الرجاء الذي فينا

 ريمون رزق - 6  نيسان 2006


يتوجّه بطرس الرسول، في رسالته الأولى إلى المسيحيّين، قائلاً: "تقبّلوا الربّ يسوع في قلوبكم بقداسة وكونوا دومًا مستعدّين أن تجاوبوا بوداعة ومخافة الله كلّ من يسألكم عن الرجاء الذي فيكم" (3: 15).

فلنلاحظ أوّلاً أنّ بطرس يربط "الرجاء الذي فينا" بسكنى يسوع في قلوبنا، وأنّه يعتبر أنّ هذا الرجاء يكفي، إذا عُبِّر عنه بوداعة وخوف الله، للردّ على كلّ من يطلب من المسيحيّين دليلاً أو برهانًا عن سبب كونهم مسيحيّين.

تُرى ما هو إذًا هذا الرجاء؟

في معرض الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ لنا أن نرجع إلى الكتاب المقدّس، حيث نجد العديد من الآيات التي تبيّن أنّ هذا الرجاء يكمن في الإيمان الوطيد أنّ الله أحبّنا بطريقة تفوق كلّ تصوّر، فأرسل ابنه الوحيد من أجل خلاصنا، وأنّ يسوع حلّ في ما بيننا، وأنّه سوف يأتي ثانية في اليوم الأخير، "ليأخذنا معه، فنكون حيث هو يكون" (يو 3: 14). إنّ شأن الكنيسة أن تدعو أعضاءها، من جهة، لتذوّق مجيء المسيح الأوّل، وفي آن معًا، البقاء على رجاء حلول المجيء الثاني بيقين تام. ما يرتّب على أعضائها انتظارَ عودة المسيح، لا متسمّرين في مكانهم، على غرار الرسل الناظرين إلى السيّد مرتفعًا يوم صعوده إلى السماء (أعمال 1: 11). فالمسيحيّون، المنتمون إلى كنيسة العهد الجديد، لا ينتظرون مجيءَ الربِّ مكتوفي الأيدي. بل يسعون، في نمط حياتهم اليوميّة، إلى "أن يستعجلوا يومه" (2 بطرس 3: 10). وهذا ما تعبّر عنه، بامتياز، صرخة الشاهد، في آخر آيات العهد الجديد، وأعني: "آمين (أي فليكن)، تعال أيّها الربّ يسوع!" (رؤيا 22: 20). وهذه الصرخة الملحّة، التي توحي بأنّ شوق اللقاء بالربّ لا يحتمل انتظارًا، تجد صدى لها في الرسالة إلى العبرانيّين، حيث يؤكّد كاتبها، متكلّمًا عن المسيحيّين: "كانوا يشتاقون إلى وطن أفضل، إلى الوطن السماويّ، حيث أعدّ الله لهم مدينة جديدة" (11: 16).

ويدعونا بطرس الرسول أن نتهيّأ لهذا المجيء، بقوله: "هيّئوا عقولكم، وتنبّهوا، واجعلوا كلّ رجاءكم في النعمة التي تحييكم عند ظهور يسوع المسيح" (1 بطرس 5: 8). فالمؤمنون لا "ينامون كغيرهم" (1 تسالونيكي 5: 6)، أي لا يهملون السهر، أو استعجال يوم الربّ. بل يحيون "بتعقّل وتقوى، في العالم الحاضر، منتظرين اليوم المبارك، يوم ظهور مجد إلهنا" (طيطس 2: 12)، الذي سيأتي "في مجد أبيه مع ملائكته، لينال كلّ واحد حسب أعماله" (متّى 16: 27).

هذا يتطلّب من كلّ مسيحيّ التزامَ حياةٍ جديدة بالمسيح تفترض، أوّلاً، أن يتعاطى العالم، من دون أن يتعلّق به، أو يتركه يتعاطاه، وفق قول الرسول: "تعاطوا أمور هذا العالم كأنّكم لا تتعاطون، لأنّ صورة هذا العالم في زوال" (1 كورنثوس 7: 29 – 31). وتفترض، تاليًا، "الصلاة بلا انقطاع"، و"إيمانًا" و"محبّة" (1 تسالونيكي 5: 17 و8)، مترجمة عملاً في سبيل خدمة البشر. هذه كانت عناوين الرجاء المسيحيّ، كما ظهرت في العهد الجديد، في فم الرسل والإنجيليّين.

كيف عاش المسيحيّون الأوائل هذا الرجاء؟ وكيف شهدوا له؟

إنّ أسفار أعمال الرسل وبعض الرسائل ترشدنا إلى أنّ المسيحيّين الأوائل كانوا، دومًا، ممتلئين بفرح القيامة ومدركين حضور السيّد بينهم. كانوا يجتمعون "بابتهاج وسلامة قلب" (أعمال 2: 46). "لإعلان موت الربّ إلى أن يأتي" ثانيةً (1 كور 11: 26). كانوا "يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات"، و"كان كلّ شيء مشتركًا في ما بينهم" (أعمال 2: 42، 4: 32). كانوا يعتبرون أنفسهم إخوة حقيقيّين بالمسيح، ويتعاملون، على هذا الأساس، بعضهم مع بعض ومع الناس جميعًا، من دون أيّ تمييز في السنّ، أو الجنس، أو العرق، أو المرتبة الاجتماعيّة (رومية 6: 23؛ 1 كورنثوس 2: 1، وغيرهما). وبهذا كلّه، غلبوا العالم، وشهدوا، حقًّا، للرجاء الذي فيهم.

أيننا من كل هذا اليوم؟

علينا أوّلاً أن نعي بكلّ جدّية، أنّ كلّ واحد منّا، وجماعتنا، مدعوّين أن نكون سفراء حقيقيّين للمسيح. لذلك، لا بدّ لنا أن ندخل بعلاقة صميميّة معه، حافظين كلّ وصاياه وعاملين بها. وعلينا أن نجعل دعوةَ يسوع أنْ "توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات" (متّى 4: 17)، قائمةً بكلّ حدّتها، وموجّهة، اليوم، إلى كلّ واحد منّا. والملكوت، الذي أتى بمجيء الربّ، نؤمن بأنّه سوف يكتمل في المجيء الثاني. إنّه في هذا التضادّ: هو، في آنٍ واحد، حاضرٌ وآتٍ. وإذ نحن نتذوّقه، في كلّ خدمة إلهيّة، نصبو إلى اكتماله، بشوق، كما لو أنّه سيحصل "الآن وهنا". فمصيرنا أن نبقى مشدودين بين الحاضر والآتي. لذلك نتذكّر في القدّاس الإلهيّ، في الصلاة التي يتلوها الكاهن قبيل استدعاء الروح القدس علينا وعلى القرابين الموضوعة، كلَّ أعمالِ الخلاص، ثمّ "المجيءَ الثاني المجيد أيضًا". نتذكّر ما سوف يحدث (أي المجيء الثاني) إيمانًا منّا بأنّنا على عتبة الملكوت الذي أُعطينا أن ندخله في الخدمة التي نستهلّها بالإعلان: "مباركة مملكة (أي ملكوت) الآب والابن والروح القدس". غير أنّ الخلاص، الذي حصل على الصليب، والذي نتذوّق طيبَهُ عبر مجاري النعمة في الكنيسة، يلزمنا أن نعي أنّ استحقاق مجّانيّته النابعة من محبّة الله "الجنونيّة" (كما يقول بعض الآباء)، يوجب علينا أن نلتصق بالربّ، وأن نتمثّل به في حياتنا بكلّ تفصيلها وتفاصيلها. فإن أردنا، حقًّا، أن يكون لنا نصيب مع المسيح، في مجيئه الأخير، فسبيلنا أن نلتحف بنوره، ونحيا به وله منذ الآن، وأن يكون همّنا الأساس أن نفتّش عنه في كلّ مواضع سكناه. دعوتنا أن نسعى، باستمرار، إلى أن نعيش في حضرته في الصلاة، وأن نحاوره في تأمّل كلمته واكتساب فكره، وأن نندمج فيه بتناولنا جسده الطاهر ودمه الكريم، وأن نستعجل مجيئه بالصوم وحياة التوبة والتقشّف، وأن نلقاه في الإخوة المجتمعين باسمه، ولاسيّما في كلّ إنسان مريض، أو مضطهَد، أو فقير، ارتضى هو أن يوحّد نفسه به. هذا السعي الدائم والدؤوب إلى الحياة بالمسيح، إن قبلناه بصدق، سيجعله ينمو هو فينا، وتنقص أنانا. فنصبح، كلّ يوم، أكثر "مسيحيّة"، لنستحقّ أن نشهد لملكوته الحاضر الآتي. وعلى هذا، إذ سَألنا أحدٌ عن إيماننا، أو رجائنا، فلا نرشده إلى كتب لاهوتيّة، أو مقالات قيّمة فحسب، بل نتجرّأ، ونقول له: "تعال وانظر". تعال إلى رعيّتنا، إلى بيوتنا، إلى أماكن عملنا، وانظر كيف أنّ محبّة يسوع تأخذ قلوبنا، وتجعلنا، على غرار المسيحيّين الأوائل، نحبّ بعضنا بعضًا، ونطبّق تعاليم الربّ حرفيًّا. من اللائق جدًّا أن نعيد، باستمرار، قراءة آيات أعمال الرسل والرسائل، التي ذكرنا سابقًا بشأن المسيحيّين الأوائل، لكي نتّعظ، ونقابل بين ما نفعله نحن اليوم والطريقة التي عاش فيها هؤلاء.

لا بدّ من فحص ضمير، فرديّ وجماعيّ

دعوتنا، في هذه الفترة الصوميّة، أن نعود إلى ذواتنا، وننظر، بجدّيّة، إلى شهادتنا وشهادة كنيستنا المستقيمة الرأي، ونتساءل، بكلّ تواضع وإخلاص: أين نحن من شهادة المسيحيّين الأوائل؟ أين نحن من الالتصاق الفعليّ بالمسيح؟ أين نحن من الشوق إلى مجيئه الثاني؟ أين نحن من التحدّيات العظيمة التي يواجهنا بها العصر؟ وماذا، باختصار، يجب علينا، كأشخاص وجماعة، أن نفعل، لكي نعيش، حقًّا، في انتظار مجيء السيّد، ونشهد له، ونعلن، للملأ، الرجاء الذي فينا؟ ماذا يجب أن نفعل، لكي تكون كنيستنا "بلا عيب ولا غضن ولا شيء مثل هذا"، كما يشتهيها الله في كتابه (أفسس 5: 27)؟

أوّل ما يجب ذكره، في مسعى الإجابة عن هذه الأسئلة، هو أن تتطابق ممارستنا الشخصيّة والجماعيّة مع روحانيّة الإنجيل وتعاليم كنيستنا ورؤى آبائنا وقدّيسينا. قال غبطة البطريرك الأنطاكيّ أغناطيوس الرابع، في مقابلة أجريت معه منذ سنوات عدّة: "توجد هاوية سحيقة بين لاهوتنا وواقع حياتنا الكنسيّة، وعلينا العمل على ردم هذه الهاوية قدر المستطاع". إذا نظرنا نظرة جدّيّة إلى واقعنا، ماذا نرى؟ ثمّة أمور كثيرة تدفعنا إلى أن نشكر الله على تجلّيات روحه الظاهرة، والمعجزات الحقيقيّة المحقّقة بواسطة الأسرار وسعي بعض المؤمنين إلى القداسة.

بعض العوائق التي تُضعف شهادة الكنيسة

وبعد تكرار الشكر، يليق بنا أن نذكر بعض الأمور السلبيّة التي تحجب جمالات كنيستنا، وتعيق فاعليّة شهادتنا الفرديّة والجماعيّة. وذلك لا للتسلّي أو الثرثرة، بل لنسعى جميعنا، إن أمكن، إلى تصحيحها. من هذه الأمور، التي نشترك جميعنا بتحمّل مسؤوليتها، القضايا التالية:

1-  طغيان التقاليد البشريّة الظرفيّة، المتوارثة من أزمنة الانحطاط، على التقليد الشريف الذي يترجم، وحده، حياة الروح القدس في الكنيسة. فنحن كثيرًا ما نتلهّى بالعادات البشريّة، ونتوقّف عند تفاصيل ثانويّة، من دون أن ندرك أنّ "المنازعات الناموسيّة" (طيطس 3: 9) كثيرًا ما تحجب وجه السيّد المنير والدامي الساطع في كنيسته.

2-  تراثنا الليتورجيّ والروحيّ والعقديّ، الذي هو على درجة فائقة من الغنى والعمق والجمال، والذي يفترض حقُّهُ انخراطًا حقيقيًّا في طيّاته، وغوصًا عميقًا في معانيه، ومعرفةً لرموزه، والتزامَ حياةٍ صارمًا، يقف، للأسف، أمامه الكثيرون وِقفة "المتفرّج"، ويتذمّرون، وينتقدون، مثلاً، ما يحسبونه صعوبةً وندرةَ وجودِ مَنْ يبدّدها لهم بلغة مفهومة توافق عقليّة العصر. وتراهم، من دون أن يبذلوا أيّ جهد شخصيّ أو يطرحوا أيّ تساؤل، يكتفون بالقشور، ويردّدون شعارات تحافظ على الظواهر الخارجيّة، ولا تلج إلى الأعماق. وهذا، إن استمرّ، يجعلنا أمام خطر حقيقيّ يهدّد الكنيسة الحيّة والمحيية بأن تصبح متحفًا يضمّ بقايا ثمينة من ماضٍ ولّى، ويخفي وجه المسيح الذي كلّ جمالات تراثنا والتاريخ، الذي رافقه، إنّما وُجد لإبراز حلاوته.

3-  بعض ممارساتنا تشكّل واقعًا يتناقض مع روحانيّة كنيستنا. فلنذكر، على سبيل المثال، فهمنا السحريّ للأسرار، والاقتراب من بعضها بدون تهيئة، وإهمال بعضها الآخر (كسرّ المصالحة مع الله والإخوة).

4-  على الرغم من أنّ مؤمنين عديدين يؤمّون رعايانا في الآحاد، علينا أن نقرّ بأنّ عددهم لا يتجاوز ربّما الـ10 أو الـ15 بالمئة من أبناء كلّ محلّة. فأين هم الباقون؟ وخاصّة الشباب بينهم؟ لماذا لا يأتون؟ وماذا نفعل نحن لتشجيعهم على مصالحة شركة الكنيسة؟ فلنتساءل جميعًا، في ندوات رعائيّة خاصّة لا بدّ من إيجادها، بواسطة سهرات إنجيليّة تُقام في البيوت، أو أي اجتماع آخر، لماذا لا يرى هؤلاء جمال السيّد ويشعرون بمحبّته؟ تُرى، هل فقد المسيح من جاذبيّته؟ حاشا! لا بدّ لنا من الإقرار أنّ سفراء المسيح، أفرادًا وجماعة، هم الذين يشكّلون عائقًا أو جدارًا يغشّي رؤية وجهه البهيّ والدامي للآخرين؟ فعلى كلّ واحد منّا إذًا أن يحاسب نفسه قبل إطلاق التهم على الآخرين. ويتساءل هل سخّر نفسه بما فيه الكفاية كعامل فعليّ، جاهزًا للخدمة في ورشة الكنيسة. يجب أن نعترف بأنّ شبه انعدام الهمّ التبشيريّ يشكّل خللاً كبيرًا في حياتنا الكنسيّة، ويعدّ لنا دينونة، وفق قول الرسول: "الويل لي إن لم أبشّر" (1 كورنثوس 9: 16). وهذا الانعدام، أو شبه الانعدام، إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على انحسار المحبّة الأخويّة الفاعلة التي تطلب اهتداء الجميع، وتاليًا على انعدام روح الخدمة وممارسة "سرّ القريب" الذي يشكّل، حسب الذهبيّ الفم، مناولة أخرى لجسد المسيح.

5-  ثَمَّةَ، أيضًا، خللٌ، في حياتنا الكنسيّة، يبدو في نوعيّة العلاقات بين أبناء شعب الله الواحد، وفي ضعف العلاقة الأخويّة في ما بينهم. وذلك رغم تشدّقنا بأنّنا كنيسة الكهنوت الملوكيّ، وأنّه لا يوجد، لدينا، أيّ فارق عضويّ بين أعضاء شعب الله الواحد، حيث الكلّ مدعوّ، بما أعطي من مواهب، إلى الخدمة والقداسة في تكامل مع الآخرين بإمامة الأسقف. إنّ لاهوت الكنيسة الأرثوذكسيّة يفتخر، وعن حقّ، بروح الشورى الذي لا بديل منه لاستقامة الحياة الكنسيّة. فأين نحن منه في خضمّ تزايد ظاهرة التفرّد الإكليريكيّ السائد في كنيستنا الأنطاكيّة، من جهة، وتزايد ابتعاد العديد من العلمانيّين وعدم اكتراثهم في شؤون الكنيسة، من جهة أخرى؟

هذا الواقع الأليم يخلق بعدًا حقيقيًّا بين الجماعة الكنسيّة وكثير من المعمّدين. يجب أن نقرّ بأنّ الذين لا "يمارسون" ليسوا، بمعظمهم، ملحدين، بل يمكن أن يكون بعضهم مستاءً أو غيرَ مبالٍ، وبعضهم الآخر صار لا يفهم لغة التخاطب المتّبعة في الأوساط الكنسيّة. ثمّة من يشعر بغربة، ويشوبه شكّ في أنّ كنيسته، التي ألهبت العصور بوعيها وإخلاصها، لا تفتح له مجالاً ليعبّر عن رأيه، وإذا فعل، لا تأخذ هذا الرأي بالاعتبار، ولا تهتمّ، حقًّا، له وبأموره. ماذا نفعل للتجاوب مع هكذا شعور؟ كيف نقنع هؤلاء أنّ كنيستهم حاملة للخلاص، إذا كنّا، نحن، لا نتصرّف معهم وفي ما بيننا كمخلّصين؟ نحن نؤمن بأنّ الربّ الموجود في وسطنا، لن يبطل عمله أبدًا. ولكن، ماذا نعمل نحن، لنعيد البعيدين، ليساهموا هم أيضًا في حياة الكنيسة وشهادتها؟

لا أحد مستقيمًا يجهل أنّ هذا الإقناع يتطلّب جهدًا كبيرًا وأساليب جديدة تفرضها التغيّرات الأساسيّة، التي حدثت في العالم في السنين الأخيرة، والتي تمحورت حول مجتمع الاستهلاك، والعولمة، والثورة التكنولوجيّة، وتقهقر القيم التقليديّة، وانفراط العرى العائليّة، إلى ما هنالك من تغيير فائق السرعة في عدد من المقاييس والمفاهيم. فنحن في عالم بات يستسهل، أو يستخفّ بمقتضى المسيح. المسيحيّة، في كثير من بلدان العالم، أصبحت أقلّيّة ضئيلة، وقابلة أن تزداد ضآلتها. إذ إنّ العالم، شرقًا وغربًا، على غرار العالم الذي انطلقت فيه البشارة في عهد الرسل، يرفع، أكثر فأكثر، رايات مناقضة تمامًا للموعظة على الجبل. وإذا أردنا أن نعلن، حقًّا، الخلاص بيسوع ربّنا، لا بدّ لنا من أن نستعمل الأساليب ذاتها التي استعملها الرسل، والتي طوّرها آباؤنا كلٌّ حسب متطلّبات عصره. يقول الأب ألكسندر مين (وهو كاهن روسيّ استُشهد منذ بضع سنوات)، معبّرًا عن قناعته بأنّ ورشة التبشير والشهادة والنهضة مفتوحٌ بابُها على مصراعَيه بانتظار العملة، يقول: "إنّ المسيحيّة لم تبدأ بعد". هذه الورشة تستدعي تغييرًا جذريًّا يطال حياتنا الخاصّة، وحياة رعيّتنا والكنيسة بعامّة. فعلينا، كما يقول القدّيس أنطونيوس الكبير، "أن نعتبر كلّ يوم في حياتنا، كأنّه اليوم الأوّل". أي علينا الاقتناع بأنّنا جميعنا، من دون أيّ استثناء، مسؤولون، اليوم، عن إبراز وجه المسيح الحلو "من أجل خلاص العالم". وهذا يتطلّب حوارًا واسعًا بين سائر أعضاء شعب الله، وتشاورًا جدّيًّا، ودراسات، وربّما مؤتمرات عامّة، للوصول إلى بلورة رؤية متجدّدة لكلّ نواحي عمل كنيستنا الرعائيّ وشهادتها في عالم اليوم.

الصعيد الشخصيّ

أمّا على الصعيد الشخصيّ، فعلينا أن نفعّل، أكثر فأكثر، تخصيص حياتنا كلّيًّا للمسيح. كنيسة أنطاكية بحاجة ماسّة، اليوم، إلى أناس يعون أنّهم جميعًا "أمّة مقدّسة وكهنوت ملوكيّ"، فيتبتّلون للربّ. أناس همّهم الوحيد أن يعرفوا الربّ، ويبتغوا وجهه، ويعملوا رضاه، ويتشرّفوا بخدمته، ولاسيّما بغسل أرجل الإخوة. من دون هذا الهمّ، لا قيمة لوجودنا كمسيحيّين، ولا رجاء لنا نعلنه. العالم يعجّ بالمعلّمين والمنظّرين والأسياد والذين يبتغون الوجاهة. ولكن الكنيسة تحتاج بخاصّة إلى "الصغار" الذين يسعون، دائمًا، إلى أن يتبعوا يسوع حيث يريد أن يأخذهم، أي إلى صليبه فقيامته.

أن يصير المرء مسيحيًّا، أي كاملاً في المسيح، أمر يتطلّب منه أن يأخذ كلّ كلمة إنجيليّة بجدّيّة كلّيّة. ففي المسيح وبه (متّى 5: 48)، نصل إلى الحياة الحقّ، ونصبح "شركاء الطبيعة الإلهيّة" (2 بطرس 1: 4). هذه الأقوال ليست صورًا شعريّة، أو عواطف، أو نصائح أخلاقيّة، أو دليلَ تقوى، بل دعوةً حقيقيّة إلى أن ينعم علينا يسوع بسكناه فينا، ويجعلنا أبناء، لأبيه، بالتبنّي.

هل من فرق بين حياة الكهنة أو الرهبان وحياة العلمانيّين؟

يوجد مفهوم غريب في أوساطنا، وهو أنّ صرامة الدعوة الإنجيليّة تخصّ، تحديدًا، الكهنة، أو الرهبان، وأنّها لا تنطبق، بالشدّة عينها، على العلمانيّين. وهذا يدينه آباؤنا بتأكيدهم أنّ الدعوة إلى القداسة تعني جميع الذين أحبّهم المسيح من دون أيّ تمييز أو محاباة للوجوه، أي جميع الناس. فالمسيح أحبّنا جميعًا، إذ مات عنّا جميعًا، وهو يتوق أن نبادله جميعًا محبّته عينها. يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: "عندما يأمر المسيح بسلوك الدرب الضيّقة، فهو يتوجّه إلى الناس كافّة. على الراهب والعلمانيّ بلوغ المثال نفسه... أنتم مخطئون، تمامًا، إذا كنتم تعتقدون بأنّ هناك أمورًا مطلوبة من العلمانيّين وأخرى من الرهبان... كلُّهم سيحاسبون في اليوم الأخير". أمّا القدّيس نقولا كاباسيلاس، الذي كان علمانيًّا، فيختصر شموليّة هذه الدعوة بقوله للعلمانيّين: "لا يفترض التزامنا أيّ امتحان إضافيّ... ولا يتأتّى منه أيّ عار أو خزي... وهو لا يمنعنا من ممارسة مهنتنا، ولا يقيم أيّة حواجز أمام اهتماماتنا. فالقائد يستمرّ في قيادته، والمزارع في زراعته، والحرفيّ في عمله... لسنا مضطرّين إلى الاعتكاف في مكان ما في الصحراء، أو تناول طعام غريب، أو ارتداء ملابس مختلفة، أو إلحاق الأذى بصحّتنا، أو المجازفة بحياتنا"، ويتابع: "نحن لا نغيّر مكاننا، بل طريقة حياتنا ومنهاجها". ويتوجّه القدّيس سيرافيم ساروفسكي إلى تلميذه موتوفيلوف، أثناء الرؤيا المشتركة في نور الروح القدس، قائلاً: "أمّا عن كونك علمانيًّا وكوني أنا راهبًا، فما من داعٍ إلى التفكير في ذلك... الربّ يبحث عن القلوب الزاخرة بمحبّة الله والقريب. هذا هو العرش الذي يحبّ أن يجلس عليه، والذي سيظهر جالسًا عليه عند اكتمال مجده السماويّ". هذا كلّه يبيّن أنّ آباءنا لم يفاضلوا بين عضو في الكنيسة وآخر. لكنّهم وعوا أنّ كلّ إنسان مدعوّ إلى أن يلتصق بالربّ، ويتعلّم به ومنه محبّة الناس جميعًا وخدمتهم، ليرث الحياة الأبديّة التي تنبع من حياتنا اليوميّة العاديّة. الطريق هي إذًا نفسها للجميع. ولا طريق في النهاية إلّا في من هو وحده "الطريق والحياة والحقّ". هدف حياتنا، كما قلنا سابقًا، أن نلتصق بالربّ يسوع، مفتّشين عنه بإلحاح وصارخين، في كلّ حين، على مثال المجدليّة: "أين وضعوا سيّدي"، وساعين أن نجعله يسكن فينا، فيوصلنا هو إلى ما يدعونا حقًّا إليه، أي ملاقاته في كلّ البشر، في المحبّة.

المحبّة هي، إذًا، مفتاحُ كلّ شيء. وهي تأتي قبل المعرفة. فمحبّة الإخوة ومحبّة الأعداء، ليست مجرّد مبدأ أخلاقيّ، بل سبيل من سبل معرفة الله. ويذكرنا القدّيس سلوان الآثوسيّ، الذي رقد العام الـ1939، أنّ "أخانا هو حياتُنا الحقّ"، وأنّ "من لا يحبّ أعداءه، لا يمكنه أن يعرف الله ولا نِعم الروح القدس".

لن أطيل الكلام أكثر من ذلك عن الحياة الشخصيّة. لقد تعرّض الذين سبقوني في الكلام هنا إلى العديد من جوانبها، وسوف يتكلّم، بخاصّة عن الحياة مع الله، الأسبوع القادم، من هو أجدر منّي في التعاطي بهذا الموضوع، أعني سيادة المطران الياس الجزيل الاحترام.

صعيد العلاقة بين الإخوة

أمّا على صعيد العلاقة بين الإخوة والعمل في الرعيّة، فسبيلنا أن نترجم هذا الالتصاق بالربّ محبّةً في ما بيننا. إذا لم تَسُدِ المحبّةُ علاقاتِنا كلِّها، إذا لم نسعَ إلى أن نتشارك في الخيرات، فكيف يمكن أن يعرف الناس أنّنا حقًّا أتباع يسوع (يوحنّا 13: 35)؟ كنيسة أنطاكية بحاجةٍ اليوم، أكثرَ من أيّ وقت مضى، إلى جماعات حيّة صفتها الأساس أنّ أعضاءها يحبّون بعضهم بعضًا محبّة مجّانيّة، ويتعاضدون في سعيهم المشترك نحو الخدمة والقداسة.

تتطلّب ممارسة المحبّة جهدًا جبّارًا واتّكالاً كلّيًّا على الربّ. لذلك يؤكّد السيّد أنّه "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه، فهناك يكون في وسْطهم" (متّى 18: 20). إنّه، إذًا، مع المؤمنين، يساعدهم على اختبار المحبّة التي يسكبها عليهم، لينقلها كلّ واحد منهم إلى إخوته. إذا نظرنا إلى حياة المسيحيّين الأوائل، الذين ذكرناهم قبلاً، فلا نشكّ في أنّ اجتماعهم لم يكن اجتماعًا عرضيًّا سريعًا، وكأنّهم على عجلة من أمرهم. بل كانوا، كما رأينا، يعرفون بعضهم بعضًا معرفة عميقة، ويتحمّل بعضُهم مسؤوليّةَ بعض، ويتشاركون في الفرح والترح، ويتقاسمون الأموال والممتلكات التي إنّما أُعطيت مجّانًا لخدمة الجميع، كما يؤكّد آباء كثيرون، ولاسيّما القدّيسَيْن باسيليوس الكبير ويوحنّا الذهبيّ الفم. وهذا يلزمنا أن تكون كلُّ رعيّةٍ من رعايانا المكانَ الذي يعيش الإخوة، فيه، حياةً مشتركة قلبها وقبلتها الاندماج في الربّ، ليس في القدّاس الإلهيّ فحسب، بل خارجه أيضًا: في الصلاة، والتأمّل، والتفكير المشترك، ودرس الفكر المسيحيّ، وسبل التصدّي للبدع والهرطقات، والتعاون، والمشاركة، وتعلّم المحبّة الأخويّة، والتفتيش على الخراف الضالّة، وخدمة الفقراء والشهادة تجاه الكلّ.

عمل رعائيّ متجدّد

علينا، إذًا، أن نسعى مع القيّمين على الرعيّة، كهنةً وعلمانيّين، إلى ألّا ينحصر نشاط الرعيّة بإقامة الخدم الليتورجيّة وبعض النشاطات (على أهمّيّتها)، بل أن يتعدّاها إلى أن تكون حياتنا كلّها امتدادًا، أو كشفًا، لمحبّة الله المسكوبة علينا في الحياة الكنسيّة. وعندها، فقط، الليتورجيا، التي تقام في الهيكل، تستمرّ خارجه.

علينا أن يخرج كلّ واحد منّا من الكنيسة مزوّدًا بالمسيح، مصمّمًا على نقله لمن لا يعرفه الكفاية أو لمن يجهله. علينا أن نقرع الأبواب ونتّصل بالناس، مساعدين كهنتنا في عمل رعيّتنا الرعائيّ، متسلّحين بالمواهب التي أعطانا إيّاها الروح لخدمة الجسد كلّه، مقتنعين بأنّ كلّ من يريد أن يفعّل عضويّته في الكنيسة هو مسؤول فيها وعنها.

يجب أن يتعوّد أبناء الرعيّة أن يبحثوا عن المسيح في كلّ كائن بشريّ، ويستقبلوه كما المسيح، داعين المسيح الساكن فيهم إلى أن يلتقي المسيح نفسه الذي في الآخر. إذ ذاك يوحّدهم المسيح فيه، ويكتشفون أنّهم إخوة. يجب أن نثق بأنّ كلّ إنسان يضعه الله على دروبنا، إنّما هو "قريبنا". فعبره، أيضًا، يعرض المسيح نفسه علينا. يجب اعتماد نهج حياةٍ نكون مهيَّئين فيه ومستعدّين، في كلّ لحظة، للقاء المسيح في كلّ إنسان. كان أحد آباء الصحراء يكرّر دائمًا: "عندما ترى أخاك، فإنّما أنت ترى الربّ إلهك". وهناك قول مأثور يستشهد به الآباء مرارًا، يشدّد على المنحى عينه: "الساعة التي تحياها، والعمل الذي تنجزه، والإنسان الذي تلقاه في هذه اللحظة، أهمُّ ما في حياتك".

خلاصة

إذا استطعنا، رغم كلّ سقطاتنا، أن يسطع من خلالنا، ولو بخفرٍ، بعضٌ من نور المسيح؛ إذا تمكّنا من مساعدة الناس، ولاسيّما الشباب، على أن يصالحوا الكنيسة، لشعورهم بأنّنا نحبّ بعضنا البعض وأنّنا مجنّدون لخدمتهم، تصبح رعيّتنا "غير شكل"، ونكون قد سلكنا، حقًّا، الطريق المؤدّي إلى الربّ، وابتدأنا نتمّم الرجاء الذي فينا.

ماذا بعد؟ لا شيء، غير أنّ من يدرك أنّه محبوب، بجنون، لا بدّ من أن ينطلق، من دون كلل أو ملل، ليبحث عن الحبيب، الذي عنده "كلام الحياة الأبديّة" وحده (يوحنّا 6: 68) داعيًا الجميع للقياه، وصارخًا: "آمين، تعال أيّها الربّ يسوع، تعال".



المشاركات الشائعة