مقدّمة كتاب "آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور"

 ريمون رزق


ما أصعب أن يتحدّث إبن عن أبيه. فمع الأحكام المتَّزنة تتداخل العواطف والذكريات وبخاصّة العرفان بالجميل لأنّ الربّ ساهم في ولادة الابن. وكلّما تعود بي الذاكرة إلى ذلك اليوم المبارك الذي فيه اهتديت من خلال حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وبها إلى كنيستي أرى الأب الياس مرقص شديد الارتباط بمسيرة حياتي في المسيح، - تمامًا كما كان – وما زال بالنسبة إلى العديد من أعضاء الكنيسة.

فقد شكّل دير القدّيس جاورجيوس – الحرف بالنسبة إلى جيلنا (وبالتأكيد أيضًا الأجيال اللاحقة)، منارةً، مثالاً مُعاشًا، دعوة إلى الالتزام ودليلاً قاطعًا وأكيدًا على أن كلّ شيء بات ممكنًا من جديد شرط أن يؤخذ كلام المسيح على محمل الجدّ وأن نعطيه قلبنا. كم من سهرات روحيّة ولقاءات واجتماعات أقمناها في هذا المكان! وكان الأب الياس محور غالبيّتها. ولم يكن يومًا انخراطه في الحياة الرهبانيّة وأعباء الشركة الأخويّة ليثنيه عن العطاء بدون حساب في خدمة الشباب. كان دومًا حاضرًا في المؤتمرات وحلقات الدريب وغيرها من النشاطات. وما زلت أراه يستمع حتّى ساعة متأخّرة من الليل، إلى جانب آباء روحيّين آخرين، إلى اعترافات الشباب المنتظرين في طابور طويل. ولكن دور الأب الياس لم يتوقّف عند هذا الحدّ. فمؤلّفات عديدة نشرتها منشورات النّور ("من أجل فهم الليتورجيا وعيشها"، "مدخل إلى الكتاب المقدّس"، "مدخل إلى الحياة الروحيّة" وكتب كثيرة غيرها) شكّلت في الأساس محور أحاديث كان يلقيها خلال هذه اللقاءات. وهي خير شاهد عن إسهامه في جعل شباب كنيستنا يكتشفون الكنوز المخبّأة فيها وعلى دعوته إيّاهم إلى تجسيد هذه الكنوز في حياتهم اليوميّة.

وغالبًا ما كنت أرى فيه شخصًا يحاول بأسلوبه الخاص أن يردّد على مسامعنا أقوال القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد: "لا تقولوا أنّ نيل الروح الإلهيّ أمر مستحيل... لا تقولوا أنّ الله لا يكشف ذاته للإنسان... لا تقولوا أنّ الإنسان لا يستطيع معاينة النور الإلهيّ، وأنّ ذلك مستحيل في الأزمنة الحاليّة. على العكس، إنّه ممكن جدًّا، عندما نريد، لكن فقط للذين لطّفت الحياة أهواءهم ونقّت عيون ذهنهم" (النشيد 27). لم يكن يعبّر عن ذلك بالكلمات أو على الأقل ليس بهذه الحرفيّة. فبتواضعه وجهوزيّته المستمرّة أراد دومًا أن ينقل لنا حرارة لقائه السيّد، و"فتات" خبرة التصاقه بالحياة النابعة من السيّد. ومن خلال استعماله شبه الدائم للمزاح – وغالبًا على حساب نفسه – (أو ليس في ذلك إشارة إلى جنون المسيح؟) كأنّه يقول لنا: "لا تأخذوا نفسكم على محمل الجدّ أكثر من اللازم. دعوا يسوع يقودكم حيث يشاء. كفّوا عن مقاومته. ثقوا به، "وكلّ شيء يعطى لكم ويزاد". تعليقاته المنيرة على مقاطع عديدة من الكتاب المقدّس (نشرتها خلال السنوات الأخيرة منشورات دير الحرف) هي كمٌّ من الحياة التي كان ينثرها في ما بيننا.

الكتاب الذي بين أيدينا هو إلى حدّ ما قصّة حياة. يجمع في طيّاته نصوصًا خُطّت خلال السنوات الستّين الأخيرة. عند قراءتها لا بدّ أن يأتي إلى ذهننا القول المأثور: "أنا إنسان ولا شيء يخصّ الإنسان غريب عنّي"، ذلك أنّها تعالج معظم المسائل الأساسيّة المطروحة على كلّ واحد منّا.

أقدم هذه النصوص كانت في الأساس موقعة مرسيل مرقص. وهي تذكّر بالأيام التي كان فيها مرسيل مرقص في ربيع عمره، حين شعر ورفاقه، خاصّة جورج خضر والمرحوم جبرائيل سعاده وألبير لحّام، بضرورة إيجاد تجدّد ما في الكنيسة، فشارك معهم في بداية الأربعينيّات (عام 1942) بتأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، كانت قناعته التي لم تتغيّر أبدًا – وحياته أضخم برهان على ذلك – أنّ هذا التجديد يبدأ بعودة كلّ عضو من أعضاء الكنيسة إلى الله (ص 299). عودة تُخرج من الذات وتدعو كلّ واحد إلى حمل صليبه وإلى التزام وجوديّ لأنّه "لا وجود لنا في الكنيسة ولا وجود للكنيسة فينا بدون صليب الالتزام وآلامه" (ص 304). وكما ورد في الكلمة التي ألقاها لمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس الحركة، فهو يعتبر أنّ التزامه الحياة الرهبانيّة التي أعطاه الله أن يعيد إزهارها في كنيسة أنطاكية بعد طول انقطاع، هي النتيجة الطبيعيّة للدعوة التي أُطلقت عام 1942: "بوصفي من الحركيّين الأوّلين الذين أعطاهم الله أن يتمخّضوا بالحركة – إذا جاز القول – ويذهبوا بها في مسيرتهم الشخصيّة، إلى مراميها الحقيقيّة، أعني التكريس الكامل في خدمة نهضة كنيسة أنطاكية" (ص 307). وفي هذه الكلمة نفسها، يدعو إلى مكافحة تجربة الانزلاق من "الحدث" إلى "المؤسّسة"، التي ما زالت كامنة في أوساط الكنيسة، لأنّ "الكنيسة أساسًا وجوهرًا هي حدث وليست مؤسّسة ولأنّ الحركة انطلقت من قلب الكنيسة الحدث لا المؤسّسة" (ص 307). وما يقوله عن دور الحركة في هذه المقالة حريّ أن نتوقّف عنده ونتأمّل فيه: "دور الحركة في الكنيسة... كان ولا يزال وينبغي أن يبقى تحريك جدّة الروح وتثبيته في كلّ مجالات حياة الكنيسة. إن استمرار الحركة على إيمانها وأصالتها يتطلّب مزيدًا من التوغُّل في حياة الكنيسة وذلك لا كمؤسّسة بل كحدث. هذا وإن لم تعط الحركة مزيدًا من المكرّسين والملتزمين "حياتيًّا" في الكنيسة عتقت وبطلت أن تكون حدثًا" (ص 309 – 310).

ويريد أن يقول لنا بالتحديد إنّ المهمّ هو العمل على أن نصير ما دُعينا إليه أعني بذلك "مخلوقات جديدة"، "أبناء النّور"، "لأنّ الربّ يسوع جاء ليغيّر الإنسان ويغيّره في العمق والكيان، لكي يحلّ الإنسان الجديد محلّ العتيق لنصير أبناء النّور، أبناء الله" (ص 109). يجب إذًا أن "نعمل لخلاصنا" باستمرار. يجب أن نسير. يجب أن "ننطلق" أن "نخرج من أنفسنا" "لنتبع" المسيح ونذهب معه "معجبين" (ص 17) بجمال أعماله، إلى ملاقاة الآب. وذلك يتطلّب من بين أمور أخرى "الإحساس بالخطيئة بالعمق، اليقين برحمة الربّ التي لا حدّ لها، الشكر الدائم على كلّ شيء" (ص 13) و"كذلك الإقرار بضعفنا الكبير واللجوء إلى الربّ يسوع بحرارة ويقين" (ص 25). يجب أن نكون مستعدّين للعطاء ونجعل من كلّ حياتنا هبة. وهذا ما يُتَرجَم في "روحانيّة يوميّة مستمرّة" (ص 10). كلّ عمل من أعمالنا يجب أن يكون موهوبًا كفِلسَيّ الأرملة "فكلّ عمل نعمله، كل ابتسامة، كلّ صلاة، يجب أن يكون على غرار الفلسَين..." (أي) "كلّ معيشتها" (ص 10). لاحظوا كلامه عن "الابتسامة"، إنّه يذكّرنا أن نترجم خطأنا وراء يسوع بالضرورة انفتاحًا وملاقاة وحبًّا وخدمة للآخرين، لكلّ قريب يضعه السيّد في طريقنا إذ هو يسكن فيه. بعد الآباء، يذكّرنا الأب الياس بأنّ كلّ "خروج" من الذات نحو الله يلزمنا "بعودة" إلى الإنسان. إنّها في الواقع الحركة نفسها، "المحبّة" المزدوجة التي هي واحدة بحسب تعبير القدّيس باسيليوس الكبير في "كتاب القوانين الكبرى" بحيث يعتبر أنّ محبّة الأخوة ليست تالية لمحبّة الله بل إتمامًا لها.

وفي نصوص عديدة جُمعت في الفصل الذي عنوانه "في الحياة الروحيّة" (ص 7 – 116) نجد نصائح أب روحيّ، ذي خبرة ويقين، لتحاشي العقبات التي ترتصدنا في مسيرتنا الهادفة إلى "الاندماج في المسيح". ويحدّثنا الأب الياس مرّة بعد مرّة عن أسس "العفّة" (ص 21 – 25: 107 – 108) و"الحياة الداخليّة" (ص 27 – 28) و"الالتزام في الكنيسة" (ص 49 – 62) و"اختيار" نمط العيش (ص 63 – 68) و"الجسد كهيكل للروح القدس" (ص 69 – 83) والعلاقات الحميمة بين "الخدمة والكيان" (ص 85 – 102) و"الصدق والاستقامة" (ص 103 – 106). وتكتمل هذه النصوص بفصل عن "الحياة الرهبانيّة" (ص 201 – 248) بحيث يذكر، إلى جانب بعض النواحي المتعلّقة تحديدًا بحياة الرهبان: "الحياة الرهبانيّة كممتدّة إلى الآخرة" (ص 203 – 215)، "حول الرهبنة" (ص 217 – 225) "الإعتراضات على الحياة الرهبانيّة" (ص 227 – 237)، نواح أخرى تشكّل مبادئ أساسيّة في الحياة الروحيّة وموجّهة إلى الجميع. كما نلاحظ تداخلاً بين تحليل عميق للحقيقة البشريّة وأهوائها وخبرة عمليّة للنضال من أجل كبح هذه الأهواء. كلّ ذلك يجعل من هذه النصوص خلاصة حقيقيّة لتعليم آباء الصحراء والآباء الهدوئيّين، جاء التعبير عنها بلغة يفهمها الجميع.

وفي مقالة "العلاقة بين الإفخارستيّا ووحدة المؤمنين" (ص 39 – 48) تتجلّى بوضوح محوريّة سرّ الشكر في المسيرة مع المسيح. ما من وحدة حقيقيّة بين البشر إلّا باندماجهم المشترك بالجسد الواحد، هو جسد المسيح الذي يتحقّق خير تحقيق في الشركة الإفخارستيّة. ولكن، ليكون هذا الاندماج وفعّالاً، يجب أن تسبقه وتليه طريقة عيش مليئة بالتوبة والأخوّة والمشاركة. وعسانا لا ننسى أبدًا أنّ "سرّ المذبح" يجب أن يقود بالضرورة إلى "سرّ الأخ" بحسب تعبير القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم. في الواقع الوحدة التي نحن مدعوون إليها (بعد خلقنا من أجلها وعلى صورتها) ليست وحدة أخلاقيّة معنويّة أو نفسيّة، حتّى ولا وحدة وجوديّة بل هي وحدة عضويّة، وحدة الجوهر الكيانيّة: "جسد الله" (ص 42). إن مشاركة السيّد في العشاء السرّيّ "بدون دينونة" يلزمنا بالعيش كالمسيحيّين الأوائل الذين تحدّث عنه سفر أعمال الرسل حيث "كان كلّ شيء مشتركًا بينهم" (أع 2: 44 و4: 32) ويُذكّرنا الأب الياس بأنّ هذه الوحدة لا يمكن إلّا أن تكون على صورة ومثال وحدة الثالوث القدّوس "إذ أنّ شركة الجماعة مشاركة في تيار الحب الذي في الثالوث" (ص 46). وفي مكان آخر في الكتاب مخصّص للعقيدة (ص 169 – 199)، يساعدنا الأب الياس على سبر غور سرّ الثالوث هذا (ص 169 – 172). كما يعرض دراسة هامّة حول ألوهيّة الروح القدس (ص 175 – 199) والدور الأساسيّ الذي يؤدّيه الروح القدس في تعريفنا إلى المسيح وملاقاته في كلّ أماكن وجوده وتعزيز أواصر الوحدة بين البشر جميعًا.

والأسرار الأخرى أيضًا كان لها نصيبها من الكتاب. فالنصّ تحت عنوان "أهميّة الأسرار المقدّسة في حياة الرعيّة المسيحيّة" (ص 155 – 165) يظهر كيف أنّ كلاً من أسرار الكنيسة يسهم في تحقيق وحدة الرعيّة ويرسّخ فيها الوعي أنّه لا يوجد ما يسمّى "سرًّا خاصًّا" بل كلّ شيء مشترك بين الأخوة. وكذلك يشدّد على ضرورة الاعتراف – سرّ المصالحة مع الله والإخوة بامتياز – وإلى دور الكاهن المعرّف و"الأب الروحيّ" ("حول الاعتراف والأبوّة الروحيّة" (ص 109 – 111)، و"الأبوّة الروحيّة" (ص 113 – 115).

بشكل أشمل، فالدراسة الطويلة تحت عنوان "الانتماء إلى الكنيسة بالطقوس" (ص 119 – 150)، وكذلك شرح صلاة الغروب (ص 151 – 155) يعطيان مفاتيح لفهم أفضل للرمزيّة الطقسيّة وأسباب الأهميّة الأساسيّة التي تعطى للطقوس وللحياة الليتورجيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة. هذه النصوص تجعلنا نلاحظ كيف أنّ عمل الله في الكنيسة يتجلّى لنا من خلال التعبير الطقسيّ بإقامة الأسرار ومن خلال سير السنة الطقسيّة في أدوارها اليوميّة والأسبوعيّة والسنويّة، وكذلك في الخِدَم التقديسيّة العديدة الأخرى: الصلوات لمناسبة الولادة والمرض والموت، تقديس الكنائس والأيقونات ومباركة الطعام والحقول والمياه الطبيعيّة. "بالطقوس نمنح نعمة الربّ وننشرها في الكون حتّى تتقدّس بها جميع الطبيعة شيئًا فشيئًا وتتحوّل من جديد إلى الله بالمسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به" (1 كو 8: 6) (ص 128). ولكن دور الحياة الليتورجيّة لا يتوقّف عند هذا الحدّ. فإلى جانب تقديس الإنسان والعالم تشكّل الحياة الليتورجيّة خمير وحدة بين أعضاء الجماعة: "أن صلاتنا في الطقوس تختلف عن صلاتنا الفرديّة، وهذه لا تستطيع أن تقوم بمقامها: في الكنيسة يصير لنا وضع آخر وهويّة أخرى لأنّنا في صلاة الكنيسة. إنّي أشعر حينذاك أنّني أصلّي لا صلاتي بل صلاة الكنيسة وأنشد نشيد الكنيسة وأسجد سجود الكنيسة... لأنّ صلاة الكنيسة هي جارية هي تسندنا وتحملنا في صلاتنا... يكفي فقط أن ندخل في الصلاة الجماعيّة ونتجاوز أنفسنا رغم عدم استحقاقنا أو تفرّقنا لنأخذ من روح الربّ نعمة واتحادًا ومحبّة على صورته" (ص 130). إضافة إلى ذلك، تمنحنا الليتورجيا فرصة إحياء مشترك للأحداث الخلاصيّة. نحن مدعوّون إلى أن نصبح شهودًا عيان لهذه الأحداث. إنّنا منتقلون بالزمن والمدى للمشاركة بالحدث الخلاصيّ الوحيد. علينا أن نلد مع المسيح ونموت معه، وإن كنّا مستحقّين، نشارك في قيامته. أمّا صلوات الساعات، فتجعلنا نقدّس الزمن... فالليتورجيا الأرضيّة هي مشاركة في الليتورجيا السماويّة، "غايتها الأخيرة أن تتمّ أيضًا فينا على صعيد القلب" (ص 136). فهي تعطينا "الوسيلة والمرقاة التي نبلغ بها شخصيًّا وقلبيًّا إلى معرفة الله ومحبّته والاتحاد به" (ص 136). ولكن إلى جانب الجهد الشخصيّ لا بدّ من تقويم في الممارسة الليتورجيّة. لا بدّ من نزع الغبار المتراكم بسبب خطايانا لنصل مجدّدًا إلى قلب الحياة الليتورجيّة. لذلك، لا بدّ من إعادة تقييم العادات المفقودة (راجع ص 139 – 143). لا بدّ من تفعيل كلّ ما يمكّننا من "عيش" الليتورجيا بشكل حقيقيّ وإلّا انقلبت مظاهر فارغة وعادات متحجّرة تحجبنا عن الله بدل أن توصلنا إليه (ص 136). إنّها لمهمّة أوّليّة لأنّ "العالم يحاول إزالة كلّ شيء مقدّس، كلّ رمز، كلّ حسّ بالقدسيّة، لأنّه يحاول إزالة فكرة الله من الأرض. والروحانيّة الغربيّة العقلانيّة ساعدت بدون قصد في هذا الابتعاد عن الله. ونحن اليوم حين لا نعيش واقع طقوسنا نتأثّر بهذا التيّار العقلانيّ فننزع إلى التقليل من قيمة الطقوس والقول بالصلاة المختصرة والمجرّدة والاكتفاء بالصلاة الشخصيّة في البيت!... وهذه النزعة من شأنها، عاجلاً أم آجلاً، تحويل الله إلى إله أخلاق وحسب أو إله فكرة، وبالتالي إلى تفريغ الأرض من الله الحيّ، المعطى والمعاش" (ص 141 – 142).

توجد في الصفحات من 149 إلى 296 تأمّلات شخصيّة حول بعض الأعياد الليتورجيّة الكبيرة وحول والدة الإله. فبعد الحديث الطويل عن الحياة الليتورجيّة، نجد أمثلة عن صلوات وتأمّلات شخصيّة هي أكثر ما يحتاجه المؤمنون. يبدو لي أحيانًا أنّ الأهمّيّة البارزة التي توليها كنيستنا للصلوات الليتورجيّة قد تضعِف فينا، إن لم ننتبه، كلّ انبثاق للصلاة الشخصيّة. لذا فمن الضروريّ المحافظة على بعض من التوازن. يريد السيّد أن نخاطبه أيضًا بلغتنا العاديّة. وهو مستعدّ لسماع صراخنا وأنيننا وشكوانا كاستماعه لشكرنا. يجب أن نتعلّم كيف نتحدّث إليه مباشرة بدون "كلفة" في سرّ لقائنا. هذا ما علينا القيام به أيضًا مع إخوتنا خارج الخِدم الليتورجيّة. عندما نتغذّى من نصوص الكتاب المقدّس والليتورجيا، نعرف كيف ندخلها بشكل طبيعيّ إلى تأمّلنا الشخصيّ، كما يفعل الأب الياس في هذه النصوص بطريقة ممتازة.

ينتهي الكتاب بدراسة حول "الكتاب المقدّس وحياتنا الشخصيّة" (ص 313 – 328). تأتي هذه الدراسة في الوقت المناسب لتوضيح شيئًا من سوء التفاهم الذي يسود بعض أوساط الكنيسة في ما يتعلّق بمكانة الكتاب المقدّس. فيذكّرنا الأب الياس أنّ الآباء "لا يخشون المبالغة عند نعتهم الكتاب المقدّس بفردوس الحياة الأبديّة وينبوع الروح القدس وحقل الملكوت ذلك لأنّه يحمل إلينا الله. إنّه رسالة من الله إلى خليقته. هو أيقونة الله. الكتاب هو المسيح" (ص 314). ثمّ، وبدون التطرّق إلى أساليب ومناهج تفسير الكتاب المقدّس، يشير إلى مختلف مستويات قراءته بحسب تقدّم حياتنا الروحيّة. فمن القراءة التي تجعل النصّ مجرّد مدخل لاكتشاف الوجود "الحقيقيّ" لله فيه، يرشدنا إلى مراحل أخرى مختلفة لا بدّ أن نجتازها لنصل أخيرًا إلى لقاء "حقيقيّ" مع الكلمة يتعدّى النصوص والكلمات. ويختتم كلامه عن الكتاب المقدّس بالقول: "ولذلك يأتي وقت تترك النفس فيه الكتاب وتجد في إسم يسوع خلاصة الكتاب كلّه وزبدته. بل الكتاب المكتوب يصبح عبئًا وحاجزًا بين النفس والربّ يسوع: "يا ربّي يسوع المسيح إبن الله ارحمني أنا الخاطئ"، إنّه نزول العقل إلى صمت القلب للقاء ربّ الوجود. الكلام من هذا العالم، أمّا كلمة الله الحيّ فتُعلَن في الصمت الأزليّ فإذا طرحنا حقًّا كلّ اهتمام آخر، هناك في صميم قلبنا الصامت حيث صورة الله قائمة يشرق علينا نور وجهه" (ص 326).

ما من خاتمة أفضل لهذه المقدّمة. ولا دعوة أفضل من الاستقاء من هذا الكتاب "فتات المائدة" التي يشارك فيها الأب الياس.

"آمنوا بالنّور تصبحون أبناء النّور" (يو 16: 32).


المشاركات الشائعة