تأمّلات في المحبّة الأولى

 ريمون رزق

النور - العدد الثاني 2017 

 


طُلب منّي أن أتأمّل في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لمناسبة عيد تأسيسها الخامس والسبعيــــن. ارتأيــــت قبــل التطلّع إلــــى مسيرتها وأوضاعها والبحث في تقويمها والتخطيط لانطلاقات جديدة، أنّه لا بدّ لــي مـــن أن أتوقّف عند مــا يطلبه منّـــــي الربّ الذي عرّفني إلى كنيسته بواسطة هذه الحركة، وما يدعوني دومًا إليه لأبقى أمينًا له ولدعوته الأولى. فبدلاً من أن أتبحّر في الإنجازات والسقطات التي كانت كثيرة، رأيت من الأجدر بي، وربّما بأخوتي في الحركــــــة، أن نتوقّف عند مــا طلبه منّا يسوع، يسوع هذا الذي طالما خطايانا، وأيضًا أوضاعنا الكنسيّة، تحجب جمال وجهه المنير والدامي في آن.

فجمعت إذًا بعض الأقوال الإنجيليّة التي استوقفتني ولا تزال، مبوّبًا إيّاها حول المحاور الخمسة التالية:

المحور الأوّل: يسوع هو الصخرة

- »به نحيا ونتحرّك ونوجد« (أعمال 17: 28).

- »هو قبل الجميع وبه يثبت الجميع« (كولوسّي 1: 17)

- »إنّي أستطيع كلّ شيء في الذي يقوّيني« (فيليبّي 4: 13).

- »أنتم في المسيح يسوع الذي صار لنا من اللَّه حكمة وبرًّا وقداسة وفداء« (1كورنثوس 1: 30).

- »أطلبوا أوّلاً ملكوت اللَّه وبرّه كلّ شيء يُزاد لكم« (متّى 6: 33).

- »يا معلّم، أتبعك إلى حيث تمضي« (متّى 8: 19).

- »إن كان أحد يخدمني، فليتبعني. وحيث أكون أنا، فهناك يكون خادمي« (يوحنّا 12: 26).

- »مَن أحبّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي، فلا يستحقّني« (متّى 10: 42).

يؤكّد هذا المحور إذًا أنّ يسوع هو الصخرة الصلبة التي علينا الارتكازعليها. به »نحيا ونتحرّك ونوجد« ونستطيع كـلّ شـيء، إذ لا ثبـات لـنا إلاّ فيه. إن لم نثق به كلّيًّا، لا يمكننا الابتعاد عن روح العالم ومغرياته وطلب الملكوت أوّلاً. العضو الحركيّ هو تلميذ للمسيح، يعيش دومًا في حضرته، أو لا يكون. يدعوه يسوع إلى أن يتبعه. مَن يتبع يسـوع، يتـمثّل بـه ويتـخلّق بأخـلاقـه، ويكـون مستـعـدًّا لاتّباع يسوع إلى حيث يسير، حتّى الصليب الذي تتبعه القيامة.

المحور الثاني: الطريق نحو يسوع

- »مَن أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني« (لوقا 9: 23).

- »اذهب وبِع كلّ ما لك وأعطه للمساكين... وتعال اتبعني« (مرقس 10: 21).

- »أمّا أنتم فليس فيكم (كأهل العالم). مَن أراد أن يصير فيكم أوّلاً يكون عبدًا للجميع« (مرقس 10: 44).

- »طوبى للمساكين بالروح... طوبى للودعاء... طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ... طوبى للرحماء... طوبى لأنقياء القلوب... طوبى لفاعلي السلام« (متّى 5: 3- 9).

- »لا تهتمّوا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون...فلا تهتمّوا قائلين ماذا نأكل وماذا نشرب أو ماذا نلبس لأنّ... أبوكم السماويّ يعلم أنّكم تحتاجون إلى هذا كلّه« (متّى 6: 25، 31 و32).

- »إقتفوا... القداسة التي بدونها لا يُعاين الربّ أحدٌ« (عبرانيّين 12: 14).

- »كونوا قدّيسين في تصرّفكم كلّه على مثال القدّوس الذي دعاكم« (1بطرس 1: 15).

- »أحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك... وأحبب قريبك كنفسك« (متّى 22: 37، 39).

- »من كانت عنده وصايايّ وحفظها فهو الذي يحبّني والذي يحبّني يحبّه أبي وأنا أحبّه وأظهر له ذاتي« (يوحنّا 14: 21)

- »إفرحوا كلّ حين. صلّوا بلا انقطاع. اشكروا على كلّ شيء. هذه هي مشيئة اللَّه في المسيح يسوع من جهتكم. لا تُطفئوا الروح... امتحنوا كلّ شيء وتمسّكوا بما هو حسن« (1تسالونيكي 5: 16- 21).

- »نقِّ أوّلاً داخل الكأس حتّى يتطهّر خارجها أيضًا« (متّى 23: 26).

- »توبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم« (أعمال 3: 19)

- »ثقوا فإنّي قد غلبت العالم« (يوحنّا ١٦: ٣٣).

فالمحور الثاني ينظر إذًا إلى الطريق الذي يؤدّي إلى هذا الاندماج بيسوع المسيح. يوجد في الأدب الحركيّ الكثير عن هذا الطريق، وليس »قانون الحياة« الذي لا بدّ من أن يحكم مسيرة أعضاء الفرق الحركيّة سوى الأسلوب الأجدى الذي يجب اتّباعه ليستقيم ما اعوجَّ من أوضاعنا. وهو ينطلق من الثقة العمياء بيسوع، والصلاة، والتوبة، والعيش القنوع، والجهاد الروحيّ لاكتساب الفضائل وحفظ الوصايا. ويوصلنا إلى المحبّة، محبّة اللَّه ومحبّة الإنسان وخدمته. ويقودنا هذا المسلك المحبّ الخادم إلى القداسة التي تفتح لنا أبواب الألوهة. إن لم يقتنع الحركيّون بأنّهم مشاريع قدّيسين، وبأنّ هدف حياتهم المُراد من اللَّه هو أن يصيروا آلهة بالتبنّي، لأنّ »ابن اللَّه صار إنسانًا لكي يتألّه الإنسان«، ليسوا بشيء، بل يدّعون. نصل إلى هذا الهدف بالتفتيش الدؤوب عن يسوع في كلّ مواضع سكناه: في الابتهال إليه، والتأمّل في أقواله، وتناول جسده ودمه الكريمين، وفي اجتماع الإخوة حيث وعد بأن يكون، وفي الإنسان، كلّ إنسان اختار أن يسكن فيه. لا بد هنا من تقويم برامج اجتماعات الفرق الحركيّة لجعلها تتماشى مع هدف الالتصاق بيسوع هذا.

المحور الثالث: بعضكم بعضًا: كنيسة يسوع

- »كانوا مواظبين على تعاليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات« (أعمال 2: 42).

- »كان لجمهور المؤمنين قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن أحد يقول عن شيء يملكه إنّه خاصّ به، بل كان لهم كلّ شيء مشتركًا« (أعمال 4: 32).

- »كونوا أنتم أيضًا مبنيّين كالحجارة الحيّة بيتًا روحيًّا وكهنوتًا مقدّسًا لإصعاد ذبائح روحيّة مقبولة لدى اللَّه بيسوع المسيح« (1بطرس 2: 5).

- »أمّا أنتم، فجيل مختار وكهنوت ملوكيّ وأمّة مقدّسة وشعب مقتنى لتُخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب« (1بطرس 2: 9).

- »جعلنا ملكوتًا وكهنة للَّه أبيه« (الرؤيا 1: 6، 5: 10)

- »أحبّ المسيح الكنيسة وبذل نفسه لأجلها... ليهديها لنفسه كنيسة مجيدة لا كلف فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك، بل تكون مقدّسة منزّهة عن كلّ عيب« (أفسس 5: ٢٥- ٢٦).

- »أيّها الآب القدّوس، احفظ باسمك الذين أعطيتهم لي ليكونوا واحدًا كما نحن واحد« (يوحنّا 17: 11).

- »ليكونوا واحدًا فينا حتّى يؤمن العالم بأنّك أنت أرسلتني« (يوحنّا 17: 21).

- »أحبّوا بعضكم بعضًا... كما أحببتكم أنا« (يوحنّا 13: 34).

- »أعِفّوا نفوسكم بطاعة الحقّ لمحبّة أخويّة بلا رياء وأحبّوا بعضكم بعضًا من القلب حبًّا شديدًا« (1بطرس 1: 22).

- »فليتعهّد بعضكم بعضًا كما تعهّدكم المسيح« (رومية 15: 7)

- »كونوا مضيفين بعضكم لبعض بدون تذمّر« (1بطرس 4: 9).

- »كونوا ذوي رِفق بعضكم ببعض شُفقاء مسامحين كما سامحكم اللَّه في المسيح« (أفسس 4: 32)

- »اخدموا بعضكم بعضًا بمحبّة الروح« (غلاطية 5: 13).

- »فلنتبع ما هو للسلام وما هو للبنيان بعضنا لبعض« (رومية 14: 19).

- »صلّوا بعضكم لأجل بعض لكي تُبرأوا« (يعقوب 5: 16).

يتوقّف المحور الثالث إذًا عند جماعة الإخوة التي أسّّسها يسوع، الكنيسة، جسده، وحياة المسيحيّين الأوائل المواظبة على التعليم الرسوليّ والمشاركة وسرّ الشكر والصلاة، والتأكيد على المشاركة في الخيرات، إذ كان جميعهم يعتبرون أنّهم وكلاء على أموالهم وعليهم مشاركتها مع إخوتهم. ولا بدّ من التوقّف عند تأكيد بطرس الرسول ورؤيا يوحنّا على أنّ أعضاء الجماعة الكنسيّة كافّة يشكّلون كهنوتًا ملوكيًّا، تتناغم مواهبهم وتتكامل لخدمة الجسد الواحد. ولا بدّ من التأمّل أيضًا في الآيات المذكورة لتبيان ما يريده الربّ منّا في علاقاتنا بعضنا ببعض (لاحظ تكرار عبارة »بعضنا البعض« في هذه الآيات). يريدنا اللَّه أن نحبّ كما هو أحبّنا، ليس أقلّ من ذلك. بذلك فقط يعرف الناس أنّنا تلاميذه، ويعرفون أنّه يحبّهم. ويريدنا أن نكون واحدًا رغم اختلاف آرائنا لكي يؤمن العالم به. يشدّد بولس، الرسول الإلهيّ، على محبّة الأخ وتعهّده واستضافته والرأفة به وخدمته والصلاة من أجله. هذه هي سمات المسيحيّين. والمفروض عليهم أيضًا رغم خطاياهم الكثيرة أن يسهروا على أن تكون الكنيسة التي تجمعهم كما يريدها المسيح »مجيدة بلا كلف ولا غضن ولا شيء مثل ذلك«. لا يكفي بموجب الفكر الإنجيليّ أن يصلّي المسيحيّ بمفرده، بل عليه أن يعي أنّه لن يخلص بمفرده بل مع إخوته، وهو تاليًا مسؤول عن جماعة المسيحيّين، يساهم بتواضع في جعلها كما يشتهيها ربّها.

المحور الرابع: التواصل مع إخوة يسوع في الحظيرة وخارجها

- »أخرج أوّلاً الخشبة من عينك وحينئذ تنظر كيف تُخرج القذى من عين أخيك« (متّى 7: 5).

- »امض أوّلاً فصالح أخاك وحينئذ تعال وقدّم قربانك« (متّى 5: 24).

- »مَن أحبّ القريب فقد أتمّ الناموس« (رومية 13: 8)

- »إقتفوا السلام مع الجميع« (عبرانيّين 12: 14).

- »أحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مَن يبغضكم وصلّوا من أجل مَن يضطهدكم« (متّى 5: 44).

- »اقول لكم... أحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مَن يُبغضكم« (لوقا 6: 27).

يتوقّف المحور الرابع إذًا عند ما يطلبه يسوع من الذي التصق به بالنسبة إلى تواصله مع الناس، الذين هم جميعًا، مهما كانت معتقداتهم وأجناسهم، إخوة ليسوع. يريد الربّ من المؤمن الامتناع الكلّيّ عن الحكم على الناس وإدانتهم، بل النظر أوّلاً إلى الخشبة التي في عينه. ويعلّمه أنّ مصالحة الآخر تأتي قبل الصلاة والعبادة وأنّ المحبّة تأتي قبل المعرفة وتنيرها. رسائل بولس الرسول مليئة بالتوصيات على المحبّة والتعاضد. أمّا يسوع، فيذهب أبعد من كلّ ذلك عندما يطلب أن »نحبّ أعداءنا ونُحسن إلى مَن يبغضنا ونصلّي من أجل مَن يضطهدنا«. هذه هي ثورة يسوع الحقّ. أنأخذها على محمل الجدّ؟ إن لم تصِر الجماعة الحركيّة مستعدّة لأن تحبّ منتقديها وتغفر لمَن يُسيء إليها، فلن تكون حركة يسوع الناصريّ.

المحور الخامس: تلميذ يسوع والمجتمع والعالم

- »أنتم ملح الأرض فإذا فسد الملح فبماذا يُملّح... أنتم نور العالم... فليُضىء نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات« (متّى 5: ١٤- ١٦).

- »أوفوا ما لقيصر لقيصر وما للَّه للَّه« (متّى 22: 21).

- »إنّ الله أحقّ من الناس أن يُطاع« (أعمال 5: 29).

- »كلّما فعلتم بأحد إخوتي الصغار فبي فعلتموه« (متّى 25: 40).

- »إنّ أجرة العملة... التي بخستموهم إيّاها تصرخ وصياحها قد بلغ إلى أذني الربّ« (يعقوب 5: 4).

- »اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها« (مرقس 16: 15).

- »كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم« (يوحنّا ١٧- ١٨).

- »لا تتشبّهوا بهذا الدهر بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد عقولكم لتختبروا ما مشيئة اللَّه« (رومية 12: 2).

- »لا تحبّوا العالم ولا ما في العالم... لأنّ كلّ ما في العـالـم هـو شهـوة الجسـد وشـهوة العين وفخر الحياة وليس ذلك من الآب، بل من العالم« (١يوحنّا 2: 15- 16).

يتعلّق المحور الخامس إذًا بوضع تلميذ يسوع في المجتمع الذي يعيش فيه والعالم. التلميذ مِلح الأرض ونور العالم. أرسله المسيح إلى العالم. لكن عليه ألاّ يتشبّه به، بل يُعلن مشيئة اللَّه ويتبعها. وعليه أن يشهد أمام الناس للرجاء الذي فيه بيسـوع المسـيح، وأن يكرز بالإنجيل للخليقة كلّها. لذلك يجب ألاّ يحبّ العالم وما في العالم، مع كونه يتحسّس مشـاكـلـه ويسعى إلى جعله أكثر إنسانيّة وعدالة. مع أنّ الربّ قال »أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للَّه للَّه«، يعرف التلميذ أنّ »اللَّه أحقّ من الناس أن يُطاع«. لذلك ترتكز الرؤية الحركيّة حول العمل في العالم على أنّ محبّة الإنسان تمنع تحويله إلى شيء، بل يجب دومًا محاربة كلّ ما يشيّؤه ويتلاعب بالحياة التي فيه وبمصيره. فالإنسان فريد ومغاير كلّيًّا في سرّه، حرّ في أن يكون مختلفًا، لكنّه »شخص في الشركة«. فالعضو الحركيّ مدعوّ إلى أن ينبذ كلّ مظاهر العنف، حتّى الكلاميّ منه، وإلى أن يسعى دائمًا إلى التفاهم والمصالحة. ولذلك لا يسعه الاشتراك في الثورات والأحـزاب العنيفة، وأنّه لا يمـكن تقديس أيّ نظام اجتمـاعيّ، وأنّ كلّ نظـام يخضـع لدينـونـة اللَّه إذا لـم يستطع أن يقوّم ذاته من أجل إحقاق الحقّ. وهو مقتنع بأنّ الثورة الحقيقيّة هي ثورة المسيح التي تريدنا أن نحبّ أعداءنا ونعطي بدون انتظار المثل ونعيش بروح التطويبات، مقتنعـين بـأنّ كـلّ مـا نفعـله بإخوة يسوع الصغار به نفعله. إذا تبنّينا هذه الثورة حقًّا، نستطيع نقل الجبال والعمل من أجـل تغـيير المؤسّّسات والأنظمة لجعلها أكثر إنسانيّة، ولمنـع أيّ استغلال مـن الإنسان لأخيه الإنسان. فلا تقترح إذًا الحركة خطوطًا عمليّة للعمل السياسيّ ولا مخطّطات عامّة إذا كانت تقزّم الحدث الإنجيليّ إلى مجرّد قيَم اجتمـاعيّة، بـل تبـقى متـأصّلة بالقـيم الإنجيـليّة ومرتكزة على المحبّة الفاعلة التي لا تأمل بنجاحات تامّة في التاريخ.l

المشاركات الشائعة