المسيحيّون السوسيولوجيّون والنهضة في الكنيسة

ريمون رزق

النور- العدد الثامن 2013

ترجمة من الفرنسيّة وإعداد

لفت انتباهي مقالاً لجونغ أو نام، وهو دكتور في اللاهوت، وأستاذ العمل التبشيريّ في معهد سيول التابع للكنيسة المجمعيّة، نُشر في مجلّة معهد جان كالفان اللاهوتيّة، فقرّرت أن أنقله إلى العربيّة بتصرّف. مع كونه مكتوبًا من منظار بروتستانتيّ، يحاكي واقعنا الأرثوذكسيّ الراهن، ويلفت انتباهنا إلى أمور قلّما نتوقّف عندها، إذ نميل دومًا إلى الاعتقاد أن "كلّ شيء على ما يُرام" في أوضاع كنيستنا والبشارة التي تقوم بها.

مقدّمة

يشكّل تزايد عدد المسيحيّين السوسيولوجيّين، أي الذين ليس لهم من المسيحيّة سوى الاسم، أحد أهم التحدّيات والأخطار التي تواجه العمل الرعائيّ والبشارة في القرن الواحد والعشرين. يعلّمنا التاريخ أنّ الأشخاص الذين يعرفون يسوع ثمّ يتركوه، أو الذين يعرفون الكنيسة بدون أن يشتركوا في خدمهم، هؤلاء جميعًا يصيرون أعداء المسيحيّة، ويشكّلون خطرًا على البشارة المسيحيّة، أهم من الخطر الآتي من غير المسيحيّين. إن لم نأخذ بالحسبان بجدّيّة حقيقة واقع المسيحيّة "الإسميّة"، سيواجهنا القرن الحادي والعشرين بثورة تهدّد وجودنا، كما فعلت الثورة البولشيفيّة في روسيّا سنة 1917، إذ كان من بين مطلقيها مسيحيّون "إسميّون" أمثال ستالين...

على كنيسة اليوم ألاّ تكتفي بتنصير غير المسيحيّين، بل عليها أن تهتمّ بهؤلاء المسيحيّين "الإسميّين"، "لألاّ نضلّ" (عبرانيّين 2: 1)، ولكي "لا يكون من بينكم مَن له قلب شرّير غير مؤمن فيرتدّ عن الله الحيّ" (عبرانيّين 3: 12)، ولكي " نَخافَ من أن يحسب أحد نفسه متأخّرًا" (عبرانيّين 4: 1).

مَن هو المسيحيّ السوسيولوجيّ؟

المسيحيّ السوسيولوجيّ هو إنسان ليس له من المسيحيّة سوى الاسم. إنّه أنسانًا لا يشارك بانتظام في الحياة الليتورجيّة، بل يدخل فقط الكنيسة لدى عماد أحد الأطفال، أو أثناء خدمة زواج أو جنازة، وهم طقوس لا يمكن الهرب منها في مجتمع مسيحيّ.

هناك طرق مختلفة ليكون المسيحيّ سوسيولوجيّ. يعتبر نفسه مسيحيّ، وكذلك يعتبره الآخرون. لكن تنقصه الأمور المهمّة الثلاثة التالية: القناعة أنّ يسوع المسيح هو "ربّي وإلهي"، حضور منظّم أثناء الخدم ومساهمة إيجابيّة في النشاطات المسيحيّة (بشارة، خدمة اجتماعيّة، تعليم).

مشكلة المسيحيّين "الإسميّين" حضرت في الكنيسة الأولى. ذكرهم يسوع عندما قال: "كيف تدعوني يا ربّ، يا ربّ، ولا تعملون بما أقول؟" (لوقا 6: 46)". وتكلّم عنهم بولس الرسول عندما أشار إلى "الذين متمسّكين بقشور التقوى، رافضين جوهرها (2 تيموثاوس 3: 5). ويأتي صاحب الرؤية أيضًا على ذكرهم، قائلاً: "أنا أعرف أعمالك. أنت حيّ بالاسم مع أنّك ميت" (رؤية 3: 1).

يظهر التعلّق "الاسميّ" بالدين بأشكال مختلفة في الكتاب المقدّس ويتغيّر بموجب البلاد والمناطق والعلاقات القائمة بين المجتمع والكنيسة.

تزايد عدد المسيحيّين السوسيولوجيّين ظاهرة عالميّة

لا نجد هذه الظاهرة فقط في المجتمعات الغربيّة. وليست مرتبطة بلاهوت ليبيراليّ. بيّنت دراسة أُجرين سنة 1995 أنّ نسبة المسيحيّين السوسيولوجيّين تمثّل 44% من مجمل مسيحيّ العالم، أيّ سبعماية مليون من أصل مليار وستماية مليون مسيحيّ. يبيّن الجدول التالي تغيّر هذه النسبة بموجب المناطق:

جدول نسب المسيحيّين الإسميّين مناطقيًّا

 

نسبة المسيبحيّين الإسميّين إلى مجمل المسيحيّين

عدد المسيحيّين "الإسميّين"

عدد المسيحيّين الممارسين

نسبة المسيحيّين إلى مجمل السكّان

عدد المسيحيّين الإجمالي

القارة

51%

124900000

118800000

33%

243700000

أفريقيا

39%

135600000

210300000

76%

345900000

أميركا الشماليّة

38%

116000000

192100000

96%

308100000

أميريكا الجنوبيّة

48%

125200000

137500000

8%

262700000

آسيا

44%

193000000

241900000

60%

434900000

أوروبّا

53%

10000000

8700000

65%

18700000

أوسترالازيا

44%

704700000

909300000

28%

1614000000

المجموع

فنلاحظ مثلاً أنّ نسبة المسيحيّين السوسيولوجيّين، في أميركا الجنوبيّة حيث يبلغ عدد المسيحيّين 96% من مجمل عدد السكّان، تقارب 38%. وفي أميركا الشماليّة، النسب هي 76% و61%. وفي أوروبّا هي 60% و44%. وفي آسيا هي 48% وفقط 8%. نلاحظ أنّ نسبة مجمل المسيحيّين السوسيولوجيّين (44%) تعادل النسبة الأوروبيّة. ونلاحظ أيضًا أنّ 27% من المسيحيّين "الاسميّين" موجودين في أوروبّا.

تدل هذه الإحصاءات بوضوح أنّ مشكلة المسيحيّة الإسميّة لم تعد محصورة في الغرب المسيحيّ، بل هي موجودة بكثرة في أفريقيا(51%)، وآسيا (48%)، وأوسترالازيا (53%).

أمّا إذا توقّفنا عند الانتمائات المذهبيّة تبين هذه الدراسة أنّ أكثر من نصف المسيحيّين السوسيولوجيّين ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكيّة، يأتي بعدهم الأرثوذكيّين، فالانكليكان، فاللوثيريّين، إلخ. إيّاكم جدولة هذه المعطيات:

جدول نسبة الممارسين إلى الاسميّين

 

نسبة الممارسين إلى الإسميّين

نسبة الممارسين إلى مجمل المسيحيّين

عدد المسيحيّين الإسميّين

عدد المسيحيّين الممارسين

نسبة المسيحيّين إلى مجمل سكان الأرض

عدد المسيحيّين

الانتماء المذهبيّ

80%

6%

42600000

10600000

1%

53200000

الأسقفيّون

40%

4%

26700000

40400000

1%

67100000

المعمدانيّون

40%

52%

369200000

543400000

16%

912600000

الكاثوليك

50%

3%

17700000

17500000

أقل من 1%

35200000

القبليّون

38%

5%

32300000

52200000

2%

84500000

اللوثيريّون

42%

1%

10700000

14900000

أقل من 1%

25600000

الميثوديّون

34%

7%

47600000

91900000

2%

139500000

الأرثوذكسيّون

54%

8%

57400000

48400000

2%

105800000

البنتيكوستيّون

51%

3%

24600000

23400000

1%

48000000

المجمعيّون

53%

11%

75900000

66600000

2%

142500000

غيرهم

44%

100%

704700000

909300000

28%

1614000000

المجموع


معظم المسيحيّين الاسميّين لدى الأنكليكان واللوثيريّين والأرثوذكسيّين موجودون في أوروبّا. وهم في أميركا الشماليّة بالنسبة إلى المعمدانيّين. أمّا الكاثوليك الإسميّين فموجودون في سائر العالم.

كيف يحدّد المسيحيّ الاسميّ؟

ليس من السهل التميّيز بين المسيحيّ السوسيولوجيّ والمسيحيّ الممارس، إذ يختلف المعيار بموجب المنظار المتّخذ. يقترح بعض سوسيولوجيّي الأديان المعايير الخمسة التالية: الإيمان، النشاط الدينيّ (الممارسة، التكريس الشخصيّ)، معرفة أسس الإيمان، الخبرة الذاتيّة مع الله والحياة اليوميّة بموجب الإيمان. لا بدّ من توضيح مضمون كلّ من هذه المعايير. فمثلاً إن نظرنا إلى المعيار الثالث، أيّ معرفة أسس الإيمان، فما هي درجة هذه المعرفة لكي لا يصنّف الإنسان بين المسيحيّين الاسميّين؟ أتكفي معرفة الصلاة الربّيّة؟ أو يجب معرفة أيضًا دستور الإيمان والوصايا العشرة؟ كما نلاحظ يصعب التحديد والفصل. أضف إلى ذلك إمكانيّة اللجوء إلى نمط شرعويّ وقانونيّ جاف، بما أن التقييم يرتكز على مواقف خارجيّة وإحصائيّات. فلنستعرض كلاً من هذه المعايير الخمسة.

1- الإيمان: يقترح أحد الأخصائيّين في علم المجتمعات الدينيّة التميّيز بين المحور والحدود. ينطبق مفهوم الحدود على الوضع الغربيّ، إذ يميّز الناس بين فئة تقيم داخل حدّ ما والذين يقيمون خارجه. أمّا الحدّ الفاصل فهو معيار العقيدة والأخلاق المسيحيّة. إن كان المرء خارجًا عنها يكون مسيحيّا سوسيولوجيًّأ.

أمّا مفهوم المحور فيميّز بين المسيحيّين بموجب الأسئلة التالية: ما هي صلة المسيحيّ مع الأمور الأساسيّة؟ هل هو في صلب المحور؟ كيف تطوّر بالنسبة إليه؟ ÷ل هو في طور الاقتراب منه؟ أو الابتعاد عنه؟ المهم من هذا المنظار الاتّجاه الذي يتّخذه الإنسان، لا المسافة. التوبة هي تغيّير في الاتّجاه. متى نباشر الكيان ضدّ المسيح، أو على العكس من ذلك، متى نتّجه نحوه؟ لا تهم المسافة التي تفصلنا عنه. المهمّ هو الاتّجاه الذي نسير فيه بالنسبة إليه.

2- الانخراط في حياة الكنيسة: هذا هو المعيار الأكثر استعمالاً، إذ يخصّ العلاقة بين الإيمان والحضور. هناك مستويات ثلاثة تميّر هذا الانخراط.

 آ- الإنسان مسجّل لدى الكنيسة لكنّه لا يشترك بخدمها الطقسيّة

 

تلاحظ هذه الظاهرة خاصّة في أوروبّا وفي البلدان ذات التقليد المسيحيّ. تلاحظ أقلّ في الولايات المتّحدة. يمكن للأرثوذكسيّين أيضًا أن يكونوا مسجّلين في الكنيسة (إن كان فيها من تسجيل، أو في بلادنا إن اعتُبروا أرثوذكسيّينا أبًا عن جدّ) بدون أن يُمارسوا. في البلاد الإسكندنافية حيث معظم المسيحيّين ينتمون إلى الكنيسة اللوثاريّة، 85% منهم يٌعمّدون أطفالاً، لكن فقط نحو 5% يمارسون. هذه النسب تنطبق أيضًا على كاثوليك إيرلاندا على الروس الأرثوذكس. أمّا الكاثوليك عامّة والأنكليكان ف50% منهم فقط يمارسون معموديّة الأطفال.

أمّا أسباب عدد الممارسة فهي عادة التالية: الخدمة طويلة ومملّة ولا تلائم لغة العصر، عدم رضى على الإكليروس، البعد الكبير بين أعضاء الإكليروس والمؤمنين بالنسبة إلى الأهداف اللاهوتيّة والاجتماعيّة، افتقاد الترحاب الكافي، أسباب عائليّة.

ب- الإنسان مسجّل لدى الكنيسة لكنّه لا يؤمن

أو بالأحرى له نظرته الخاصّة لمضمون الإيمان. ففي سبعينيّات القرن الماضي انتشر ما سُمّي بلاهوت "موت الله" الذي رفض ألوهيّة المسيح وحتّى حقيقة وجود يسوع التاريخيّ، كما تصوّه الأناجيل. وأثّر هذا اللاهوت على الموقف من أمور مناقبيّة، أمثال قبول الإجهاض، والموت الهنيء وحريّة العلاقات الجنسيّة. فاراد البعض إيجاد دين جديد مبتعد عن كلّ ما يشير إلى المعجزات والماورائيّات. لكنّ هذا النمط الفكريّ كاد أن يختفي في أيّامنا. يبقى أن ثلثي المسيحيّين تقريبًا يؤمنون بالعقائد المسيحيّة الأساسيّة المتمحورة حول الإله الآب الخالق، وابنه المسيح الذي تجسّد من أجل خلاصنا، والروح القدس الذي يؤكد لنا الثالوث القدّوس الذي هو نموذج الوحدة في المحبّة. أمّا الثلث الباقي، فيتكيّف مع ما يختاره من الإيمان المسيحيّ وينكر الباقي.

ج- الإنسان غير مسجّل في الكنيسة، لكنّه مؤمن

يعتقد الباحثون أنّ الأشخاص الذين تركوا كنيسة ما بالرغم من بقائهم على الإيمان يشكّلون مشكلة الكنيسة الكبرى في أيّامنا لأنّ اعدادهم تتكاثر باطراد. تتّخذ الكنيسة تجاههم مواقف مختلفة: أو تتجاهلهم أو تسعى إلى استرجاعهم بإصلاح التصرّفات التي أبعدتهم عنها.

الانتماء "الاسمي" في تاريخ الكنيسة

يبرز هذا النوع من الانتماء في أيّام قسطنطين في القرن الرابع. قبله كان من الصعوبة بمكان أن يتعمّد الإنسان قبل المرور بمرحلة الموعوظيّة الطويلة، في زمن كانت حياة المسيحيّين معرّضة للاضطهاد. أمّا بعده صار من الصعب على المرء أن يرفض المعموديّة المرادة من قبل السلطات.

مع حصولها على الحريّة، وتعميد الشعوب شبه قسريًّا، بدأت الكنيسة تنزلق في العالم وتفقد النمط الجماعي الأخويّ الذي اتّسمت به قبلاً، حيث لم ينطوي في صفوفها سوى مسيحيّون ملتزمون. يشتكي باسيليوس الكبير من ضعف التهيئة للمعموديّة والاقبال على الكهنوت سعيًا وراء الامتيازات التي أخذ يتمتّع بها. إذّ ذاك اندرج في صفوف الكنيسة أناس أتوا إليها ليس نتيجة إيمان بل مصالح. بعد قسطنطين إذًا يمكن التفرقة بين المسيحيّين الحقيقيّين الملتزمين والمسيحيّين السوسيولوجيّين، وقد استمر الوضع حتّى أيّامنا.

الانتماء "الاسميّ" في الكتاب المقدّس

ذكرنا في مستهل المقال نصوصًا من العهد الجديد التي تبيّن أن بوادر الانتماء الاسميّ كانت تبرز هنا وهناك في الجماعات الرسوليّة، وكان ينبّه الرسل من خطورتها ويدعون إلى تجاوزها.

هناك ستّة أنواع انتماء إسمي في الكتاب:

آ- مثال لوط، أو الانتماء الاسميّ بين الأهل

عاش لوط في عائلة مؤمنة. ساعده أهله. لكنّه لم يشاركهم اعتقاداتهم، إذ ينتمي إلى عائلة ابراهيم. يؤمن بالله لكنّ تنقصه حميّة الإيمان. أمضى طفولته في مدينة أور الكنعانيّة العظيمة. عاش مع ابراهيم، لكنّه لم يتحرّر من عقليّته الكلدانيّة. بعد أن ترك ابراهيم سحرته حياة مدينتي سدوم وعامورا وعاش فيها حياة "دهريّة" الطابع. عندما هّدمت سدوم نجى لوط، لكنّ زوجته صارت عمود ملح (التكوين 19، لوقا 17:32). بعد نجاته دخل في علاقة محرّمة مع بناته. لوط هو مثال لانتماء اسميّ بسبب ضعف شخصيّته.

ب- مثال عيسو أو الانتماء الاسميّ ضمن العائلة

جدّ عيسو هو ابراهيم، وأبوه اسحق. ولد في عائلة مؤمنة. كان يحظى بالأفضليّة عند أبيه، بينما كانت أمّه رفقة تفضّل أخاه يعقوب. فغار وامتلىء قلبه بغضة تجاه أخيه (التكوين 25 و27). كما تقول الرسالة إلى العبرانيّين، بيعه للحق المنوط ببكريّته، يرمز إلى فقدان الرجاء كلّيًّا (عبرانيّين 12: 16-17). ثمّ بعد ابتعاده عن عائلته، تزوّج من امرأة أمميّة حثّيّة وكان أب الأدوميّين الذين عادوا إسرائيل. فعيسو هو مثال لانتماء اسميّ ناتج عن سوء في التوجيه في تربيته.

ج- مثال شاول او الانتماء الاسميّ الناتج عن السلطة

هو ابن قيش من قبيلة بنيامين، وكان طويل القامة وقويّ البنية (1 صموئيل 9-31). وبعد أن صار ملكًا على إسرائيل وانتصر على عدد من أعدائه، أثار غضب الله وصموئيل لتصرّفه بحماقة (1 صموئيل 13: 8-14)، ومخالفته الأصول المتّبعة، وحسده من داود، وسعيه لقتله (1 صموئيل 18: 10، 22: 10-18). وبعد أن اختار الشعب داود ملكًا مكانه، خسر أولاده الثلاثة وقتل نفسه (الإصحاح 31). فشاول هو مثال لانتماء اسميّ لافتقاد رضى الله.

د- مثال يهوّذا الاسخريوطيّ  أو الانتماء الاسمي بين التلاميذ

سلّم يهوّذا يسوع بعد أن كان مسؤولاً عن ماليّة التلاميذ. كان يسوع قد اختار على غرار باقي الرسل، ودعاه مرارًا أن يكون أمينًا له. لكنّه لم يسمع. عاش مع يسوع بدون الدخول في شركة روحيّة معه (رومية 8: 9-10). وانتهى إلى قتل نفسه، ندمًا عمّا فعله. فيهوّذا هو مثال لانتماء اسميّ لمسؤول في الكنيسة افتقد إلى التوبة الحقيقيّة.

ه- مثال سمعان الساحر أو الانتماء الاسميّ الناتج عن الهيئة والشكل

يقول سفر أعمال الرسل إنّه كان مسيحيًّا يريد التقدّم بأيّ ثمن. تأثّر بفيليبّوس وتبع بطرس ويوحنّا في أورشليم، لكنّ همّه الحقيقيّ كان مغايرًا لهمّهم. فأراد أن يشتري القدرة التي يعطيها الروح القدس بوضع أيدي الرسل (أعمال 8: 19). لا تهمّه المسيحيّة بل منفعته الخاصّة. سمعان هو مثال لانتماء اسميّ نجد نمازج أخرى عنه في الكنيسة الأولى (مثلاً الزوجين الذين باعا ملكًا لهما وكذبا على الرسل عن سعره الحقيقيّ بغية الربح).

و- مثال نيقوديموس أو الانتماء الاسميّ الذي يخاف عن إعلان إيمانه 

هو تلميذ ليسوع، لكن وضعه الاجتماعيّ العاليّ يجعله يخفي تلمذته هذه. وهكذا كان يوسف الراميّ. هما أثرياء، يتمتّعون بمناصب مهمّة. نيقوديموس اعترف أنّ يسوع أتى من قبل الله (يوحنّا 3: 2)، لكن يخشى أن يلتقي به في وسط النهار. يوسف هو عضو بارز في مجلس اليهود. هو تقيّ وصالح (لوقا 23: 50)، وكان ينتظر مجيء الملكوت (مرقس 15: 43). لم يشترك بقرارات المجلس ضدّ يسوع، لكنّه صمت. لم يتجرّؤا السير مع يسوع في حياته، خوفًا، واكتفوا ببكائه بعد موته. إنّهما يمثّلان الانتماء الاسميّ الناتج عن تبكيت الضمير المذنب. إنّهما كذلك لأنّهما "كانوا يحبّون رضى الناس أكثر من رضى الله" (يوحنّا 12: 43). اعتبرا أن كرامتهما وصيتهما أهم من يسوع، فلم يُعلنا إيمانهما به أمام الجمع، ولم يكونا مع التلاميذ في العلّيّة. لا علاقة لهما حميمة مع يسوع. لهما فقط علاقة بجثمانه. يمكن اعتبار بيلاطس البنطيّ من بين هذه الفئة من الانتماء الاسميّ إذ احترم يسوع لكنّه خاف من الإمبراطور الرومانيّ أكثر من الله.

أنماط الانتماء السوسيولوجيّ  لدى المسيحيّين    

هناك ثمانية أنماط للذين يدّعون أنّهم مسيحيّين لكنّهم يكتفون بالمظهر دون الولوج إلى الأعماق.

 آ- المسيحيّون بموجب انتمائهم العرقيّ أو الدينيّ

الانتماء إلى العرق أو القبيلة يفوق انتمائهم الشخصيّ إلى المسيحيّة. فمثلاً يعتبر روسيّ لا يمارس أنّه أرثوذكسيّ لمجرّد كونه روسيّ. وكذلك يعتبر الإنكليزيّ نفسه عضوًا في الكنيسة الأنكليكانيّة لمجرّد انتمائه إلى الأمّة الإنكليزيّة.

ب- المسيحيّون من الجيل الثاني

يُعتبرون أنّهم يتبعون إيمان والديهم، وإذًا أعضاء في الكنيسة من جرّاء عضويّة أهلهم.

ج- المسيحيّون الشكليّون

هؤلاء يشتركون بالمناسبات ( أعياد الفصح أو الميلاد، زواج، جنّاز، إلخ) بدون أن يكون لهم ضرورة إيمان بالعقيدة المسيحيّة.

د- المسيحيّون التلفيقيّون

يعتبر البعض أنّهم مسيحيّون لأنّهم يجدون في الدين المسيحيّ قيمًا سامية مثلاً، دون أن يمنعهم ذلك من الاعتراف أيضًا أنّ كونفوشيوس أو بودا يفتحان السبيل إلى الله.

ه- المسيحيّون المتعبون

يتعب هؤلاء كثيرًا في العمل الكنسيّ والمشاريع المسيحيّة إلى حدّ يقعون في نشاطيّة مفرطة. فتفوح منهم رائحة الدهريّة أكثر من أريج المسيح.

ز- المسيحيّون الذين يجدون في المسيحيّة تسلية وهواية

يعطي هؤلاء الأوّليّة للمظاهر الخارجيّة والنشاط أو حتّى جمال الخِدَم بدل الإيمان بحدّ ذاته. يذهبون إلى الكنيسة كما تذهب الناس إلى ينبوع ماء معدنيّة، وينقطعون عن الذهاب عندما يحدث تغيّيرًا في وضعهم الحياتيّ.

ح- المسيحيّون المرتهَنون

لا ينسجم هؤلاء مع الكنيسة ثقافيًّا واجتماعيًّا. فإذا انتقلوا من الريف إلى المدينة يصيرون مسيحيّين سوسيولوجيّين لأنّهم لا يجدوا جماعة تستقبلهم وتحيطهم كما كانت الحال في مكان سكناهم الأوّل.

ط- المسيحيّون المجروحون

هم أشخاص تعثّروا من مواقف بعض المسيحيّين القيّمين على الرعيّة، أو تصرّفاتهم غير الأخلاقيّة، أو أقوالهم المثيرة إلى الجدل. فيختارون الابتعاد عن مصادر العثرة.

لماذا يتزايد عدد المسيحيّين الاسميّين؟

هناك أسباب ثلاثة تشجع الناس إلى اتّخاذ هذه المواقف، هي: وضع المجتمع: التأثير الاجتماعيّ، الدهريّة، اللا مبالاة، وضع الكنيسة: تساؤلات حول روحا نيّتها وأوضاع المؤسّسة فيها، والوضع الشخصيّ.

آ- المجتمع

تغيّر العالم جذريًّا في القرنين الأخيرين، وتحوّلت أنماط عيشة الناس. سادت المجتمع نظريّات إلحاديّة، مرتكزة على الماديّات والعلم، وشجعت ابتعاد الناس عن الإيمان والقبول بتلفيقيّة فكريّة. زالت الحدود بين العلم والدين بعد تسعينات القرن الماضي، وأخذ الدين بالتراجع، وتحوّلت المواقف تجاه ما كان يُعتبر "مقدّس"، وصار العقل المرجعيّة الفضلى الذي يرتكز عليها الإنسان المعاصر. بالنسبة لكثيرين، صار الإيمان  موقفًا منفتحًا على كلّ  ما هو متسامي وروحيّ، بدون أن يرتبط هذا الانفتاح ضرورة باستقامة المعتقد. ومن البديهيّ أنّ القيم التي تروّج لها مدنيّة بعد الحداثة، من التشجيع على الاستهلاك بدون حدود، والفردانيّة، ورغبة السلطة والتملّك، وثقافة التواصل الإلكتروني التي تمنع التواصل الكياني والشخصي، وغيرها من المواقف المناقبيّة، تخالف القيم التقليديّة في المسيحيّة التي تشجّع الحس الجماعيّ، والانفتاح المحبّ على الآخر، والتوبة وضبط النفس والتخلّق بالفضائل، امتثالاً بالربّ يسوع.

ب- الكنيسة

يزداد الانتماء الشكليّ والاسميّ كلّما كانت الكنيسة في حالة ضيعان ومأسسة. فبدل أن تتكلّم بلغة الإنجيل وقيمه تتماشى مع روح العالم وتسايره. فلا يعود الناس يميّزون بين الخير والشرّ ويلجئون إلى اللا مبالاة، ويتعوّدون الابتعاد عن القرارات الحياتيّة الصعبة. فتكون في هذه الحال الكنيسة مسؤولة عن ابتعادهم، لأنّها:

لم تعد ترشدهم إلى تقبّل الإنجيل في قدرة الروح القدس

لم تعد تعيش بموجب الكتاب والتقليد الشريف وأوّليتهما

لم تعد تميّز بين كلمة الله والأمور الشرعويّة

لم تنجح في خلق جماعات محبّة خادمة

لم تعد خدمها تُفهم من الناس

لا تسود الشورى علاقاتها ولتّخاذ قراراتها

لا تهتم بما فيه الكفاية بهموم الناس، ولا تسعى لإيجاد حلول لمشاكلهم.

الأمانة للكنيسة تخفّ وتتقلّص. يعتبر المؤمنون أنّها لم تعد كنيستهم. يضجر البعض أثناء الخدم. تضعف الروح الجماعيّة، كما الشعور بالأخوّة. وعندما يأخذ المسؤولين قرارات مهمّة بدون الرجوع إلى المؤمنين، يشعر هؤلاء أنّهم مهمّشون. وعندما يأخذ الرجال قرارات بدون استشارة النساء تشعر النساء أنّ حقوقهم مهضومة. هناك هوة بين القيّمين على الكنيسة والشعب، تميل إلى التعاظم. لذلك الكنيسة مسؤولة عن تزايد عدد المسيحيّين الاسميّين.

ج-  الشخص

تبيّن بعض الدراسات أنّ ترك الكنيسة يعود إلى أسباب عدّة، أهمّها:

عدم الارتياح فيها وفقدان الثقة في أوضاعها (28%)، تغيّير البيئة الحاضنة (تبديل منزل، طلاق، مرض) (26%)، فقدان الإيمان (23%)، تغيّير في الوضع الاجتماعيّ (11%)، اختلاف  بين الإيمان الشخصيّ ومواقف الكنيسة (8%).

تبيّن الإحصائيّات أيضًا أنّ ثلاثة أرباع المسيحيّين الذين يتركون الكنيسة لا يزالون يؤمنون بالله، وبقدرة الصلاة، والتجسّد والخلاص على الصليب. ويلجأ الكثير بينهم إلى الإنجيل الذي هو النبع الذي توصل مياهه قساطل قديمة، لا يعود الناس يستعملونها بل يقبلون مباشرة لاستقاء الماء من المصدر.

كيف يواجه الانتماء الاسميّ؟

على الكنيسة أوّلاً أن تعي التحوّلات التي عاشها العالم مؤخّرًا، وأن تكيّف برامجها التعليميّة والصلاتيّة معها. في عالم يختبر تفكّك العائلة التقليديّة، وشعور الناس أكثر في أكثر بالعزلة، على الكنيسة أن تكون بديلا يجد فيها الناس أخوة وجو عائليّ متعاضد، يعوّض عمّا فقدوه ويؤسّس لنموذج جديد قديم للحياة في المجتمع مبنيًّا على الشركة والتواصل المحبّ. على الكنيسة أيضًا أن تسعى لمعرفة الأسباب التي أدّت إلى واقع الثقافة الحاضرة، ومدى مسؤوليّتها التاريخيّة في نشأتها. كما عليها أن تجد اللغة التي يفهمها أتباع الثقافة العالميّة الجارفة، وألاّ تترك خارج رعايتها أيّ إنسان لسبب تباين في الثقافة أو العمر أو العرق أو العوائق الجسديّة والعقليّة، والأسباب  الاقتصاديّة.

التبدّلات الحاصلة في العالم تؤثّر خاصّة على الأولاد والشبيبة. 65% من الشباب المسيحيّ يترك الكنيسة قبل بلوغهم سن الرشد. تقول بعض الإحصائيّات إنّه بين 1993 و1995، انخفض عدد الفئة العمريّة بين 5 و29 سنة بنسبة تقل على الواحد بالماية، بينما انخفض عدد المؤمنين فيها بنسبة 3%. لا بدّ من ابتكار برامج وأساليب تواصل جديدة مع هؤلاء لكي نساعدهم كي يصيروا مسيحيّين راشدين، مترسّخين في الإيمان بيسوع المسيح وكنيسته، إذ هم بدرجة كبيرة مستقبل هذه الكنيسة، بالمنظار الإنسانيّ.

على الكنيسة أن تسهر على تهيئة المسؤولين فيها، إذ هم الخميرة التي تحرّمك العجنة كلّها. هي بحاجة لأناس ملهَمين لكي يكونوا ملهِمين.

حقيقة الانتماء السوسيولوجيّ يقتضي أن تُقدم الكنيسة على النهضة والتجدّد. يقول أحدهم: "لا يعني التجدّد أو النهضة أن يتجدّد كلّ شيء، بل يعني العودة إلى الذات، وإلى أسس الإنجيل وحياة الكنيسة الأولى". التجديد هو إذًا عودة إلى الأسس في إطار تحوّل، مع أخذ بالاعتبار كيف تحوّل، وكيف يجب محاكاته.

ذكرنا سابقًا ستّة نمازج للانتماء الاسمي في الكتاب المقدّس. على القيّمين على الخدمة في الكنيسة أن يسلّطوا أنظارهم عليها ويتّخذوا القرارات الكفيلة بمعالجتها، وذلك:

برعاية خاصّة بالأولاد داخل العائلات المؤمنة حيث تجربة الانتماء الاسمي حاضرة (مثل لوط)

السهر على حسن تعليم الشباب داخا العائلات المؤمنة لكي لا تتجدّد  التجربة التي مرّ بها عيسو

التشجيع على التواضع والطاعة والاستقامة، خاصّة لدى المسؤولين في الرعايا، لكي نتفادى ما عاشه شاول

الانتباه إلى القيادة الكنسيّة كي لا تحتوي أمثال يهوّذا

التصدّي للمؤمنين الذين يسعون إلى استعمال الجماعة الكنسيّة لأغراضهم الخاصّة، كما فعل بطرس مع سمعان الساحر، وأجبره على التوبة

الانتباه إلى أمثال نيقوديموس الذين يخافون الناس أكثر من الله بتلقينهم أسس التلمذة على يسوع المسيح.

وهذا العمل الدؤوب يتطلّب

أن نصلّي من أجل المسيحيّين الذين تركوا الكنيسة

أن يفحص المؤمنون والمسؤولون في الكنيسة ضميرهم، ويبقوه حيًّا

أن نتحوّل، إذ بتحوّلنا تتحوّل المؤسّسة في الكنيسة وتتجدّد

أن نخلق جماعات إفخارستيّة حيّة، محبّة وخادمة

أن نتواصل مع الجميع سعيًا وراء إيجاد لغة المخاطبة والحوار الأفضل معهم.

ليست الحياة المسيحيّة سهلة إذ  تفترض التزامًا شخصيّ وروحيّ. وليس التبشير ونقل البشارة أمرين سهلين. لا يحصلان مرّو واحدة، بل يجب زرع بذار شخص يسوع المسيح الإلهي في النفوس لكي تنمو في معرفته. وكما يطلب منّا الكتاب المقدّس، علينا أن نطوّر يوماً بعد يوم

حياة التسبيح ومعرفة الله

حياة تواصل مع جسد المسيح

والاهتمام بخدمتنا في العالم.


المشاركات الشائعة