أضواء إنجيليّة - بطرس الرسول"
ريمون رزق
يسعدني أن يُعطى لي المجال للتعبير عن بعض ما جال في
خاطري عند قرأة مسودة هذا الكتاب الجديد لقدس الأب إيليّا متري، وذلك لأسباب ثلاث:
أوّلا، لأني معجب بكل ما كتبه حتّى الآن الأب إيليّا وبالنمط
الجديد الذي أدخله إلى ادبيّاتنا، في نقل الكلمة بكلّ حدّتها واشتعالها، انطلاقًا
من واقع الناس المعاش، الناس جميعًا، مؤمنين كانوا أم غير مبالين. هكذا كان يتكلّم
الرب، آخذًا من واقع أرض فلسطين وعادات أهلها، منطلقًا لنقل رسالته الكلّية
الجدّة، مسائلاً تلك العادات، ساعيًا لتغييرها من الداخل، اذ لا تغيير إن لم ينكسر
القلب ويصغي.
ثانيًا، لأنّ موضوع الكتاب المعلَن هو بطرس الرسول، وهو
شفيعي في المعموديّة. لست أدري لماذا اختاره
والديّ لي شفيعًا، لكنّي كنت أشعر على الدوام، وما زلت، أنّ صلة خاصّة
تربطني به، ليس ضرورة في تجليّاته، بل أكيدًا في سقطاته وطبعه "المتهوّر".
ثالثًا، لأنّ محور الكتاب، على الرغم من عنوانه، ليس
بطرس، بل من خلاله، وجه يسوع المحبّب. ولا أغالي إن قلت إنّ طريقة الأب إيليّا في
الكلام عن الربّ تذكّرني بمّن كان له تأثيرًا بالغًا في جعلنا نكتشف هذا الوجه،
وجعله قريبًا منّا كلّ القربى، ألا وهو المرحوم الأرشمندريت ليف جيلله1.
كان ينطلق من حادث بسيط من حياة السيّد على الأرض لينقلنا، بأسلوبه القريب المنال،
الواقعي، السهل اللغة، إلى عمق العلاقة الحميمة التي يجب أن تربطنا بيسوع اليوم،
وفي كلّ ساعة. كنت تشعر، عند مطالعة ما كتب أو سماعه، أنّك انتقات عبر الزمان
والمكان لترافق يسوع والتلاميذ على طرق فلسطين، معتبرًا كلّ كلمة ينطق بها موجّهة
إليك، فتفتح الاذنين وتصغي، علّه يريد أن يُسمعك شيئًا خاصًّا بك ويعطيك بلسمًا
لجراحاتك.
من الواضح أنّ الأب إيليّا يتّبع هذا النهج، وحسناً فعل
لأنّنا بحاجة اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، أن ننفض الغبار المتراكمة على ممارساتنا
التي كثيرًا ما تقف عائقًا أمام اكتشافنا وجه يسوع الدامي والمجيد في آن، الذي
يريد أن يحاكينا. ونحن غالبًا ما نلتهي بالقشور، حتّى إذا أعطيناها أسماء وألقاب
طنّانة ورنّانة وقلنا أنّها تعبّر عن تقليدنا. ولا تقليد حيّ إن غفل الإله الحيّ، الإله-الإنسان
الذي أتى إلينا، بالضبط لكي يواجهنا ويحطّم كل حاجز معه ترفعه خطايانا.
لا يعني قولي هذا أن قرأة الأبّ إيليّا للنصوص الكتابيّة
المتعلّقة ببطرس الرسول، تغفل ما توصّل إليه خيرة
البحث الكتابي الحديث، لكنّه يذكره في معرض الكلام إن كان يفيد ما يقصد،
ويمرّ عليه مرور الكرام. ليس هذا همّه، علمًا أنّ كثيرين غيره يركّزون على مثل هذه
القرأة "العلميّة"، التاريخية، وبعضهم يغالون، إذ في سعيهم لاستنباط
حقيقة النصوص يلهونك أحيانًا عن الاساس الذي هو يسوع. لا أريد تقليل من أهميّة التفسير
العلمي الذي يساعد في أغلب الأحيان على فهم
أفضل لقصد مَن كتب وإيمان مَن كتب إليهم. الكتاب المقدّس هو نتاج تفاعل بين الله
والبشر. الفعل الإلهيّ والمساهمة البشريّة لا ينفصلان في أيّ من نصوصه، ولا بدّ من
السعي لمعرفة أفضل لكلّ منهما للتوصّل إلى كشف القصد الإلهيّ، في يسوع المسيح
ربّنا، كلمة الله الحيّ.
كلام الله يبقى دائمًا فعليّ، يعاصرنا. إنّه موجّه إلى
البشريّة جمعاء، في كلّ زمن ومكان. لذلك علينا أن نصغي إليه ونطيعه. وبما أنّه وصل
إلينا عبر كلام بشريّ، لا بدّ لنا أن نفهم كلام الله كما فهمه ناقله إلينا وما
أراد أن نفهمه. علينا إذا أن نسمع الكلمة الإلهيّة كما سمعها بالضبط هؤلاء الناس
الذين رافقوا السيّد في تجواله على الأرض. من هنا أهميّة التركيز، في هذا الكتاب،
على أحد هؤلاء السامعين المقرّبين إلى الرب، بطرس الرسول، وكيف تفاعل معها
انطلاقًا من طبعه ومزاجه، وكيف انتهى عبر مخاض عسير إلى الخضوع لها. في الكتاب، يُكشَف
الإلهيّ من خلال البشريّ، ويعبّر البشريّ عن الإلهيّ.
علينا، بعد السعي لفهم النصوص الكتابيّة كما فهمها الذين
سمعوا كلام الربّ أوّلاً، أن نتعلّم كيف نطبّق هذا الكلام علينا، في عصرنا وفي المكان
الذي شاء الله أن يضعنا فيه. هذا ما يفعله الأب إيليّا في غير مكان من كتابه،
منبّهًا باستمرار إلى الكلام الموجّه إلينا ومتسائلا كيف يجب أن نتصرّف تجاهه.
ليس الكتاب إذًا عن بطرس الرسول، الذي هو "مثلنا في
كلّ شيء" (التمهيد)، وليس شخصًا "خلقه الله وكسر القالب" (التمهيد).
يشبهنا في خياناتنا وضعفاتنا، لكنّه آمن، فتاب وتبع يسوع. ويدعونا إلى مرافقته في
طريق السيّد، "بل يرجونا أن نمشي في إثره" (التمهيد)، و"نُدخل
(الربّ) بيوتنا وقلوبنا" (ص.7). بطرس مجرّد مرشد ودليل، كما سائر القدّيسين
ومَن يحبّون الله.
محور الكتاب هو إذًا يسوع، وقصة كلّ واحد منّا معه. يسأل
يسوع كلّ واحد منّا: "يا بنيّ، أتحبّني؟"، كما سأل التلاميذ. هو هنا،
"يسوع دائمًا هنا" (ص. 5) يستعطي محبّتنا. فهل نرتفع إلى مستوى محبّته،
أو نستمر نلتهي بالقشور؟
لا بدّ من القول إنّ هذا الكتاب يسعى للإجابة على مثل
هذا التساؤل. إنّه يلخّص كلّ الحياة المسيحيّة، واصفًا كيف يجب، مَن يريد أن يكون
مسيحيًّا (والمسيحيّ دائمًا في صيرورة مستمرّة)، أن يطيع كلام الرب بدون تردّد، وأنّ
ذلك "أمر لا يقوم إلاّ على أن نعرّي العقل" (ص. 5)، ونسجد، فتنفتح
السماء، ويُعطى لنا أن نشاهد ما لا يُنطق به. إذذاك، نُدعى أن نكون رسلا
"نخدم الربّ والناس جميعًا" (ص. 8). فيصبح، بدوره، كلّ واحد منّا، مرشدًا
الآخرين إلى الربّ، "يواكب رغبة (الناس) في رؤيته" (ص. 10)، مذكّرًا أنّ
"الرب يدعونا إلى أن نبقى أمامه جددًا دائمًا" (ص. 12)، مسلّطين عيوننا
على وجهه، وساهرين ألاّ "ينتفي حضور الله من عينينا" (ص. 14). "جدّتنا
أن نؤمن بأنّ المسيح هو ابن الله الذي أتى إلى العالم، ليكون كلّ واحد منّا على
إيمان الرسل جميعًا، ونخدم مشيئته في عالم يجب أن يحفظ أهله الجواب الذي فيه
نجاتهم، ويحيوا به" (ص. 16).
لكنّ اتّباع يسوع، مع إخوته، "ليست... نزهة
تسلية" (ص. 18). "ما من تلميذ أسمى من معلّمه" (لوقا 6: 40).
"الربّ كتب مصيرنا بدمه" (ص. 18). أتّباعه يجعلنا نتمثّل به، نفرح بالأعراس
التي يحضرها ، نرافق سيره في بساتين هذا العالم وأزقّتها، نجلس معه ونسامره في
بيوت أحبّته والزناة، ونساعده البحث عمّن
لا يعرفوه لبشارتهم بمحبّته. ولكن علينا أيضًا أن نكون دومًا مستعدّين أن نصل في
سيرنا معه إلى الصليب الذي خلّصنا عليه، وننطلق منه دائمًا إلى قيامة. فنسمعه يتمتم لنا في الطريق: "أقمتك لتحبّ
فحسب. أقمتك لتعطف على إخوتك جميعًا، مَن تراهم يستحقّون ومَن لا، كما عطفت
عليك" (ص. 28)."مَن يتّبع المسيح، لا يعرقل حياته بأفكار الناس، بل
يعرّي عقله، ويمشي، بثقة التلميذ، وراء المعلّم الذي به "فُتح طريق القيامة
من بين الأموات لكلّ جسد"" (ص. 18). يعزّينا الربّ في الطريق. يحزن
لأحزاننا وهفواتنا ويبكي معنا، كما فعل مرارًا مع أحبّائه، كما يروي الكتاب
المقدّس. يده دومًا ممدودة إلينا، مستعدة أن تنتشلنا من الحفر التى لا تزال خطايانا
توقعنا فيها. وعينا أن هذه اليد ممدودة أبدًا ضماننا إلى الخلاص. أن نعي أنّنا
دائمًا في حضرة الله، وأنّه بإكاننا الخروج إليه في كلّ لحظة من حياتنا، لنركن
إليه، إذ هو وحده مَن "أحبّ العالم بجنون" (ص. 28)، وهو الصخرة والطريق
والحياة. رجوعنا إلى المسيح وتمثلنا به يجعلنا نتخلّق بأخلاقه ونتّخذ "فقر
يسوع نهج حياة وأساس كلّ خدمة" (ص. 26). يذكّرنا الأبّ إيليّا إنّ النجاة
يكمن "باقتدائي بمحبّة إله لا مثيل لمحبّته، أيّ بنزولي عند أقدام إخوتي،
أيًّا كانوا... حتّى أمام مَن نحسبهم لا ينفعون شيئًا" (ص. 34)، كما فعل هو
مع تلاميذه، بعد العشاء. هكذا يريد الربّ أن "يجعلنا معه ومع أحبّائه في
آن" (ص. 35)، أن نطيعه، فنتوب، نحبّ ونخدم.
ينتهي الكتاب بدعوتنا للإمتثال بما خبره بطرس والتلميذ
الآخر "الذي كان يسوع يحبّه"، فجر القيامة، "ليعبِّد لنا أن تكون
حياتنا سيرًا سريعًا باتّجاه المعلّم الحيّ الذي ينتظرنا، ليهبنا ما لا يُنطق به،
ونبقى في طَفرِ التبليغ أنّه، حيًّا" (ص. 44).
آمل أن تهدينا قرأة هذا الكتاب إلى استنباط وجه يسوع في
كتابه العزيز والاستفادة من كلّ شاردة وواردة فيه لاكتشافه وجعله الكل في الكل في
حياتنا.