في المحبّة وعدم إدانة الآخر

 

ريمون رزق

النور - العدد السادس 2013


من المتّفق عليه أنّ لا مبرّر لوجود الكنيسة إن لم تعرِّف دومًا عن ذاتها بالنسبة إلى الربّ يسوع. لا يوجد مؤمنون حقيقيّون من دون السعي الدائم إلى التفتيش عن يسوع وملاقاته، والالتصاق الحميم به، والعيش الواعي في حضرته، واكتشافه في إخوته وخدمته فيهم، والشهادة له في عالم عاد لا يعرفه. يسوع وحده يجمعنا إلى واحد. وليس تضعضع بعض الأوضاع في الكنيسة، في هذه الأيّام، سوى علامة واضحة على أنّنا مبتعدون عنه، رغم كوننا نكثر الكلام عليه. أمّا آباؤنا فقد نبّهونا إلى أنّ المهم ليس أن نتكلّم على الله، بل أن نتنقّى ونتمثّل به.

من مظاهر ابتعادنا عن يسوع الاختلافات في الآراء القائمة بيننا، وتحزّب فريق ضدّ فريق، بينما لا يجوز لنا سوى التحزّب إلى الربّ. ويظهر ابتعادنا عن يسوع في التهم التي يتبادلها بعضنا، والتي تصنّف الآخرين وتهرطقهم، نازعة عنهم صفة الأخوّة في المسيح. مَن يتّهم أخاه، لا علاقة له بالربّ. هكذا علّمنا يسوع وآباؤنا. لا نتوقّف بعامّة عن ترداد أقوال الآباء، من دون تجسيدها في حياتنا وتصرّفاتنا، كما فعلوا هم. لا بدّ لنا من أن نتذكّر أنّ آباءنا يمنعوننا كلّيًّا من أن ندين بعضنا بعضًا، بل يطلبون أن نحمل أثقال الآخرين. يقولون إنّ الذي يعتبر أنّه يعيش مع الله وينتقد قريبه ويذمّه يخدع نفسه. ويقولون أيضًا إنّ لا تمثّل بيسوع أجدى من ممارسة المحبّة، إذ هو المحبّة بالذات. كلّ مَن يبتعد عنها يفقد علاقته بالربّ، وتاليًا مبرّر التزامه المسيحيّ الحقيقيّ. فيدور في حلقة مفرغة، حتّى إن كانت مليئة بالصلاة والصوم والنشاطات.

فلنقم معًا بجولة نستعرض فيها أقوال آبائنا عبر التاريخ، لنلاحظ استمراريّة تأكيدهم على المحبّة كعلامة فارقة للمسيحيّين، وعلى ضرورة الابتعاد عن إدانة الآخرين، بل تحمّل كلّ شيء محبّة بهم.

ا- آباء من القرن الثاني

يقول القدّيس إقليموس الرومانيّ:

"ما دمنا نؤلّف أمّةً مقدّسة، فلنكمّل كلّ أعمال القداسة. ولنهرب من النميمة والخلافات الصبيانيّة... والكبرياء الآثمة... ولنلبس، بتواضعنا، الوئام والعفّة، ونبتعد عن كلّ الوشوشات الخبيثة النمّامة. ولنكن عادلين بأعمالنا أكثر من أقوالنا... ولنفتخر بالله وليس بنفوسنا، لأنّ مثل هذا الافتخار يبغض الله. ولندع الآخرين يشهدون لحسن سلوكنا".

"فلنخلّص جسدنا بيسوع المسيح. وليطع كلّ واحد قريبه حسب الموهبة التي أُعطيت له. وليعتنِ القويّ بالضعيف، وليحترم الضعيف القويّ... وليظهر الحكيم حكمته، لا بالكلام، بل بالعمل الصالح. وليبتعد المتواضع عن الشهادة لنفسه، تاركًا الآخرين يشهدون له".

"لماذا تقوم بينكم كلّ هذه الشقاقات والخصومات والتنافر والحروب؟ أليس لنا إله واحد، ومسيح واحد، وروح نعمة واحد انسكب علينا، ودعوة واحدة في المسيح؟ لماذا نمزّق أعضاء المسيح، ونقطعها؟ لماذا نثور ضدّ جسدنا؟ لماذا يستولي علينا الجنون، فننسى أنّنا أعضاء واحدنا في الآخر؟"

"مَن كانت له محبّة المسيح، فليفعل ما للمسيح. مَن يستطيع أن يفسّر رباط المحبّة بالمسيح؟ مَن يستطيع أن يعبّر عن جماله اللامحدود؟ المحبّة تقود إلى علوٍّ لا يوصف، ولا يخبَّر عنه. تلصقنا المحبّة بالله، وتستر خطايانا. المحبّة لا تعرف الكبرياء. المحبّة توفّق، ولا تغضب. المحبّة تحتمل كلّ شيء. إنّها ترفق، وتتأنّى، ولا عنف فيها. المحبّة تكمّل مختاري الله. من دون المحبّة، لا شيء يرضي الله".

يقول القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ

"صلّوا، بلا انقطاع، من أجل الآخرين، لأنّكم بهذا، على رجاء التوبة، تقودونهم إلى الربّ. افسحوا لهم في المجال، ليتثقّفوا في مدارس أعمالكم. واجهوا غضبهم بالوداعة، وتبجّحهم بالدعة، وشتائمهم بالصلاة، وضلالهم برسوخ الإيمان، وفظاظة أخلاقهم بدماثة الطبع. ولا تواجهوا الشرّ بالشرّ. كونوا إخوة للجميع بالرحمة. ولنتنافس في مَن يقتدي أكثر بالمسيح في تحمّل الظلم والإهانة والاحتقار... اثبتوا في النقاوة الكاملة والتعقّل في يسوع المسيح، جسديًّا وروحيًّا".

 "بتناسقكم وتناغم محبّتكم ترفعون المديح ليسوع المسيح، وتمجّدونه. وليدخل كلّ واحد منكم في هذا الجوق، لكي تتوحّد نغماتكم، فتكتسبوا طابعًا إلهيًّا، وترفعوا، بصوت واحد، بيسوع المسيح، المدائح للآب الذي سيسمعكم، ويعرف، عبر أعمالكم الصالحة، أنّكم أعضاء في ابنه. من المفيد، إذًا، أن تكونوا في وحدة لا تشوبها شائبة، لكي تحظوا بشركة دائمة مع الله".

"إذا كان لكم إيمان كامل ومحبّة كاملة، فلن يخدعكم أحد. هاتان الفضيلتان هما بدء الحياة ومنتهاها. الإيمان هو البدء، والمحبّة هي المنتهى، والله في وحدتهما... لا يمكن أن يخطئ من يعترف بإيمانه، ولا أن يكره مَن يحبّ... لكن، لا يكفي أن نعلن إيماننا، بل علينا أن نظهره عمليًّا".

"أضرع إليكم أن تبتعدوا عن كلّ روح يعمل للشقاقات وأن تفعلوا وفقًا لتعليم الله".

يقول القدّيس بوليكاربوس، أسقف إزمير:

"اثبتوا واتبعوا مثال الربّ، ثابتين وغير متزعزعين في الإيمان، ومحبّين بعضكم بعضًا ومتّحدين في الحقيقة، ومظهرين بعضكم لبعض صلاح الربّ من دون احتقار أحد... أطيعوا بعضكم بعضًا، واسلكوا سلوكًا لا عيب فيه، لكي تجلب أعمالكم الثناء لكم، وكيلا يجدّف على الربّ بسببكم... علّموا الجميع الوداعة التي تعيشون فيها".

من الرسالة المنسوبة إلى الرسول برنابا

"لا ترفع نفسك. كن متواضعًا. لا تلبس الأمجاد. لا تسئ إلى قريبك، ولا تسلّم نفسك إلى الفساد... لا تستعمل الكلمات، التي من الله، لإهانة الآخرين. لا تُحابِ الوجوه عند انتقادك هفوات الآخرين. كن وديعًا وهادئًا... لا تحقد على أخيك. لا تكن قلقًا، ولا تحمل اسم المخلّص عبثًا. أحبب قريبك أكثر من نفسك".

 من راعي هرماس

"تسالموا في ما بينكم، وتفاهموا، ولا تستأثروا بمخلوقات الله".

"لا تقل شيئًا ضدّ أيّ إنسان، ولا تصغِ، بلذّة، إلى مَن يتكلم ضدّ غيره، خصوصًا إذا وافقت على ما يقول. حينئذٍ، تكون قد أضمرت الشرّ لأخيك... كن على علاقة طيّبة بالجميع".

"اعلم أنّ نتائج الغضب شرّيرة، وتدمّر عبيد الله... الغضب يسبّب الطيش والخفّة والجهل. من الجهل يولد التذمّر، ومن التذمّر تولد العداوة، ومن العداوة يولد الغضب، ومن الغضب يولد الحقد، والحقد... هو خطيئة مستعصية" .

ب- آباء من القرن الرابع

يقول أنطونيوس الكبير:

"الحياة والموت يتعلّقان بالقريب. فإن ربحنا أخانا، ربحنا الله. وإن أعثرناه، أخطأنا إلى المسيح".

والأب موسى الحبشيّ:

"ينبغي للمرء أن يموت عن قريبه، حتّى لا يدينه بشيء".

وقال الأنبا أبّولوس:

 "عندما ترى أخاك فإنّما ترى الربّ إلهك".

قول مأثور لآباء الصحراء:

"الانسان الذي تلقاه في أيّ لحظة هو أهمّ شيء في حياتك".

ويقول القدّيس أفرام السريانيّ:

"مَن كانت عنده محبّة فعنده الله،

 ومَن كان لديه التواضع فهو شبيه بالله.

 مَن يتكبّر يفترق عن المسيح،

 وكل مَن يصبر يتشبّه بالله...

الذي يكره أخاه يبغضه الله...

امّا الذي يتألّم مع أخيه فيرث المسيح.

الذي يزدري الخاطئ يدين نفسه.

أمّا الذي يحزن ويتألّم معه،  فيطهّر نفسه الخاصّة...

مَن شهّر أخطاء إخوته يدنّس نفسه...

مَن يفتخر بتقدّمه يسقط،

ومَن تذلّل وصغّر نفسه يرتفع الى علوّ شاهق. 

مَن احتدّ وغضب يستحقّ الدينونة،

ولا يعاشره المسيح.

أمّا الذي يبقى وديعًا

فيصبح محطًّا للروح القدس.

مَن ازدرى أخاه الخاطئ يضلّ ويجهل،

أمّا الذي يشاطره المحبّة، فهو بالحقيقة فاضل،...

ويقبله الله.

 

ج- آباء من القرن الخامس

يقول البارّ نيلوس:

"لا يدين (المسيحيّ الحقّ) لا الخطأة ولا أبناء عصره... لا يرغب سوى في أن يحبّ كلّ إنسان ويجلّه، بدون أيّ تمييز... إذ إنّه يحترم الانسان من بعد الله، وكأنّه الله نفسه".

أمّا القدّيس مرقس الناسك، فيقول:

"خير أن يصلّي الإنسان بورع من أجل قريبه من أن يوبّخه على كلّ خطيئة".

"دليل المحبّة الحقيقية هو مسامحة القريب عن كلّ هفواته من كلّ القلب. إنّ الربّ، بمسامحته لنا، قد برهن عن محبّته للعالم ولصالبيه".

د- آباء من القرن السادس

يقول القدّيس دوروثيوس الغزّاويّ:

"فليسع كلّ واحد أن يتّحد مع الآخرين، قدر استطاعته. لأنّ كلّما اتّحدنا بقريبنا، كلّما زاد اتّحادنا بالله. سأعطيكم صورة اقتبستها من الآباء لكي تتمكّنوا من فهمٍ أفضل لما أقول. تصوّروا دائرة مرسومة على الأرض. ... نسمّي وسط الدائرة "مركزها". ... اعتبروا أنّ الدائرة هي العالم، وأنّ مركزها هو الله، وأنّ الشعاع يمثّل مختلف أساليب العيش لدى البشر. عندما يريد القدّيسون الاقتراب من الله، يسيرون نحو مركز الدائرة. وبقدر ما يتوغّلون داخلاً، يقتربون من بعضهم البعض، بالوقت عينه الذي يقتربون به من الله. يقتربون من الله كلّما يقتربون من بعضهم البعض، وكلّما  اقتربوا من بعضهم البعض، يقتربون من الله. ...  هذه هي طبيعة المحبّة. بقدر ما نكون خارج محبّة الله، نكون بعيدين عن القريب. لكن إن أحببنا الله واقتربنا منه، فإنّنا نقترب من القريب ونحبّه ونتّحد به. وبقدر اتّحادنا بالقريب، يتقوّى اتّحادنا بالله".

يصرّ القدّيس دوروثيوس فينصح ما يجب أن يفعله الأخ أمام ما يعتبره خطيئة أخيه، ويقول:

"إن رأيت أخًا يرتكب خطيئة، فلا تزدره، ولا تتركه يهلك من جرّاء سكوتك. ولا تعاتبه بشدّة أو تحكي عليه. بل اعهد بأمره برفق ومخافة الله إلى من له القدرة في إصلاحه. أو اتّجه اليه وقلّ له بمحبّة وتواضع: "عفوًا يا أخي، يبدو لي، رغم كلّ إهمالي، أنّنا لا نتصرّف في هذا الأمر كما يجب". ... اجتهدوا في حفظ لسانكم. لا يتحدّثنّ أحد بالسوء عن قريبه، أو يؤذه بكلمة، أو بعمل، أو بتصرّف، أو بأيّ طريق آخر. ... تعلّموا أن تحترموا بعضكم بعضًا. إن سمع أحد كلمة مزعجة أو عانى كرهاً أمرًا ما، فلا يغضب للحال أو يفقد صوابه. ... فليكن عندكم بالأحرى قلب صلب وتحلّوا بالصبر والمحبّة المتبادلة اللتين تتخطّيان كلّ المصاعب".

ه- آباء من القرن السابع

يقول القدّيس مكسيموس المعترف:

ن أردت أن تحافظ على المحبّة، كما أمر الله، لا تدع أخاك ينام وفي داخله مرارة تجاهك. وأنت، فلا تخلد الى الراحة مع شعور بالمرارة تجاهه، لكن اذهب إليه وتصالح مع أخيك، وعُدّ وقدّم للمسيح، بضمير نقيّ، وفي صلاة حارّة، هبة محبّتك".

وأيضًا:"لم يحصل بعد على الحرّيّة الداخليّة من لا يستطيع  أن يغضّ النظر عن خطأ صديقه، أكان هذا الخطأ حقيقيًّا أو  فقط ظاهرًا". 

ويقول في محبّة الإخوة:

"مَن يحبّ الله لا بدّ من أن يحبّ كلّ إنسان محبّته لنفسه، حتّى ولو كان المحبوب ينوء تحت ثقل الأهواء... ولا بدّ للمحبّ من أن يفرح عندما يرى إخوته في تحسّن وتقدّم".

"مَن يدرك في قلبه أثرًا للحقد إزاء زلّة أخيه، هو غريب عن محبّة الله. فالمحبّة الإلهيّة لا تحتمل البتّة أيّ حقد أو إساءة ضدّ القريب".

"مَن يحبّ الله لا بدّ من أن يحبّ قريبه أيضًا". 

 يقول القدّيس يوحنّا السلّميّ:

"كثيرًا ما نكون قائمين بالصلاة فيأتينا إخوة فنضطرّ إلى ترك الصلاة أو إلى أحزان الأخ وردّه خائبًا. فالمحبّة أعظم من الصلاة، لأنّ الصلاة وصيّة جزئيّة أمّا المحبّة فتشمل الفضائل كلّها، ولا تتعارض وأيّاها".

"لا تدن أحدًا، حتّى ولو رأيت بعينيك، فإنّهما كثيرًا ما تخدعانك".

"إنّ إدانة الآخرين اختلاس وقِح لمقام الله، والحكم عليهم هلاك للنفس".

والقدّيس إسحق السريانيّ يقول:

"ارتض الاضطهاد ولا تضطهد. اقبل الصلب ولا تصلب أحدًا. اقبل الظلم ولا تذمّ أحدًا. ... افرح مع الفرحين وابكِ مع الباكين، فهذا دليل الطهارة. امرض مع المرضى. نُح مع الخطأة. افرح مع التائبين. صادِق الجميع، إنّما كن وحيدًا في ذهنك. ... لا تؤنّب ولا تعيّر أحدًا، حتّى السيّئ السيرة. ابسط وشاحك على المذنب واسترخ. وإذا كنت لا تستطيع تحمّل ذنوبه، ... فاصبر عليه على الأقلّ ولا تُخزه".

"سؤال: ما هي العلامة التي تشير إلى أنّ الانسان قد بلغ نقاوة القلب؟ جواب: يكون الإنسان نقيّ القلب بالفعل عندما يرى أنّ جميع الناس صالحون، ولا يبدو له أحد منهم دنسًا وملوّثًا".

"ادعوك يا أخي إلى أن يتغلّب فيك ثقال الرأفة إلى أن تشعر في قلبك الرأفة ذاتها الذي يكنّها الله تجاه العالم".

ويقول يوحنّا الكرباتيّ:

"مَن أبغض شبيهه، انفصل عن الله، باعتبار أنّ الله محبّة، وأنّ المقيم في المحبّة يقيم في الله، ويقيم الله فيه".

 أمّا القدّيس أنستاثيوس السينائيّ، فيقول:

"كيف لنا أن نطلب إلى الله، في القدّاس الإلهيّ، "اغفر لنا ما علينا كما نغفر لمَن له علينا"، وقلبنا مليء بغضًا وغضبًا؟ كيف نتجرّأ على أن نلفظ هذه الكلمات؟ تضمر الشرّ لأخيك، وتجرؤ على التضرّع إلى الربّ ليغفر لك كما أنت تغفر؟ أتأتون إلى الكنيسة لتصلّوا إلى الربّ أو لتكذبوا عليه؟ أتأتون لنيل نعمته أو لإثارة غضبه؟ أتأتون لمحو خطاياكم أو لزيادة عددها؟ أخيرًا أتأتون من أجل خلاصكم أو من أجل الدينونة؟ ألا تلاحظون أنّنا، أثناء القداس الإلهيّ، نقبّل بعضنا بعضًا، كي ننزع كلّ قساوة وظلم من قلوبنا، ونقدّمها إلى الله بالنقاوة التي تخوّلنا الاقتراب منه باستحقاق؟ .... إذا لم تفعلوا هذا تكون قبلتكم لأخيكم كقبلة يهوّذا".

"لا تحكموا على قريبكم. حتّى إذا رأيتم سقطته، تذكّروا أنّ الديّان هو واحد، وأنّ الرب واحد، وأنّه سيجازي كلّ إنسان حسب أعماله. ... لا تحكم على أحد لأنّ الحكم ليسوع المسيح، الذي سيحاكم الجميع في يوم الدين. مَن يحكم قبل مجيئه الثاني ينتزع صفته. فهو إذًا نوع من المسيح الدجّال".

و- آباء من القرن الثامن

يقول القدّيس أندراوس الإقريطوشيّ:

"كلّ مَن لا يبقى في جوّ المحبّة لا يبقى في حضن الله... أمّا مَن يبقى في المحبّة، فيسكن في الله، والله فيه، ويكون هيكلاً لله".

"يُطلب منّا شيئان: أن ندين خطايانا، وأن نصفح عن الآخرين، لأنّ الذي يرى خطاياه يصبح أكثر تسامحًا تجاه الآخرين. والذي يحكم على الآخرين يدين نفسه، ويُحكم عليه، حتّى لو كانت له فضائل كثيرة".

ز- أباء من القرن العاشر

يقول القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد:

"المحبّة هي فوق كلّ شيء... مَن لم تكن عنده المحبّة،... كيف يجسر على أن يقول للذين يسألونه إنّه مؤمن؟"... يا مسيحيّ! أيمكن أن نخلص بدون المحبّة؟ لمستحيل أن نخلص إن كنّا بعيدين عنها... المحبّة هي الفضيلة العظمى. إنّها سيّدة الفضائل الأخرى وملكتها ورأسها. إنّها لباسها ومجدها. الجسد بدون رأس ميت لا نفس فيه. جسد يدون لباس لا يمكن أن يكون إلاّ عاريًا. الفضائل بدون محبّة باهتة وعقيمة. مَن لا محبّة عنده فهو عارٍ من المجد الإلهيّ. لو ملك كلّ الفضائل ولم يكن له المحبّة فإنّه يخجل من عريه ويختبئ. مَن حمل خجله حمل دينونة وسمع من فم الديّان: إنّي لا أعرفك".

ح- أباء من القرن الثالث عشر

ينصح القدّيس ثيوفيليبتوس، أسقف فيلاديلفيا، قائلاً:

"كن عطوفًا مع أخيك. لا تسمح البتّة بأن تشكّ بقريبك، لأنّ الشك يقتل المحبّة. تحمّل ضعف نفس أخيك تجاهك كما تتحمّل نفسك. اعتبر مَن سبّب لك ضررًا كأحد أعضائك العليلين، واسع بكلّ الأساليب لتعيده إلى المحبّة. إن تصرّفت هكذا، تعينه بصبرك الذي أحزنك، وتشفيه من أثر العدو غير المنظور، وتفضح هذا العدو الذي يعمل في الظلّ. كان يريد أن يضرّك إذا جاوبت أخاك الظالم بالشتيمة. لكنّك بصبرك ومحبّتك أقمت أخاك الساقط وخدعت العدو".

ط- آباء من القرن الرابع عشر

يقول القدّيس نقولا كابازيلاس:

"الحياة في المسيح تظهر بنور الأعمال الصالحة، أي بالمحبّة... الحياة في المسيح تفرضها المحبّة... فمحبّة المسيح اتّحاد به وهذا الاتّحاد يشكّل الحياة الحقيقيّة... المحبّة هي القوة الوحيدة التي يجب أن تحرّك المسيحيّ الحقيقيّ...كلّ الأشياء ستبطل في الحياة الأخرى، أمّا المحبّة فستبقى لأنّها ضروريّة لغبطة الحياة".

يمكننا الاستشهاد بأقوال كثيرة أخرى تؤكّد الأمور ذاتها. لكن ما ورد يكفي لتذكيرنا بأنّ محبّة المسيح تقضي بمحبّة الإخوة والامتناع عن إطلاق التهم عليهم، بل استيعابهم كإخوة حقيقيّين للربّ يسوع، وتاليًا لنا.

يقول آباؤنا إنّ المحبّة هي مفتاح كلّ شيء، وتأتي قبل المعرفة وحتّى قبل الصلاة. لا تنفع صلاتنا إن تخاصمنا مع إخوتنا. حذّرنا الربّ من أن نترك ذبيحتنا في الهيكل، ونتصالح أوّلاً مع إخوتنا. كيف نتجاسر على الاقتراب من أسرار الله الرهيبة، والضغينة تملأ قلوبنا؟ تعبّد محبّة الإخوة وعدم خصومتهم الطريق لمعرفة الله. إنّها ليست مجرّد مبدأ أخلاقيّ ومناقب. إن كنّا نريد أن نكون مسيحيّين، لا بدّ لنا من المسامحة والمحبّة، وإلاّ كيف نريد الله "أن يغفر لنا ما علينا". القضيّة إذًا قضيّة مصيريّة، لا يمكن التساهل معها. أعطانا الله حرّيّة قبوله أو الابتعاد عنه، علمًا أن قبوله يفترض قبول إخوته. أنريد أن نكون له تلاميذ؟ أو نستمرّ في ضغينتنا، وندّعي ادّعاء خاطئًا أنّنا نعترف به ربًّا؟

 

 

 

 

 

 


المشاركات الشائعة