هل من شهادة غير الحياة؟

 

ريمون رزق

النور- العدد الثاني 2006


طلب إليّ أن أقدّم شهادة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. طبعًا ليس على إنسان، اكتشف نفسه مسيحيًّا وجاهد متقلّبًا كي يمسي مسيحيًّا، منذ أكثر من خمسين، في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وعبرها، أن يسطّر شهادة كهذه. مهما يكن من أمر، الشهادة المثلى هي تلك التي يؤدّيها الآخرون، لكن وحدها شهادة الله تبقى هي حقًّا المشروعة والأكثر قيمة.

يبدو لي أنّ التماس شهادة كهذه، يخفي وراءه رغبة مرضيّة في تبرير الوجود، وحاجة ماسّة إلى الاعتراف بالشرعيّة، وبحثًا لاشعوريًّا عن الهويّة ونيّة متعمّدة للإجابة عن كلّ الانتقادات، أو للمجادلة. والحالة هذه، هذا كلّه يصرف انتباهنا عن الجوهر. عندما نبغي، بأيّ ثمن كان، أن نثبت أنّنا على حقّ، ونستعين، في سبيل ذلك، بكلّ أساليب البلاغة الممكنة، نضيّع وقتًا ثمينًا يجدر بنا أن نخصّصه لمحاولة أن نكون شهودًا حقيقيّين لذاك الذي فيه يكمن رجاؤنا. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس إنّ كلّ كلمة وكلّ حجّة يمكن أن تقارعها حجّة أخرى، ويشدّد كذلك، وعن حقّ، على أنّ ما من شيء يمكنه أن يعارض الحياة ويتحدّاها. إذًا، دعونا لا نتلهّى ونزوغ عن الجوهر، ولنحاول المضيّ قدمًا على دروب الذي هو وحده الحقّ والحياة والطريق في الرجاء، وهكذا تزداد قدرتنا على الإقناع.

بالتأكيد، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة عرضة لانتقادات متعدّدة، هنا وثمّة. بعضها يصدر عن أوساط كنسيّة متنفّذة. هذه الانتقادات، وحتّى الجائر منها، حريّة بأن ينعم النظر إليها، وبأن تعتبر تذكيرًا بضرورة تقويم للذات وللخيارات، ولا يمكن لهذه الانتقادات إلّا أن تعود علينا بالخير والفائدة. من يسعى ماشيًا على خطى الربّ السيّد، ينبغي له أن يكون مستعدًّا، ليحتمل الخزي، ويحمل صليبه ليشارك في القيامة.

ما هو محقّ، من هذه الانتقادات، يجب أن يكون مدعاة للتوبة، وعلى هذه أن تكون علنيّة. شئنا أم أبينا، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تتحمّل مسؤوليّة الجزء الأكبر من هذه الانتقادات. ولا يمكن أن تسمح لنفسها بأن تكون حجر عثرة أو تضلّ أيًّا من شعب الله الذي وثق بها واطمأنّ إليها. يلزم الكثير من الشجاعة والخشوع والوداعة للاعتراف بالخطأ. ومهما قيل، فإنّ هذا الموقف له دلالة كبيرة في الأوساط الكنسيّة، حيث يسود، عادة، إرضاء ذاتيّ ساذج. وعلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أن تدفع بهذه الخطوة إلى الأمام، فتكون السبّاقة في تصويب ما قد يشوب صدق شهادتها.

بعض هذه الانتقادات يبدو، مع ذلك، أنّه يصدر عن إرادة لتعبئة أعضاء الكنيسة، للسلوك في طاعة عمياء وفق قالب موحّد، من دون احترام مواهب الروح القدس المتعدّدة. في هذا التوجّه، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تثير إزعاجًا لكونها تحمل، على محمل الجدّ، عهود المعموديّة ومسحة الميرون وشعلة العنصرة، وتؤمن بالوحدة ضمن التعدّد. هي مربِكة لأنّها، رغم عدم أهليّة أعضائها، تسعى إلى دعوة شبابها، ومن هم دونهم سنًّا، إلى التوبة واختبار القداسة، تلك المغامرة المجنونة، في عالم يخشى القدّيسين لكونهم يشوّشون هدوءه المزيّف وتأكيداته الملتوية. في حضن الكنيسة، حيث إعلان قداسة أشخاص راقدين ليس أولويّة، مع الاستثناء الوحيد المتمثّل بيوسف الدمشقيّ، لم تعرف الكنيسة منذ مئات السنين بقداسة أحد، ومغامرة القداسة المجنونة لا ينظر إليها بعين الرضى. كنيسة كهذه تميل أحيانًا إلى أن تقول لهؤلاء الذين يأبون أن ينقادوا انقيادًا أعمى: أطيعوا من دون تذمّر، احترموا القوانين والأعراف والأصول، نفّذوا ما نأمركم به ولا تعكّروا الصفو القائم، تصرّفوا عن حقّ لتكونوا نظاميّين. في هذه الحال، كلّ من يتصرّف على هذا النحو ينسى أنّ يسوع له متطلّبات مغايرة، وأنّ روحه يهبّ حيث يشاء، وبالنسبة إليه كلّ واحد منّا فريد، ويدعونا جميعًا لنكون شهودًا له.

القدّيس سيرافيم ساروفسكي يقول إنّ ما من إنسان يخلص وحده، وكلّنا مسؤولون بعضنا عن بعض، لكوننا ننتمي إلى "جسد" واحد. ولا يكفي إذًا أن نعمل على خلاص أنفسنا فقط، من دون أن نحمل همّ الآخر والكنيسة. حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، منذ نشأتها، تحثّنا دومًا على البحث عن يسوع، في كلّ أماكن وجوده: في الصلاة وتأمّل كلمته، في المشاركة بأسراره الطاهرة والمقدّسة، في اكتساب روح قدسه والصوم لارتقاب مجيئه، والاقتداء بحياته في الجدّيّة والرحمة وبذل الذات. هذا كلّه حسن وضروريّ وخلاصيّ. لكنّه لا يعطي ثماره إلّا في تلاق محبّ مع يسوع في كلّ ما ومن يحبّه هو، وحيث اختار أن يجعل مسكنه. هذه هي الناحية الثانية من التعليم الذي تنقله حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. وهذا يعني تجدّدًا شخصيًّا في كلّ لحظة، وإعادة ولادة، واهتداء، وفي الوقت عينه، هذا يدعو إلى العمل على تجدّد الكنيسة وأعضائها وبنيتها المؤسّساتيّة حتّى تبقى على الدوام نقيّة من دون عيب أو غضن، وحتّى تستطيع أن تحيا منبعثة من ينبوع شبابها الأبديّ.

تكمن دعوة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، فعلاً، في هذا النداء المزدوج. وكلّما بقيت أمينة له كلّما توصّلت، لكونها كالخمير في العجين وكالخادم، إلى أن تجعل من كلّ شعب الله، من كلّ رعيّة وكلّ مؤسّسة كنسيّة، مكانًا لا يستحي به يسوع، مطرحًا يسوده الوفاق والاحترام والتناغم والتعاضد الأخويّ، مكانًا ليس كغيره، حيث الفقراء أمراء والذئاب ترعى مع الحملان، فتستعيد الكنيسة، عندئذ، دورها كضمير العالم. وعوض الاسترسال في الخطب والوعظ، تستطيع الكنيسة، ساعتئذٍ، أن تجيب، من دون خجل أو تردّد، عن كلّ سؤال حول إيمانها وعن سبب محبّة أعضائها بعضهم بعضًا، فتقول: "تعال وانظر". تعال وتحقّق من أنّ حياتنا في المسيح قد جعلت منّا أشخاصًا مختلفين، أشخاصًا يتحابّون ويستعدّون دومًا، على غرار السيّد، لغسل أرجل بعضهم بعض.

وبدل أن نهدر الوقت في تراشق الانتقادات، لنفتح معًا، إكليروس وعلمانيّين، في كنف أساقفتنا، ورشة الإصلاح الكبرى التي طال انتظارها في كنيسة أنطاكية.

الوقت صعب وضيّق، فالله يقرع أبوابنا، أبواب قلوبنا وكنائسنا. فهل نردّ الجواب؟ نكون شهودًا فقط إذا تمتّعنا بالأهليّة وكنّا خليقين.

 

المشاركات الشائعة