تطلّعات نهضويّة

 ريمون رزق

النور - العدد الثاني 1983


حفنة من الشباب، يقيمون في الديار الأنطاكيّة، التهبت قلوبهم عشقًا للربّ وسكروا بحبّ المخلّص فجنّدوا أنفسهم للخدمة، صارخين من الأعماق أن أعيدوا إلى الكنيسة مجدها، أعيدوا إليها صفاءها، أعيدوها طاهرة ترنو إلى لُقيا العريس. سعى هؤلاء إلى نهضة فعليّة في كنيسة الله أنطاكية. وكانت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تيّارًا يشهد للمسيح في هذه الديار، تيّارًا نهضويًّا في قلب الكنيسة، تيّارًا يحرّكه الروح فيحرّك كلّ من حوله. وناضلوا. وكان النضال مريرًا. أرادوا أن يشهدوا أن إلهًا أحبّهم ودعاهم إلى محبّة بعضهم فتابوا واتّجهوا، رغم سقطاتهم وخطاياهم، نحو الجميع، مذكّرين بمقتضيات العهد الجديد الذي دعا الإنسان إلى ربط الأرض بالسماء ومشاركة الله في تصميمه الخلاصيّ فيعطي الوجود معناه الأصيل.

ومرّت الأجيال تتناقل شعلة تخبو حينًا وتزهو حينًا آخر، لكنّها ما زالت مشتعلة، يبدعها الله باستمرار، به تتصدّى للعواصف والأنواء، تزيدها الأيام شبابًا والمصاعب اشتعالاً.

سمات الحركة وبعض تطلّعاتها

وجدير بنا، ونحن نحيي اليوم ذكراها الأولى بعد الأربعين أن نتأمّل ببعض من سمات هذه الحركة والقليل القليل من تطلّعاتها.

قبل كلّ شيء أرادت الحركة نفسها مدرسة لأعضائها، تحثّهم لسلوك دروب القداسة متمثّلين بالمسيح ساعين للتخلّق بأخلاقه والعيش الدائم في حضرة الله.

تبغي الحركة نفسها أيضًا جماعة تذكّر أبناء الطائفة أنّ الكنيسة لله وحده وأنّ انتماءها له دون سواه، وأنّ لا حياة ولا حقّ ولا طريق لأبنائها خارج الاستسلام الكلّيّ لمشيئة ذاك الذي هو وحده "الطريق والحقّ والحياة". كجرحنا النازف يبقى أنّ جياعًا في هذا العالم كثرًا لم يتذوّقوا بعد حلاوة الربّ، ومشرّدين لم يدخلوا الحظيرة بعد ولم يستبشروا بالفرح الآتي. لهؤلاء نقول: تعالوا وانظروا الجماعة في حياتها الهادفة إلى اختبار الربّ ونقله للأخوة. تعالوا "ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ". وإذا ما ذقتموه لا يسعكم إلّا الانقياد له وتكريس النفس والذات، الكيان كلّه، لنشر كلمته والشهادة له.

وإذ نعي هذه الحقيقة تبغي الحركة نفسها جماعة تلعب دور المنبّه تحثّ أعضاءها أوّلاً والكنيسة ككلّ ليكونوا حاضرين فاعلين في العالم مترجمين الإنجيل بفعل حياة يوميّ يعي الجميع أبعاده ويفهمون مضامينه.

حركة شباب هي حركتنا. والشباب هو التساؤل المستمرّ الحركة الدؤوب. ونحن نعيش هذه الحركة بالغين وشبّانًا، نسأل أنفسنا والكنيسة باستمرار وبذا نتحدّى النفس ونتحدّاها فنعيد إليها الشباب إن هي ركدت والحيويّة إن سكنت لأنّنا نريدها أبدًا حيّة أمينة لرسالتها بعيدة عن كلّ فتور أو خمول.

قد يُظَنّ أن الحركة ضعفت هنا أو هناك. وقد يبدو للبعض أنّها تغفو على أمجاد ماضية أو أن لا مبرّر بعد لوجودها وقد وصل من وصل ممن سار على هديها إلى مراكز قياديّة في الكنيسة. لن نعدّد هنا ما يفعله الله بواسطة ضعفنا من تبشير وتعليم وتأليف ونشر وخدمة اجتماعيّة وعمل صامت في كافّة الأوساط وفي سائر أنحاء الكرسي الأنطاكي. نكتفي بالقول: لقد هبّ الروح فكانت الحركة. هو أرادها ولولاه لما كانت ولما استمرّت. تزهو حينًا وتضعف أو تُضطَّهد أحيانًا وهي راضية صابرة لأنّها تبتغي مجد الربّ وإلى ملء قامته تصبو فلا تنزعج من سهام تصيبها أو أقاويل تمسّها لأنّ أعضاءها لا يبتغون وجاهة أو مراكزًا. هم يتطلّعون فقط إلى الخدمة بمحبّة وفرح بعيدًا عن المصالح والأهواء، للقائم من بين الأموات يشهدون، للظافر أبدًا يبتهلون كي يقوّي منهم العزائم وينير لهم الدرب. قد تهزل المؤسّسات وقد يضعف هذا أو ذاك لكنّ الحركة صامدة أبدًا بجوهرها، قويّة بأمانتها ليسوع، دائمة التجدّد بأجيالها الجديدة والزخم الذي يدفعه الروح من أفواههم الفتيّة.

يعتبر البعض أيضًا أنّنا تيّار موازٍ للكنيسة مواجه لها ولرعاتها. والحقّ يُقال أنّ تاريخ حركتنا خير شاهد على كوننا لا نبشّر بالحركة بل بكنيسة المسيح وإليها وحدها ندعو. الحركة في فكر أعضائها هي حركة نحو الكنيسة، حركة الكنيسة إلى الأفضل، هي إدخال المسيحيّين في المسيحيّة الحقّة ودفعهم إلى القداسة. "المؤسّسة الحركيّة نريدها جسرًا، كما قال أحد مؤسِّسيها، يعبر الناس عليه إلى المسيح وإذا ما عبروا يزول الجسر. لقد وضعنا أنفسنا وإمكاناتنا بيد الله حتّى يقرّبنا إليه ويحلّ علينا رضاه، علّنا نعرف أحكامه فنشير إليها والناس ينظرون إليها ويتركوننا".

نحن والمسؤوليّة الكنسيّة

نحن نؤمن أنّ الكنيسة هي ضمير العالم. وطموحنا أن نكون ضمير الكنيسة. نعمل دائمًا ببركة الأسقف ورعايته لكي نعي أنّنا مع كلّ أبناء الكنيسة المؤمنين: "ذريّة مختارة، كهنوت ملوكيّ، أمّة مقدّسة وشعب مقتنى، نخبر بفضائل الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب" على حدّ قول بطرس الرسول في رسالته الأولى.

نحن نؤمن أنّ نقل "فضائل هذا الذي دعانا" ليست وقفًا على الأسقف أو الكاهن بل هي مسؤوليّة كلّ المعمّدين. لذلك نرفض نعتنا بحركة علمانيّة حسب المفهوم العاميّ أو الغربيّ للكلمة. ونرفض أيضًا المقولة: أنّ الكهنة يهتمّون بالأمور الروحيّة بينما يهتمّ العلمانيّون بأمور العالم والماديّات. فالكنيسة والعالم ليسا مكانَين مختلفَين ينفي أحدهما الآخر. المسيحيّ يدخل الكنيسة بالمعموديّة لكنّه لا يترك العالم، لا يخرج منه. الموت وحده يخرجه من العالم. المعموديّة تغرقه في عالم الله ليعلنه في هذا العالم ويكرز به فلا يعود من العالم – كاهنًا كان أم علمانيًّا – ولكنّه في العالم، وفيه يحقّق شهادته ويتمّم رسالته فتكون حياته صلاة وعملاً، صلاة في العمل، عملاً في الصلاة – كاهنًا كان أم علمانيًّا.

هذا الرباط الوثيق بين كافّة أفراد العائلة الواحدة الذي طالما اختبرته الجماعات المسيحيّة الأولى لم يعِ أبعاده في أيّامنا هذه كلّ أبناء طائفتنا ممّا يخلق في كثير من الأحيان جوًّا من عدم الثقة بين الراعي والرعيّة نتيجته حتمًا ليس لخير الكنيسة وتقدّمها. وهذا الوضع الشاذ ليس وقفًا على كنيستنا الأنطاكيّة بل تعاني منه الكنيسة الأرثوذكسيّة جمعاء، وكذلك الكنائس الأخرى في أكثر من بلد. لكن أساقفة الكنيسة الأرثوذكسيّة عامّة بدأوا يعون خطورة هذا الوضع وضرورة إصلاحه.

لنسمع المطران ميليتون متروبوليت خلقيدونية الذي ترأّس باسم البطريرك المسكوني اجتماعات اللّجنة الأرثوذكسيّة العامّة المولجة بتحضير المجمع المسكوني الأرثوذكسيّ العتيد، المنعقدة في سويسرا صيف 1982، يخاطب الشعب المؤمن عبر عظة ألقاها في القدّاس الإلهيّ الختاميّ. قال: "ما أريد أن أنقله إليكم... هو أنّنا أكثر من أيّ وقت مضى قد وعينا، هنا، هذه المرّة، وبطريقة واضحة... أنّه لا يمكننا التقدّم في سيرنا نحو المجمع الكبير المقدّس بدون وحدة أرثوذكسيّة متينة وبدون استشارتكم والاستنارة برأيكم... لقد اكتشفنا، هنا، أنّكم موجودون، ليس فقط الأتقياء منكم... إنّما كلّكم أنتم من عمّدنا باسم الآب والابن والروح القدس... ولم نعد فيما بعد، بالتعليم الدينيّ المسيحيّ مكتفين بدستور الإيمان الذي تلاه العرّاب تاركين إيّاكم لمصيركم. وقلنا أنّه علينا أن نطلب الغفران منكم. اكتشاف مهمّ وانطلاقة مهمّة ولكنّهما لا يكفيان. لذلك قلنا أيضًا أنّه لا بدّ من فتح حوار معكم لا يكون حوارًا عامًّا وذهنيًّا بل حوار الراعي مع قطيعه أنّى وُجِد في كلّ رعيّة وكلّ قرية وكلّ كنيسة مستقلّة، حوار يبدأ في الجذور ليصعد إلى القمّة. إنّها مسؤوليّتنا كرعاة، كأساقفة ولقد اعترفنا بها... وسيولي كلّ أسقف مسؤول اهتمامًا فعليًّا لطريقة الحوار وتقنيّته. ولن يتجاهل أحدنا في هذا الصدد... أهمّيّة العلاقات العامّة والإعلام... إلّا مَن اتّصف منّا بالامتلاء من الذات والادّعاء وثابر على الاختفاء تحت غطاء زجاجيّ أو وراء سور الضمانات التقليديّة مدفوعًا بمصالحه، بانتهازيّته أو بالأهداف الخاصّة التي يسعى إليها".

هذا المقطع يعبّر عن روح المؤتمر الأرثوذكسيّ العامّ الأخير، وإن كان يدلّ على شيء فعلى وعي أساقفة الكنيسة الأرثوذكسيّة في شتّى أنحاء العالم أنّ التبشير في عالم اليوم يقتضي أساليب وتقنيّة تختلف عمّا تعوّدناه. وأنّ استعمال هذه الأساليب وتعميم روح النهضة يتطلّبان جهدًا كبيرًا تقوم به الكنيسة بتعاون كلّ أبنائها، في حوار محبّ صادق بعيد عن كلّ مصلحة وعن كلّ تسلّط، من أيّ نوع كان ومن أيّ مصدر جاء، من داخل الكنيسة أو من خارجها.

فخرنا كبير بكنيسة يعلن أحد كبار مسؤوليها ما أعلنه المطران ميليتون. وهذا الفخر يتضاعف إذ نعي أنّ العديد من أساقفة كنيسة أنطاكية الذين منّ الله علينا بهم في هذه الفترة الأخيرة من تاريخنا، يقرّون بهذه الأقوال، ويريدون العمل بموجبها.

أمّا نحن أبناء الكنيسة العلمانيّين فنعتقد أنّه لا بدّ لنا أيضًا من التقدّم من أساقفتنا بطلب الغفران، لأنّنا نحن أيضًا قصّرنا تجاههم وما زلنا مقصّرين، لأنّنا لم نعتبر أنفسنا مسؤولين بما فيه الكفاية عن الكنيسة التي دعانا الربّ بالمعموديّة إلى التزام أمورها. لأنّنا لم نتقدّم بالمشاريع الضروريّة والتخطيط اللازم، ولم نلفت دائمًا نظر أساقفتنا إلى ضرورة تطوير أساليب التبشير الحاليّة، وابتكار الأساليب الجديدة الفعّالة للاتصال بكلّ أبناء الكنيسة، لأنّ البعض اعتبر نفسه فئة توازي فئة أخرى هي الإكليروس، متّبعين بذلك نمطًا فكريًّا غريبًا عن كنيستنا التي لا تعترف إلّا بشعب لله واحد يتسابق فيه الكاهن والعلمانيّ على طريق الخدمة والقداسة.

لأنّ البعض تنازل عن مسؤوليّاته في ما سمّيناه بالروحانيّات، واعتبر همّه الأساسيّ ومجال عمله الأوحد الاهتمام بالماديّات متناسيًا أنّ المسيح قد تجسّد، وأنّه لم يعد بعد انفصام بين مادّيّ وروحيّ وأنّ شعب الله كلّه يلتزم كلّ أمور العائلة.

لأنّ البعض اعتمد الثرثرة والكلام عن أمور الكنيسة والطائفة بدلاً من خوض ميدان العمل والإنتاج.

لأنّ الكثيرين نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الأرثوذكسيّة غير مدركين، ربّما، بما فيه الكفاية أنّهم بتصرّفهم هذا يساهمون في إضعاف الكنيسة الواحدة الجامعة الرسوليّة، وهذا بالضبط ما تبتغيه قوى الشرّ.

لا بدّ أن نطلب الغفران من أساقفتنا لأنّ الكثيرين أهملوا المشاركة في المائدة الأسبوعيّة حيث تجتمع العائلة كلّها، واعتبروا فئويّين من أرادوا الانخراط في الكنيسة بواسطة مجاري النعمة التي وضعها السيّد والرسل من صلاة واشتراك فعليّ في الليتورجية والأسرار وقراءة الكتاب ومحبّة الأخوة. اعتبروهم فئويّين لأنّهم يعتقدون أنّ الحياة الروحيّة هي الخطوة الأولى والأهمّ على طريق الخلاص وأنّ الجدّة كلّ الجدّة والنهضة كلّ النهضة تبدأ من داخل الإنسان عندما يعي أنّه يعيش في حضرة الله الدائمة فيحاول أن يدنو منه بالتوبة والانكسار ويكتشف ذاته أخًا للجميع وخادمًا لهم.

نطلب الصفح من أساقفتنا لأنّ الكثيرين من العلمانيّين الأرثوذكسيّين مزجوا بين الكنيسة والطائفة، وأرادوا تطبيق أساليب هذا العالم على شؤون الله مظهرين الأديان السماويّة مجتمعات إنسانيّة تناسب مصالحهم ونزواتهم.

لأنّنا جمّدنا الأوقاف مدّعين أنّ الوقف لا يمسّ ونسينا أو تناسينا أنّ المال وُجد ليُنفَق، وأنّ من وقف أرضًا أو مالاً أراد أن تعيش الكنيسة وخدّامها وأبناؤها من ريع ما وقف. أمّا نحن فنطمر الوزنة وإذا ما عُرض علينا أيّ مشروع قلنا أن المال ينقصنا ولا سبيل إلى التنفيذ. الويل لنا عندما سيأتي المعلّم ويحاسبنا على ما فعلناه بالوزنات التي أعطاها لنا بواسطة بعض محبّيه. بم سنجيب؟ أنتجاسر ونقول أنّنا حافظنا على ما أُعطيَ لنا دون إثماره وأنّنا لم نعط شيئًا؟ أنجهل أنّنا نتقدّس بالعطاء؟

نعتذر من أساقفتنا أيضًا لأنّنا نريد منهم أن يغذّوا جاهنا وغرورنا، فنصرّ على ترأّسهم كلّ مأتم وعرس ومناسبة وكأنّ الأسرار الإلهيّة لا تتمّ على يد كاهن واحد فنترك بذلك للأساقفة الوقت الكافي للتفكير والتخطيط والعمل المجدي.

من الطائفة إلى الكنيسة

قد تطول اللائحة ولكلّ منّا أسباب وعلل. المهمّ وعينا المشترك لهويّتنا الأرثوذكسيّة ومميّزاتها وإدراكنا لمسؤوليّاتنا في الشهادة للمسيح وللمسيح وحده وفي إيصال كلمته إلى كلّ فرد من أفراد الطائفة، وترجمة كلّ هذه المفاهيم مشاريع نهضويّة تجسّد تطلّعاتنا وتنظّم أوضاعنا وتعيد الثقة إلى كلّ أبنائنا. المهمّ رفضنا المشترك لكلّ مَن وما يقزّم كنيستنا ويشوّه إيماننا ويحوّر تاريخنا فيظهرنا فئة طائفيّة محدودة.

إنّ المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا جسيمة في هذه الديار لأنّنا نحمل تراث المسيحيّة المشرقيّة الجريح التي يجب أن تبقى، رغم جراحاتها وبسبب جراحاتها، أمينة لرسالتها تدعو الجميع وتدعو جلّاديها، إن وُجِدوا، إلى المحبّة والعدل والحريّة والاخاء، وتحثّهم على التماس النّور الإلهيّ وراء الظلمات أو في قلبها لأن به وحده تكون القيامة ويكون التجلّي.

المهمّ أن يجتمع الأتقياء والحكماء حول كلّ أسقف وفي كلّ رعيّة فيشاركون في الفكر والخدمة والعطاء. هذا ما يمليه روح الكنيسة وهنا تكمن الوجاهة الحقيقيّة: في التقوى والحكمة والعمل.

المهمّ أن نخطّط مع الأسقف للقيام بإصلاح ليتورجيّ يساعد الرعيّة على ممارسة الخِدَم بكلّ وعي فتعود إليها مكانتها كمحور لحياة الكنيسة ومختبر للمحبّة والأخوّة المسيحيَّين.

المهمّ أن تولي الكنيسة مواضيع الإعلام الحديث الأهميّة التي تستحقّها لنقل البشارة إلى كلّ بيت.

المهمّ أن تسود روح المحبّة والشركة الحقيقيّة لا الكلاميّة بين كلّ أسقف وشعبه وبين الأساقفة فيما بينهم وبين فئات الشعب كلّها.

المهمّ التعاون، بعيدًا عن التشنّجات والتأثيرات السياسيّة والوجاهات البالية، لإيجاد اللّجان والهيئات الضروريّة في كلّ أبرشيّة لمساعدة الأسقف على إحصاء كلّ طاقاتها وتنظيم أوضاعها ووضع تخطيط شامل لحاجاتها، والاهتمام بفقرائها والسعي لتأمين مجالات العمل الكريم لأبنائها وتسهيل مساهمتهم المسؤولة في بناء وطنهم والدفاع عنه.

كذلك يجب العمل على تطوير البنى التحتيّة التي منها ينطلق التبشير والسهر على إيجاد الكهنة الأكفّاء وتثقيفهم وتأمين العيش الكريم لهم. كما أنّه من الضروريّ درس إمكانيّة طلب اشتراك سنويّ من كلّ مؤمن لسدّ حاجات الكنيسة من جهة ولفصل الأسرار عن المال من جهة أخرى.

المهمّ أن نشجّع النشر الأرثوذكسيّ، وأن نتعاون لإيصال الموجود منه إلى كلّ البيوت، وأن ننكبّ على قراءته لكي نكتسب فكرًا أرثوذكسيًّا صحيحًا، ونكفّ بالتالي عن نعت أيّ فكر نقتبسه من هنا أو هناك بالأرثوذكسيّ لأنّه يناسب مصالحنا الخاصّة، أو مفاهيم مغلوطة ورثناها عن عصور الانحطاط مدّعين أنّه "الفكر الأرثوذكسيّ" أو "التقليد الأرثوذكسيّ". لا فكر أرثوذكسيّ ولا تقليد أرثوذكسيّ سوى فكر الكتاب المقدّس وفكر الآباء وتراثهم. ولا قوانين وأنظمة أرثوذكسيّة سوى ما وضعته المجامع المقدّسة وما يطوّره المؤمنون السائرون بهديها. علينا أن نعي جميعًا هذه الحقيقة وأن يدخل كلّ واحد منّا مدرسة الأرثوذكسيّة بتواضع وانفتاح علّ كنوزًا لا يتصوّرها عقل تنفتح أمامه فيروي بها غليله.

المهمّ أن نبقى أوفياء لهذه الروح الأرثوذكسيّة وأن نرفض الانجراف في مواقف الآخرين ليس تعصّبًا ولا تزمّتًا بل اقتناعًا أن لدينا الكثير لنقوله ولدينا الأجوبة الشافية عن العديد من تساؤلات شعبنا.

المهمّ أن ننتبه إلى الفخاخ التي ينصبها لنا القريب والبعيد، وألّا نتعقّد ونخجل ممّا يسمّونه تقاعس كنيستنا، لأنّ هذه الكنيسة وان اختلف أسلوبها في التعامل بأمور الدنيا فقد اتّخذت، وتتّخذ، مواقف شهاديّة في حياة الوطن يمكن اعتبارها قدوة، وهي تتألّم مع كلّ إنسان لأنّها كنيسة المسيح الفادي الذي تجسّد ليخلّص الجميع بمعزل عن دينهم أو عرقهم أو معتقدهم.

هذا موقف يجب أن يعلن إذا أردنا أن نبقى مسيحيّين أي أتباعًا ليسوع المسيح الناصريّ "ابن الله الحيّ الذي أتى إلى العالم ليخلّص كلّ إنسان ويكون فدية عن كثيرين". ولكوننا كنيسة المسيح الفادي نحن أبناء المصالحة ومدّ الجسور، ليس خوفًا من أحد ولا تخاذلاً أمام أحد بل اقتناعًا أنّ مَن أراد أن يتبع المسيح عليه أن يكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعه. والصليب الذي علينا حمله هو الصليب الذي أراده لنا المسيح وليس الذي نختاره نحن لأنفسنا.

المهمّ – والربّ يدعونا الآن بإلحاح – أن يقتنع كلّ أبناء أنطاكية بضرورة النهضة وأن يتبنّوا توبة ومحبّة ووعي وعمل وقداسة وجرأة واتّضاع، هذا ما دعت إليه حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة منذ واحد وأربعين عامًا وهذا ما سوف تستمرّ في الدعوة إليه. أرادت نفسها الصوت المنبّه الداعي إلى النهضة والحثّ على العمل. ونحن على العهد باقون. نحن أوّل من اعترف بخطاياه لكنّنا بالمسيح يسوع نتقوّى وبروحه القدّوس نحيا وننمو. النهضة لن تعمّ والإصلاح لن يترسّخ إلّا إذا تجنّد أكبر عدد ممكن من أبناء هذه الطائفة وخاضوا جميعهم مغامرة القداسة مترجمين تطلّعاتهم عملاً ومشاريع وحياة مشتركة تتمركز حول الأسقف في سرّ الشكر. هذا ما تدعو حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة الجميع إليه لكي نتخطّى ضغائرنا وأحقادنا ونسير معًا من الطائفة إلى الكنيسة، من التشتّت إلى الوحدة، من الموت إلى الحياة.

منطلقاتها وأسسها ويجسّدوها في مؤسّساتهم وكلّ مجالات عملهم. لكنّ الأهمّ أن ندرك أنّ أولى الخطوات على طريق النهضة تكمن في رجوع كلّ واحد منّا إلى ذاته وفي سلوكه طريق التوبة واعتماده نمط حياة يجعل منه خادمًا للجميع وصورة لذلك الذي أتى ليخدُم لا ليُخدَم. ولنتذكّر ونحن نعيّد اليوم لأمّنا البارّة مريم المصريّة أنّنا ما لم نتطهّر بتوبة حقيقيّة فلن ندخل باب الكنيسة والملكوت، وستقف القوّة التي حالت دون دخول مريم الخاطئة إلى الهيكل جسرًا منيعًا في وجهنا.

المشاركات الشائعة