التوبــة

 ريمون رزق


التوبة في الكتاب المقدّس

الأنبياء

يُظهر الكتاب مرارًا طول أناة الله وصبره على الخطأة. يريدهم أن يتوبوا على خطايهم والعودة إليه. عبّر الأنبياء بامتياز على هذا الصبر. يقول في إرميا: "أيسقطون ولا ينهضون ويرتدّون ولا يتوبون؟"(إرميا 8: 4). ويقول في زكريا: "توبوا إليّ، فأتوب إليكم" (زكريا 1: 3). ويقول للمنافق في حزقيال: "ليس مرضاتي بموت المنافق، لكن بتوبته عن طريقه فيحيا" (حزقيال 33: 11).  ونرى عاموس يحثّ أبناء الشعب على "طلب الربّ ليحيوا" (عاموس 5: 6). ويطلب منهم هوشع "أن يرجعوا إلى الربّ" (هوشع 14: 3).

يتساهل الربّ مع الخطأة أكثر منه مع الصدّيقين، إذ يقول أيضًا في حزقيال: "إذا ارتدّ البار عن برّه، وصنع الإثم وعمل مثل كلّ الأرجاس التي يعملها المنافق، أفيحيا؟ بل جميع برّه الذي صنعه لا يُذكر، ويموت بتعدّيه وخطيئته" (حزقيال 18: 24). يفسّر سفِريانوس، أسقف جبلة (+408) هذا التصرّف الإلهي بقوله: "يريد الله ألّا يُخيف الخاطئ، إذ ينزع عنه الخوف كلّ ثقة بنفسه، ويُغرقه باليأس. ويمتنع الله عن مديح البار، لكي لا تضعف قوّة فضيلته، ويسترخي من حماسه"[1].

أمّا أشعيا فلا يكتفي بدعوة الشعب إلى العودة إلى الله، بل تتّسم التوبة عنده بتطهير شخصي وتغيير في المسلك. يقول باسم الربّ: "اغتسلوا وتطهّروا وأزيلو شرّ أعمالكم من أمام عيني، وكفّوا عن الإساءة. وتعلّموا الإحسان والتمسوا الإنصاف. أغيثوا المظلوم وانصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة" (أشعيا 1: 16-17). لكنّه يعرف أنّ نداءه لن يُسمَع، بسبب قساوة القلوب، فيقول: "في التوبة والراحة تخلصون وفي الطمأنينة والثقة تكون قوّتكم، لكنّكم لم تشأوا" (أشعيا 30: 15).

يتوسّع أنبياء آخرين بمتطلبّات التوبة الداخليّة. فنسمع ميخا يقول إنّ الربّ يطلب "الرحمة والتواضع" (ميخا 6: 8). ويؤّكّد صفنيا ضرورة "الدعة والفقر" (2: 3 و3: 12). ويتوسّع إرميا بشروط العودة،  وأوّلها "معرفة الإثم والإقرار بالمعصية" (3: 13)، ثمّ "صُنع الحقّ والحكم والعدل" (4: 2)، و"إصلاح الأعمال،... والامتناع عن قول الكذب،... وإجراء الحكم بين الرجل وقريبه، والاهتمام بالغريب واليتيم والأرملة، وعدم إهراق الدم الزكي"(7: 3-6).

يوحنّا المعمدان

نجد تعليم الأنبياء مختصرًا في آخرهم، يوحنّا المعمدان. تعليمه مختصر بدعوته الجميع أن "يتوبوا فقد اقترب ملكوت السماوات" (متّى 3: 2). ويطلب منهم أيضًا أن "يُثمروا ثمرًا يليق بالتوبة" (متّى 3: 8)، و"مَن له ثوبان فليعطِ مَن ليس له، ومَن له طعام فليصنع كذلك" (لوقا 3: 11)، والّا "يُظلموا أحدًا ولا يفتروا عليه" (لوقا 3: 14).

يسوع المسيح

لم يكتفِ يسوع بإعلان قُربى مجيء الملكوت، بل  بدأ بتحقيقه بقوّة. استعمل عبارة المعمدان قائلًا: "اقترب ملكوت الله، فتوبو وآمنوا بالإنجيل" (مرقس 1: 15)، أو حسب رواية متّى: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات" (متّى 4: 17). وأكّد أنّه "لم يأتي ليدعو صدّيقين بل خطأة إلى التوبة" (لوقا 5: 32). أهمّ شيء في التوبة، بالنسبة إليه، "إنقلاب القلب"، "والرجوع والإتّضاع والصيرورة كالأطفال لدخول ملكوت السماوات" (متّى 18: 3). وأيضًا "طلب ملكوت الله وبرّه أوّلًا" (متّى 6: 33). وأيضًا القيام "بأعمال تليق بالتوبة" (لوقا 3: 8، أعمال 26: 20).

وقد بيّن يسوع أنّ الله يبحث عن الخاطئ، وكلّ ما يطلب منه أن يضع ثقته به ويرجو الرحمة. وقد أعلن أنّه "يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب" (لوقا 15: 7). وقال أيضًا: "إن لم تتوبوا فجميعكم تهلكون" (لوقا 13: 3 و5). وقد كلّف رسله أن "يخرجوا ويكرزوا بالتوبة" (مرقس 6: 12)، وأعطاهم سلطانًا لمغفرة الخطايا (يوحنّا 20: 23).

الجماعة الرسوليّة

نرى بطرس يدعو الناس أن يتوبوا (أعمال 2: 38) وأن "يرجعوا لتُمحى خطاياهم" (أعمال 3: 19). ويبشّر الرسل أنّ يسوع أتى "ليُعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا" (أعمال 5: 31)، و"الأمم التوبة للحياة" (أعمال 11: 18).

ويدعو يعقوب، أخ الربّ، المسيحيّين أن يسعوا أن يُعيدوا الخطأة إلى الصواب (يعقوب 5: 19).

وقد بدأ بولس  تبشيره بقوله إنّ "الله يأمر جميع الناس في كلّ مكان أن يتوبوا" (أعمال 17: 30). ويؤكّد أنّه أخبر كلّ الذين بشّرهم "أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله عاملين أعمالًا تليق بالتوبة" (أعمال 26: 20). ويفرح بولس من توبة بعض الكورنثيّين (2 كورنثوس7: 9)، ويطلب من تيموثاوس أن يُرشد العاصين، على أمل أن يعطيهم الله نعمة التوبة (2 تيموثاوس 2: 25).

ويناشد كاتب الرؤيا الكنائس السبع أن "يتوبوا ويعملوا الأعمال الأولى" (رؤيا 2: 5، 16، 21 و3: 3 و19).

أمثال من العهد الجديد في التوبة والتائبين

نتذكر موقف بطرس بعد نكرانه الربّ ثلاث مرّات، وتوبته وبكائه الذين جعلا يسوع المسيح يغفر له ويُعيده إلى رتبته الرسوليّة، بقوله له، ثلاث مرّات: "أتحبّني... أرعَ خرافي" (يوحنّا 21: 15-17).

ونذكر وضع يهوذا الذي أسلم الربّ، ولم يثق برحمته واستعداده الدائم للغفران، ولم يتب، بل وقع في اليأس، وقتل نفسه.

ونجد مثالًا آخرًا على التائب في اللصّ الشكور الذي صُلب مع يسوع، واعترف بأنّه اقترف ذنوبًا وطلب المغفرة، فدخل الملكوت. أمّا اللصّ الثاني، فتجبّر في غيّه و"تحدّى" يسوع، فمات بدون خلاص.

ولا بدّ من ذكر مثلين من أمثلة يسوع: مثل العشّار (لوقا 18: 9-14)، ومثل الابن الشاطر (لوقا 15: 11-32). يُظهر مثل الفرّيسيّ والعشّار شخصين، الفرّيسيّ الذي يتمتّع بمركز مرموق ضمن شعبه ويتبع النابوس بحذافيره، والعشّار المتعامل مع الاحتلال الأجنبيّ، وتاليًا المحتقر من شعبه. كان الأوّل مكتفيًا بذاته، ولا يشعر أنّه بحاجة إلى التوبة. ويعتقد أنّ أعماله سوف تخلّصه. فشكر الله على تفوّقه على باقي الناس، وأدان العشّار. أمّا العشّار فأعطى صورة جليّة عن التائب الحقيقي، باعترافه بتواضع بخطاياه ووضع خلاصه برحمة الله وطلب منه الغفران. مرّة أخرى في هذا المثل، يقلب يسوع المقاييس. فالبارّ ليس الذي يحافظ على الناموس، بل مَن يعترف بخطاياه. وينتهي المثل بالقول إنّ "كلّ مَن يرفع نفسه يتّضع، ومَن يضع نفسه يرتفع" (الآية 14).

أمّا مثل الابن الشاطر، فيُظهر ثلاثة أشخاص، الأب وابنيه: الإبن الأكبر الذي يطيع أوامر أبيه، والأصغر الذي يتركه ليعيش" عيشًا مُسرِفًا"، ويدنّس نفسه "بالإلتصاق بغريب" وينتهي إلى رعاية الخنازير، الأمرين المحرّمين من الدين اليهودي (أعمال 10: 28). يقع هذا المثل في إنجيل لوقا بعد مثلين (مثل الخروف الضال (لوقا 15: 4-7) ومثل الدرهم المفقود (لوقا 15: 8-10)) الذين يشيران إلى فُقدان الخروف والمال، والفرح الذي يسبّبه إيجادهما. ما يريد المسيح قوله في هذين المثلين، إنّ الله يرغب في عودة الخطأة إليه، ويفرح عندما يعودوا، قائلًا: "يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًّا لا يحتاجون إلى التوبة" (الآية 7)، و"يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب" (الآية 10). وقد نطق الربّ بهذين المثلين (كما بمثل الإبن الشاطر) ليجاوب اتّهامات اليهود بأنّه يهتمّ بالخطأة ويجالسهم.

ويمكن إيجاد بعض التشابه بين مثل الإبن الشاطر ومثل الإبنين (متّى 21: 28-31)، حيث رفض أحدهما تنفيذ أمر أبيه، ثمّ "ندِم" وفعل، بينما وافق أخوه الأمر الوالدي، لكنّه لم يُنفذه. وقد أنهى الربّ هذا المثل بتأنيب اليهود بعدم إيمانهم به، وبقوله لهم إنّ "العشّارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله... وأنتم لم تندموا" (الآيتان 31-32).

أمّا مثل الإبن الشاطر فيصف حالة الخاطئ ومراحل التوبة. "يرجع إلى نفسه" (الآية 17) أوّلًا، ويتذكّر النعمة التي كان يحظى بها عند أبيه (الآية 17)، ويعي خطيئته، ويقرّر أن يتوب عنها، ويُعلنها لأبيه (الآية 18)، قائلًا : "أخطأت إلى السماء وأمامك". ويحوّل نيّته إلى فعل، عندما "قام وجاء إلى أبيه" (الآية 20).

هذا بالنسبة إلى توبة الخاطئ. لم ينتهي المثل بذلك، إذ ثمّة أمرين آخرين أراد أن ينقلهما: رأفة الأب وموقف الأخ الأكبر. يبيّن يسوع، هنا أيضًا، محبّة الآب السماوي وحرصه أن يعود الخطأة إليه، وفرحه كلّما يعود أحدهم إلى الحياة بعد موت سبّبته الخطيئة (الآية 32). هنا أيضًا يبرز التضاد بين "فقدان" الإبن وإيجاده، كما في مثليّ الخروف الضال والدرهم.

أمّا التعليم الثالث لمثل الإبن الشاطر فيكمن في موقف الأخ الأكبر الذي يشبه الفرّيسي في مثل الفرّيسي والعشّار.

التوبة عند الآباء

قد شدّد الآباء على ضرورة التوبة. فيقول يوحنّا السلّمي: "عند مثول نفسنا أمام الربّ، لن نُحاكم لأّنّنا لم نصنع معجزات، ولم نتكلّم باللاهوت، ولا لأنّنا لم نصل إلى المشاهدة، لكن علينا حتمًا إعطاء جوابًا لله على كوننا لم نتوب باستمرار"[2].

ويصرّح أسحق السرياني بجسارة: "مَن يعرف خطاياه أعظم من الذي يُقيم الموتى بصلاته. ومّن يبكي ساعة على نفسه أعظم من الذي يخدم كلّ العالم. مَن أُعطي له أن يرى ذاته أعظم من الذي أُعطي له أن يرى الملائكة"[3].

ويعلّمون أنّ التوبة هي الطريقة الوحيدة للمحافظة (والإستعادة) على الحالة التي اكتسبناها بعد المعموديّة. يقول الذهبيّ الفم إنّه يمكن العودة "إن أردنا، واستعادة الجمال الأوّل إن جاهدنا من أجل ذلك... وإن أظهرنا توبة جدّيّة وصادقة"[4]. ويقول سمعان اللاهوتي الجديد: "يحتاج إلى التوبة مَن تدنّس بأعمال قبيحة ومعاصٍ بعد المعموديّة، لكي يستعيد الكرامة الإلهيّة التي فقدها بحياته في الخطيئة"[5]. ويقول أيضًا إن الله منح البشر علاج التوبة "لكي يستعيد به الحياة الأبديّة التي سقط منها بسبب كسله أو تهاونه"[6]. ويقول يوحنّا السلّمي إنّ "التوبة هي استعادة للمعموديّة"[7]. ويدعوها اسحق السرياني "ولادة جديدة"[8]. ويدعوها غريغوريوس بالاماس[9]، وغريغوريوس النزينزي[10]، ويوحنّا السلّمي[11]، وسمعان اللاهوتي الجديد[12] "معموديّة ثانية".

التوبة هي وصيّة الله الأولى، حسب قول سمعان اللاهوتي الجديد[13]، وقد "أسّس يسوع المسيح ناموس الحريّة ... وحدد هدفًا ملائمًا للجميع بقوله: توبوا، لكي نفهم أنّ تنوّع الوصايا يُلخّص بوصية واحدة هي التوبة"[14]. تفترض التوبة "قرارًا بعدم الوقوع مجدّدًا في الخطيئة"[15]. يؤكّد ذلك أيضًا الأنبا بيمِن[16] ويوحنّا السلّمي[17].

وتفترض التوبة أيضًا معرفة الذات. يقول أفرام السرياني إنّ "الخلاص يبدأ بمعرفة الذات"، ويطلب أحد آباء الصحراء الشيوخ أن نقوم "بفحصٍ للضمير صباحًا ومساءً، ونتساءل عمّا فعلنا أو لم نفعل ما يريده الله منّا"[18]. أمّا دوروثيوس الغزّاوي فينصح بإجراء فحص الضمير كلّ ستّ ساعات[19]. يجعلنا فحص الضمير هذا نعرف ذلاتنا. يقول برصانوف: "طوبى لك إن عرفت ذلّاتك، لأنّ مَن يعرفها يمقتها ويتخلّص منها"[20]. ويصف السلّمي: الخطيئة "كجرح في النفس يُفقدها السلام الداخلي ويؤلمها"[21]. ويقول المرنّم إنّ "الروح المنكسر والقلب المنسحق لا يُرذلهما الله"[22]. فعلى الخاطئ أن يسعى أوّلًا إلى معرفة خطيئته، ويحزن على ما اقترفه ويتوب عنه ويقرّر العودة إلى الله[23].

وينصح معظم الآباء بأن نبقى على ذكر الخطايا، حتّى بعد أن تكون قد غُفرت، "لأنّ ذكر الماضي هو ضمانة المستقبل"[24].

ويقولون إنّ على التوبة أن تكون على كلّ الخطايا المعروفة وحتّى التي لا نعرفها[25]. ويردّدون قول يعقوب أخي الربّ أنّ الخطيئة تكمن أيضًا بعدم صنع الخير (يعقوب 4: 17).

ويعتبر الآباء الخطيئة مرضًا، "والتوبة دواؤها المعطى من الله"[26]. ويقول الذهبيّ الفم: "مَن لا يعرف مرضه لا يهتمّ به ولا يريد العلاج"[27]. وأخيرًا، يقول سمعان اللاهوتي الجديد إنّ "التوبة هي الباب الذي يُخرِج من الظلمة ويُدخل إلى النور"[28].

التوبة انقلاب جذري للذات

تقتضي التوبة إذًا رجوع النفس إلى ذاتها، ومعرفة أمراضها والإقرار بها والأسف عليها، والقرار بعدم إقترافها مجدّدًا. فالتوبة هي تحوّل كامل في موقف الخاطئ. يستعمل الكتاب المقدّس عبارة "مِتانويا"  ((metanoia اليونانيّة للكلام على التوبة. تعني تغييرًا كلّيًّا في مجرى الحياة، وانقلاب القلب، ومقت الإنسان العتيق والتوق إلى الجديد.

تسمح التوبة باستعاد المحبّة بين الله والإنسان

لا يَظُنَّنَّ أحدٌ أنه مُستَثنى ممّا سبق وقيل على التوبة. علينا أن نعيش بذهنيّة العَشّار والإبن الشاطر التائب، أو على الأقلّ بذهنيّة اللصّ الشَّكور على الصّليب، لإعادة صلة المحبّة بيننا والخالق.

إذا تُبنا إلى الله يتوب إلينا

يهتف يوحنّا الذّهبي الفم، مُندَهِشًا من توبة أهل نينوى، ويقول: "لقد رأينا الله يبدّل كلامه من أجل محبّته للإنسان. لقد تابت نينوى وتاب الله. التوبة مزّقت صك الهلاك… إنّها تحصل في الأرض، لكنّها تبدّل الأشياء في السماء".

التوبة والدموع

تقتضي التوبة الحقيقيّة الدموع، التي هي علامة حضور الروح القدس. يقول الآباء إنّ الدموع هي معموديّة أخرى، تجدّد الإنسان.

أنواع التوبة

ثمّة نوعان من التوبة، توبة الرعدة، وتوبة المحبّة. تشمل النفس البشريّة رعدة قبل أن تملؤها المحبّة. تختصّ الأولى بالمبتدئين في الجهاد الروحيّ، إذ يولّد الإيمان فيهم مخافة الله، فيخافون من العقاب، ولذلك يطيعون الله، ويريدون إتمام وصاياه. أمّا توبة المحبّة، فتكمن في الخوف من أن نُحرم من محبّة الله ومن خيرات صلاحه. يصف غريغوريوس، بابا رومية، هاتين التوبتين، قائلًا: "تبكي النفس أوّلًا على خطاياها (وتخاف من العقاب)... ولكن بعد أن تضمحل الرعدة، وتتأكّد أنّها حصلت على المغفرة، يشتعل ذهنها بمحبّة أفراح السماء... تجرّ التوبة الممزوجة بالرعدة النفس الى توبة المحبّة"[29].

حالة التائب

يتكلّم سمعان اللاهوتيّ الجديد على حالة التائب بهذه بعبارات الملهَمة، قائلًا:"يريد (الله) روحًا نادمًا وقلبًا تائبًا ومتواضعًا، واسعدادًا للتحدّث معه بشعور تسليم. فأقول له: "تُرى مَن أنا، يا ربّي وسيّدي وإلهيّ، لأنّك نزلت وتجسّدت ومتّ من أجلي، لكي تنقذني من الموت والفساد، وتضمّني إلى مجدك وألوهتك، وتجعلني أشترك بها؟". عندما تكون في مثل هذه الحالة بما يخصّ تحرّكات قلبك غير المنظورة، ستجد السيّد كلّي الاستعداد لضمّك سرّيًّا إلى ذراعيه ولتقبيلك ومنحك روحًا مستقيمًا في داخلك، روح حريّة ومغفرة لخطاياك. وتجده مستعدًّا أكثر من ذلك كلّه، ليكلّلك بالمواهب ويعطيك الحكمة والمعرفة... ويسكن الله ويستريح في نفسك، محصّنًا إيّاها ضدّ مكايد الشيطان وجميع علل الخطيئة المسيئة. فلا يزهر فيها سوى ثمار الروح: المحبّة والغبطة والسلام والوداعة والصلاح والبرّ واللطف والتواضع وضبط النفس. ويتبع هذه الفضائل المعرفة الإلهيّة وحكمة الكلمة وبحر مقاصد المسيح الخفيّة وأسراره. مَن يصل الى هذا الحدّ ويستقرّ فيه بقوّة، يمتلىء غبطة لا توصف، تنبع من محبّة الله، هذه المحبّة التي لا يمكن للمرء الاقتراب منها قبل تنقيّة قلبه بواسطة التوبة والدموع الغزيرة، وقبل الغوص في بحر التواضع

التوبة هدف الحياة

يقول اسحق السرياني: "لقد نلنا هذه الحياة من أجل التوبة. فلا تهدروها بالبحث سدىً عن أشياء أخرى"[31]. ويذكّرنا يوحنّا السلّميّ أنّ "التوبة إبنةٌ للرجاء وجحودٌ لليأس"[32].

لا تتوّقف عن التوبة

يقول ثيودوروس الستوديتيّ، مرشدًا رهبانه:"إن خطئنا سبعة مرّات في اليوم، فالنندم سبع مرّات، وسنلقى الترحاب. وإذا وقعنا سبعين مرّة سبع مرّات، فلتكون توبتنا مماثلة. ولا نفقد الرجاء، كما وعدنا الربّ. يكفي أن نثابر. أرجوكم ألّا تفقدوا العزم، محاربين أيّ اسرخاء فيكم"[33]. وقد قال أنطونيوس الكبير، قبيل رقاده، مجاوبًا على سؤال عمّا سيفعل إن طال عمره: "سوف أتعلّم أكثر كيف أتوب"[34].

القدّيس التائب يعتبر نفسه أكبر الخطأة

لا يعرف القدّيسون أنّهم قدّيسون، وكلّما تقدّموا في درب القداسة، كلّما يعتبرون أنفسهم خطأة. لأنّهم لا يقارنون ذواتهم بالبشر، بل بقداسة الله. لذا يقول بولس الرسول: "جاء يسوع إلى العالم ليُخلّص الخطأة الذين أنا أوّلهم" (1 تيموثاوس 1: 15).



[1]  العظة حول التوبة والهداية، التي وصلت إلينا تحت إسم الذهبيّ الفم، 2.

[2]  سلّم الفضائل 7، 73.

[3]  المقالات النسكيّة، 34.

[4]  العظات في المعموديّة، 5، 24.

[5]  المواعظ التعليميّة 30، 129.

[6]  المقالات في الأخلاق 2، 7، 305.

[7]  سلم الفضائل 5، 2.

[8]  المقالات النسكيّة، 72.

[9]  الثلاثيّة، 2، 2، 17.

[10]  المقالات، 39، 17.

[11]  سلّم الفضائل، 7، 8.

[12]  المقالات التعليميّة، 32، 59، والفصول اللاهوتيّة والمعرفيّة والعمليّة، 1، 36.

[13]  المقالات التعليميّة، 55.

[14]  مرقس الناسك، في التوبة 1.

[15]  يوحنّا كاسيانوس، المحاضرات، 20، 5.

[16]  أقوال الآباء الشيوخ، 122.

[17]  سلّم الفضائل، 5، 2.

[18]  الأنبا نيثِروس، أقوال الآباء الشيوخ، 6.

[19]  الإرشادات الروحيّة، 11، 117.

[20]  الرسائل 498.

[21]  المرجع عينه، 5، 2.

[22]  المزمور 50، 19.

[23]  سلّم الفضائل 5، 3، الإرشادات الروحيّة لدوروثيوس الغزّاوي 11، 117 والرسالة إلى أهل فيلبيّ 3: 13.

[24]  الذهبيّ الفم، العظة السابعة في التوبة، 4.

[25]  برصانوف، الرسائل، 394.

[26]  سمعان اللاهوتي الجديد، المواعظ التعليميّة، 2، 7، 305.

[27]  العظات في الشياطين، 2، 5.

[28]  المواعظ التعليميّة، 28، 128.

[29]  الحوارات، 3، 34، 2.

[30]  في المناقب، 8.

[31]  في المقالات النسكيّة.

[32]  السلّم إلى الله، 5، 1.

[33]  الخطب التعليميّة القصيرة، 111.

[34]  أقوال الآباء الشيوخ.

المشاركات الشائعة