التوبة 2

 ريمون رزق- نشرة رعيّتي

 

لا بدّ من التوبة لنتغيّر، لنقلب ذواتنا، ماقتين الإنسان العتيق فينا وطالبين الجديد. تقتضي التوبة رجوع النفس إلى ذاتها ومعرفة أمراضها والندم عنها والقرار بعدم العودة إليها. وعلى التوبة أن تصبح حالة داخليّة دائمة، تقتضي غالبًا الدموع. يقول الآباء إنّ الدموع هم معموديّة أخرى، تجدّد الإنسان. ويقولون أيضًا إنّ التوبة مع الدموع هي أسمى الفضائل لأنّها تفتح لنا باب تجديد ذواتنا وإعادة السعي والعزم في السير في الطريق المؤدّي إلى الربّ.

مجرّد الاعتراف بخطايانا إلى الكاهن، الذي ممثّل الجماعة الكنسيّة، يحرّرنا منها، إذ نكون قد أخرجناها من سرّنا وسمّيناها، وما يسمّيه الإنسان يمتلكه. أمّا التحرّر الكامل من الخطايا، فيكون عند صلاة الحلّ التي يتلوها الكاهن، والتي تشيرة إلى غفران الله والكنيسة لما اقترفناه بحقّهما وبحقّ الناس، وتصالحنا مع الجميع. بذلك تخرج خطايانا من ذاكرتنا، مع أنّ بعض الآباء ينصحون بعدم نسيانها، بل بتذكّرها الدائم، لكي لا نعود نقع في مثيلاتها.

ثمّة نوعان من التوبة، توبة الخوف، وتوبة المحبّة. تشمل الرعدة النفس قبل أن يملؤها الحبّ. تخصّ التوبة الأولى بالمبتدئين في الجهاد الروحيّ، إذ لم يولّد الإيمان بعد فيهم الشعور بحنان الله، فيخافون من العقاب. أمّا توبة المحبّة، فتكمن في الخوف من أن نُحرم من محبّة الله ومن خيرات صلاحه. يصف غريغوريوس، بابا رومية، هاتين التوبتين، قائلًا: "تبكي النفس أوّلًا على خطاياها (وتخاف من العقاب)... ولكن بعد أن تضمحل الرعدة، وتتأكّد أنّها حصلت على المغفرة، يشتعل ذهنها بالمحبّة... فتنتقل النفس من التوبة الممزوجة بالرعدة الى توبة المحبّة".

يتكلّم سمعان اللاهوتيّ الجديد على حالة الندامة الحقيقيّة، ويقول إنّها تنبع من  القناعة أنّ الربّ قد أنقذ الخاطىء"من الموت والفساد، وضمّه إلى مجده وألوهته، وجعله مشاركًا فيها". ويتابع، قائلًا: "عندما تكون تحرّكات قلبك غير المنظورة في مثل هذه الحالة، ستجد السيّد كلّي الاستعداد لضمّك سرّيًّا إلى ذراعيه ولتقبيلك ومنحك روحًا مستقيمًا في داخلك، روح حريّة ومغفرة، وأكثر من ذلك كلّه، تجده مستعدًّا ليكلّلك بالمواهب ويعطيك الحكمة والمعرفة... ويسشكن في نفسك كهذه ويستريح، محصِّنًا إيّاها ضدّ مكايد الشيطان". عندها، لا يزدهر فيها سوى ثمار الروح، أي المحبّة والغبطة والسلام والوداعة والصلاح والبرّ واللطف والتواضع وضبط النفس. وتتبعها المعرفة الإلهيّة وحكمة الكلمة وبحر مقاصد المسيح الخفيّة  وأسراره. ثمّ يقول: "مَن يصل الى هذا الحدّ ويستقرّ فيه يمتلىء غبطة لا توصف تنبع من محبّة الله، هذه المحبّة التي لا يمكن للمرء الاقتراب منها قبل تنقيّة قلبه بواسطة التوبة والدموع الغزيرة، وإن لم يغوص في بحر التواضع.".

لذلك، يذكّرنا القدّيس اسحق السرياني: "لقد نلنا هذه الحياة من أجل التوبة. فلا تهدروها بالبحث سدىً عن أشياء أخرى". ويضيف: "مَن يعرف خطاياه هو أعظم ممَّن يقيم الموتى... ومَن أعطي له أن يرى نفسه، أعظم ممَّن أُهّل لمشاهدة الملائكة".   

ليست التوبة إذًا يأسًا بل  سعي وانتظار وترقّب دائمين لمجيء العريس، حتّى في نصف الليل. ليست الشعور بأنّك في مأزق، بل أنّك قد وجدت مخرجًا. هي ألّا تنظر إلى ألى أسفل، إلى الماضي ومعاصيه، بل تنظر إلى فوق، إلى محبّة الله. وألّا تنظر إلى ما لم تستطع أن تكونه، بل إلى ما يمكنك أن تكونه بنعمة المسيح.

لذا ينصحنا الآباء على البقاء في التوبة الدائمة، إذ يقول أحدهم: "إن خطئنا سبعة مرّات في اليوم، فالنندم سبع مرّات، وسنلقى الترحاب. وإذا وقعنا سبعين مرّة سبع مرّات، فلتكون توبتنا مماثلة، ولا نفقد الرجاء، بموجب وعد الربّ. يكفي أن نثابر".

 

المشاركات الشائعة