تأمّلات في الرجوع إلى المحبّة الأولى 4

 ريمون رزق

النور - العدد السادس   2017


مرجوّات

بعد التوقّف في المقالات الثلاثة السابقة على التوالي بمنطلقات المحبّة الأولى الإنجيليّة وفي أقوال المؤسّسين والوثائق الحركيّة اللاحقة، والنظر بالتغيّرات التي حدثت في الواقع الكنسي والعام بين زمن تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وأيّامنا، لا بدّ الآن الاستفادة من الماضي والحاضر للتطلّع إلى المستقبل، على رجاء أن يكون محافظًا على الأسس ومنفتحًا على التغيّرات لتستمر الشهادة بواسطة أنيتنا الفخّاريّة للرب يسوع في كنيسته والعالم.

أفكار ومشاريع جديدة

على العمل الحركي أن يأتي بأفكار ومشاريع جديدة أو على الأقّل أن يعيد صياغة أهدافه وأساليب عمله لجعلها أقرب منالاً وأكثر جاذبيّة للأجيال الصاعدة. لا بدّ أن تؤمّن تلك الصياغة بساطة في التعبير، ووضوح في الرؤية وواقعيّة في الهدف. شباب اليوم غالبًا يريدون قبل أن يلتزموا أن يفهموا المبتغى ويدركوا الطريق ويتصوّروا الفائدة العمليّة الناجمة عن التطبيق، وخاصّة أن يقتنعوا أنّ مَن يدعوهم إلى الالتزام ليس الحركة أو المؤسّسة الكنسيّة، بل يسوع نفسه الذي يريدهم عملة في كرمه. لا بدّ أن تسبق إطلاق تلك الأفكار والمشاريع ورش تفكير جماعي تدرس الواقع، تقدّر الحاجات وتساهم في بلورة المشاريع وطريقة الإعلان عنها.

أتوقّف فيما يلي عند عض المرجوّات علّها تكون منطلقًا لورش التفكير هذه. إنّها مرتكزة على القناعة أنّ العمل الكنسي يمرّ على الصعيد المحلّي والعالمي بمصاعب كبيرة لا يعرف دومًا التعامل معها، وهو تاليًا بحاجة ماسّة إلى "انتفاضة" حقيقيّة تنقلب على الرتابة والترداد وتسترجع "العنف" الإنجيلي لاستعادة حدّة الكلمة الإلهيّة. وهذه القناعة مرتبطة بقناعة أخرى هي ضرورة أن يأخذ الشباب دورًا فعّالاً في هذه الانتفاضة، كأنداد لمَن يكبرهم سنًّا، إذ هم أكثر من غيرهم موجودون على أرض الواقع الراهن ويشعرون أكثر من الكبار بمآسي الزمن المعاصر ,غيجابيّاته كما سلبيّاته، بينما الكبار، حتّى إن أرادوا أن يحافظوا على شباب القلب يصعب عليهم أن يتخلّصوا ممّا عاشوه، معتبرين أن الجيل الصاعد هو حتمًا كما كانوا بعمره، وبذلك يضلّون في تعاطيهم معه. لا بدّ من مشاركة عميقة بين الأجيال في الحركة والكنيسة في التفكير لتتفاعل حميّة الشباب وتطلّعاتهم مع دراية الكبار وخبرتهم.

على صعيد الحياة الحركية الداخليّة

1- العضويّة
* لا بدّ من الملاحظة في هذا السياق أنّ فترة الموعوظيّة في الكنيسة الأولى كانت تمتدّ إلى قرابة ثلاثة سنوات، يتتلمذ خلالها الموعوظ على الحياة في المسيح ومع الأخوة في أصعدتها المختلفة قبل أن تُفحص سيرته بدقّة ويمثل أمام الأسقف الذي يعطيه إرشادًا خاصًّا، وذلك كلّه قبل أن يُعمَّد. لا بدّ أن تكون لعبت هذه التهيئة دورًا أساسيًّا في جدّيّة التزام المسيحيّين الأوائل. ألا يجب أن يُعاد النظر في مرافقة المعمّدين وتوجيههم وإعادة أبتكار دورًا جديدًا فعّالاً للعرّابين؟

2- الأخلاق
من المؤسف الملاحظة أنّ كثيرًا من أبناء الكنيسة والحركيّين لا يتميّزون عن غيرهم من أهل العالم بما يخصّ استقامة أخلاقهم ودفء لسانهم وامتناعهم عن الإدانة والثرثرة. يبدو أنّ كلام الآباء الجوهري في عدم إدانة الأخ، مهما فعل، والسعي لمحبّة منتقديهم لم يعد كلامًا مقبولاً، وعلى الأقل غير معاشًا. يبتعد الناس عن الحظيرة بسبب تصرّفات بعض أعضائها وقوّادها التي تفتقد إلى السماحة والمحبّة. إنّه جرح أكيد أنّنا لم نتمكّن دومًا أن نقول للناس "تعالوا وانظروا" كيف نحبّ بعضنا البعض، وكم نصفح لمبغيضينا، شهادة منّا لالتصاقنا بالربّ يسوع. لا يزال الإنسان العتيق يبرز فينا، ولا يبدو أنّنا نعي خطورة هذا الواقع بما فيه الكفاية لنأخذ التدابير الضروريّة لتقويمه. إنّ رذيلة الثرثرة ومراقبة الناس لانتقادهم، لا اتقويمهم، متجذّرة في أوساطنا، نبرّرها غالبًا بأنّنا ندافع عن الحقيقة ونحارب الشذوذ (الجنسي وغيره)! لم أسمع أن محاربة هذه الرذائل واقتلاعها من أوساطنا (وقلوبنا) أخذتا قسطًا وافرًا من اهتمامات الحظيرة. لقد حان وقت المبادرة لاقتلاع الخطيئة بدون إدانة الخاطىء!

3- التكريس في الحركة
لا أعرف مدى وعي الموؤمنين أنّهم جميعًا مدعوّون إلى تكريس حياتهم كلّها ليسوع ولكنيسته، وأنّ التكريس واحد دعانا الله نفسه إليه عندما مسحنا في سرّ الميرون المقدّس. الكنيسة بحاجة دومًا إلى مزيد من الكهنة والرهبان (والمطارنة حسب قلبه). إن أحببناها حقًّا، علينا حث الناس وتهيئتهم بأجدى الأساليب ليتجنّدوا في هذا الحقل، وإلا سيحرثه مَن يعتقدهم البعض "متزمّتين" ومتعلّقين بالحرف، وهم كثر. علينا العمل على تخطّي في أوساطنا الاعتراضات والسلبيّات التي سبق وذكرناها في هذا الشأن والعمل على إقناع شبابنا على هذا الالتزام الكلّيّ. كانت العادة في الكنيسة أن يُلاحظ الشعب المؤمن مَن اتّسم بشيء من الإلهام وقدسيّة التصرّف ويدعوه لرعايته. أيمكن أن يقوم بذلك الجسم الحركي ويُقدّم بعض أعضائه "قربانًا" لكنيسة الربّ؟

وكذلك يستحق التيار النهضوي في كنيسة أنطاكية أن يكرّس له بعض الشباب حياتهم. أعرف أنّ كثيرين يعطون من وقتهم الكثير الكثير. لكن أعتقد أنّنا بحاجة إلى أكثر. ألا تستحق النهضة أن يعطي بعض المقتنعين بها كلّ وقتهم، أو على الأقل قسمًا كبيرًا منه ليخدموا في مجالات مختلفة؟ إنّ كانت الجماعة الكنسيّة جادّة سيتؤمّن لهؤلاء العيش الكريم خلال فترات "تكريسهم". أرى أنواعًا ثلاثة من هذا التكريس.

- يُلاحظ الإخوة إثنين أو ثلاثة من المميّزين بالتزامهم وجدّيتهم ووضوح رؤيتهم واستقامة حياتهم ومعرفتهم ومثابرتهم على الشهادة وسعيهم الحسيس لاكتساب الحياة في المسيح، وحتمًا ميزاتهم القياديّة. هؤلاء يمكن أن يكونوا كهنة أو علمانيّين، لا فرق. يُلاحظون ويُدعون ليكون شغلهم الشاعل العمل النهضوي ونقل الرؤية والسهر على وحدة المسيرة في سائر أنحاء الكرسي الأنطاكي. هؤلاء قد يصبحون النواة الأساس في قيادة النهضة. عليهم أن يتجوّلوا في سائر أنحاء الكرسي، ليشدّدوا العزائم، يقوّموا الشطط إن وُجد على أرض الواقع، ويسهروا على إطلاق المشاريع ويذكّروا بضرورة حمل صليب يسوع والانتفاضة على كلّ ما يخالف روحه القدّوس وكلّ تباطؤ أو تخاذل أو انحراف. قامت الحركة على مثل هؤلاء المكرّسين الذين أعطوا معظم أوقاتهم لنشر التيّار النهضوي وتوطيده. كانوا النواة التي اجتمع حولها كثيرون واكتسبوا، بالاحتكاك الشخصي المباشر بهم، فكرًا واحدًا وروحًا واحدة وأساليب عمل متجانسة. أخصّ بالذكر إلى الأب جورج (خضر)، الأب قسطنطين (باباستيفانو)، والأب استفانوس (حدّاد)، والأب إلياس (مرقس)، والأب يوحنّا (منصور)، والشمّاس أسبيرو جبّور، والأخ كوستي بندلي والاخ كابي حبيب، وغيرهم. تتلمذ كثيرون على أيديهم، ونحن بحاجة اليوم إلى أمثالهم.

- أمّا النوع الثاني من التكريس "الحركي" فيمكن أن يتكوّن من شباب وشابات أنهوا دراستهم (الثانويّة أو الجامعيّة) وقرّروا، بملء إرادتهم، أن يكرّسوا، قبل ولوجهم دنيا العمل، سنة من عمرهم لخدمة المسيح في إطار الكنيسة، على أن يوضع لهم نظامًا تدريبيًّا مكثّفًا يقضي بأن يعيشوا فترة من الحياة المشتركة وينشطوا حيث يُطلَب منهم. ومن البديهي أن يتكفّلهم الأخوةالآخرون كلّيًّا.

- من دون تقليل أهميّة التقليد الرهباني الأرثوذكسي الذي يشدّد على الحياة المنعزلة، ومع التذكير أنّه وجد في القسطنطينيّة العديد من الأديرة في المدينة، وأنّه يوجد الآن هذا النمط في عدد من البلدان الأرثوذكسيّة، لا بدّ من القول إنّ الكرسي الأنطاكي يفتقد "أديرة" في المدن، يضمّون أناسًا يعملون في العالم، قرّروا أن يعيشوا معًا في مكان واحد، يتشاركون في الخيرات ويخصّصون كلّ أوقاتهم للصلاة والخدمة. أعرف أنّ بعض شبابنا حلم منذ أكثر من أربعين سنة بمثل هذه الحياة، كما أذكر أنّ الأب جورج (خضر) دعى آنذاك بعضًا من المتزوّجين الملتزمين كنسيًّا أن يبنوا "قرية" شاهدة. لم يُعطى لجيلنا أن يحقّق شيئًا من ذلك. أيمكن لشباب اليوم أن يفعلوا ما فشلنا في تحقيقه؟!

4- التلمذة والإرشاد
حتّى إن وجب تقليص بعض النشاطات لا يجوز إسناد مسؤوليّة الإرشاد في الحركة لمّن لا يُشهد له بمحبّة الربّ والناس والسعي الدؤوب لحفظ وصاياه. على المرشد أن يُلهِم مَن أُسند إليه وأن يجعل أعضاء فرقته يتبنّون أوّلاً قانونًا للحياة في المسيح[1] يختارونه، تتمحور حوله البرامج والنشاطات. عليه أن يحثّهم للدخول في ميثاق مع الله والأخوة يتعهّدون من خلاله التزامًا واضحًا في الكنيسة والحركة، مستعدّين لبذل كلّ ما لديهم من طاقات من أجل يسوع الساكن في الكنيسة وفي كلّ واحد من أخوتهم، حتّى الذين يجهلونه. على المرشد أن يطبّق أوّلاً هذا العهد في حياته، داعيًا أعضاء الفرقة لالتزام هذا الميثاق بمثاله الحيّ. عليه أن يسهر أن يصيروا حقًّا "رفقاء طريق، حاملو الإله، وحاملو الهيكل، وحاملو المسيح" (أغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى أفسس 9: 2).

إضافة إلى قانون الحياة الذي لا بدّ على كلّ مَن يريد العمل في الحقل الكنسي أن يتعهّده، :اهنًا كان أو علمانيًّا، لا بدّ من تنظيم حلقات خاصّة بالمرشدين، صلاتيّة ودراسيّة، تتضمّن مداخل مناسبة على الكتاب المقدّس، والصلاة، والحياة الليتورجيّة والأسرار، والفكر الآبائي المتعلّق بالإنسان والحياة في المسيح والتألّه والفقر وغيرها من المواضيع، ومحاربة الأهواء والتوبة وسرّ المصالحة، وحياة المسيحيّين الأوائل، وتاريخ الكرسي الأنطاكي والكنيسة،والتدريب على القيادة، وعلم نفس المراهقين، وتحديّات العصر، والفكر النهضوي وتاريخه...

5- البرامح الضروريّة
سبق للحركة أن وضعت مرارًا برامج شاملة للفرق على اختلاف مستوياتها ونوعيّتها، وقد أُهمل بعضها مع الوقت. يُستحبّ أن يُصار إلى رصدها والخروج بهيكليّة برنامج حركي موحّد يشمل الحد الأدنى من الأمور الأساسيّة في التربيّة تاركًا المزيد لحريّة كلّ فرقة.

ولا بدّ من الملاحظة في هذا السياق أنّنا لا نسعى بما فيه الكفاية للتركيز في حياة الفرق على كيفيّة عيش القدّاس الإلهي والتعاطي مع الكتاب المقدّس لأنّهما المدخل الأفضل لارتباط وثيق بالربّ يسوع وبالأخوة.

كثيرًا ما يبدو لي أنّنا نتعاطى مع القدّاس الإلهي كشأن فرديّ يستقي منه كلّ واحد ما يناسبه، معتبرًا أنّ المناولة التي ينتهي إليها (أحيانًا بدون توبة واعية) تبرّره. لا نعي دومًا أنّ القدّاس هو مسيرة جماعيّة تستحيل بمَن يشترك فيه عضوًا في جسد المسيح، وتاليًا أخًا لكلّ البشر. تبدأ هذه المسيرة قبل بدء القدّاس ولا تنتهي بانتهائه. القدّاس قمّة حياتنا المسيحيّة التي تنير كلّ أيّام أسبوعنا وتجعلنا نخرج من الكنيسة مسلّحين، ليس فقط بجسد الربّ ودمه الكريمين ن بل بما يفرضانه علينا من وحدة كيانيّة مع الربّ ومحبّة أخويّة ودعوة لخدمة يسوع في البشر، بواسطة سرّ القريب. من هنا ضرورة أن اختبار هذا الواقع أعضاء الفرقة الواحدة معًا لتوطيد وحدتهم وتمتين محبّتهم، ووعيهم المشترك أنّهم يساهمون في تكوين كنيسة الربّ في كلّ قدّاس إلهي وممارسة كهنوتهم الملوكي فعليًّا. هل نشدّد في إرشادنا على مسيرة القدّاس هذه التي توصلنا معًا إلى السماء وتعيدنا إلى الأرض مزوّدين بالمواهب الإلهيّة التي يغدقها علينا الروح؟ ألم نكتفي في شرحنا للقدّاس الإلهي غالبًا بشرح الرموز والطقوس، مغفلين هذه المسيرة-الحجّ إلى ملكوت السماوات ("مباركة هي مملكة الآب والابن والروح القدس) واستذواقه مسبقًا؟

أمّا التأمّل بالكتاب المقدّس، فعلينا أن نشدّد في إرشادنا أن يكون عمليّة لقاء مع الربّ وحوار معه، نتعلّم من خلالهما كيف علينا أن نتصرّف لكي نتمثّل به ونعامل الآخرين كما فعل. حبّذا التفسير العلمي إذا كان هدفه توطيد هذا اللقاء الشخصي مع يسوع من خلال فهمٍ أفضل لكلامه، وإدراكٍ سليم لتصرّفاته. التأمّل الكتابي هو حوار بين متكلّم هو يسوع وروحه القدّوس، من خلال الذين كتبوه، والقارئ، حوار يتعلّم منه الإنسان القارئ كيف عاش بين البشر الإنسان-الإله المتكلّم، ويتمثّل به. الحياة في المسيح التي نتذوّقها في القداس الإلهي ننمّيها فينا ونحافظ عليها خلال الأسبوع بواسطة هذا التأمّل الذي يجب أن يكون يوميًّا. كان الإنجيل لا يفارق الحركيّين الأوائل حيث ما ذهبوا. أنحن لا نزال نتمثّل بهم اليوم؟

6- إحياء التبشير في مجالات جديدة
على الكنيسة والحركة فيها أن تنطلق خارج حدود الرعيّة الضيّقة والذهاب عمليًّا وراء الخراف التائهة من شعب الله. ذكرنا آنفًا بعض الحاجات في المدارس والجامعات. ذكرنا الأكثريّات الصامتة التي تبتعد باضطراد عن الكنيسة الأم. ولا يوجد مَن يسأل. كيف تدعو الحركة في مبدئها الأوّل "سائر أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة" إلى النهضة، إن لم تسعى التواصل معهم ومحاورتهم؟ من الضرورة رصد الأوساط الأرثوذكسيّة الكائنة في كلّ موقع جغرافي التي ليس لها علاقة مع الكنيسة، ووضع الخطط والأساليب للوصول إليها. من هذه الأساليب الاتّصالات المباشرة والمحاضرات واستعمال أدوات التواصل الاجتماعي. يتطلّب كسر العزلة التي تضع الأوساط الكنسيّة نفسها فيها، وتنمية روح الانفتاح واليقين أن الويل لنا إن لم نبشِّر!

7- الخدمة الاجتماعيّة.
ليست نشاطًا كسائر النشاطات التي تقوم بها الكنيسة. إنّها الأولى "لأنّي لم أتي من أجل الأصحاء، بل من أجل" المرضى والمكسورين والمضطهدين، الذين غالبًا لا نراهم كثيرًا في كنائسنا. نتغنّى نحن الأرثوذكس بالكلام على "سرّ الآخر" ونكتفي غالبًا ببعض النشاطات الطبيّة والاجتماعيّة والإعانات الظرفيّة، بينما يتكاثر حولنا الجوع، وتشرّد الحروب مَن تشرّد ولا أحد يدري، أو إذا وعى، يتجاهل. أين التزامنا المشرّدين في لبنان مثلاً، من أهل البلد والآخرين؟ أين المشاريع التي تشجّع أهلنا على البقاء في بلدهم، من توظيف ومشاريع سكنيّة؟ أين تفعيل البنى للاهتمام بمَن هاجر فعلاً؟ وربّما أبسط من ذلك كلّه أين التعاضد بين أبرشيّاتنا، وساعدة الابرشيات الغنيّة لأخواتها التي ندتكاد لا تملك إلاّ القليل؟ تساؤلات يطول ذكرها إن شئنا ذكر كلّ مجالات "العوز" المادي والكياني الذي يختبره الكثيرون. لا بدّ هنا من انتفاضة حقيقيّة لنعي أن يسوع نفسه يئن في أخوتنا هؤلاء، وما عاد يكفي الكلام الحلو لشفاء جراحهم التي هي جراح المسيح المصلوب، إلهنا.

8. الإعلام والتواصل الاجتماعي: 
بعد محاضرة ألقيتها أمام ممثّلين عن بعض الجمعيّات الأرثوذكسيّة الناشطة في لبنان، اتّضح لي من خلال سؤلاتهم أنّهم يكادوا لا يعرفون شيئًا عن حقيقة الحركة، كأنّ الحركة تعيش في حلقة مفرغة، تعرفها قلّة ممَّن يتعاملون معها، ولا تسعى (وأحيانًا لا يهمّها) أن تُعرَف أكثر من ذلك. ويمكن القول نفسه في ما يختصّ بالكنيسة. ننسى أنّ الإعلام شهادة في عالم اليوم، وأنّه من المجالات الأساسيّة التي يجب أن يطالها التبشير. أعرف أنّ كثيرًا من الأرثوذكسيّين ينشطون في حقل الإعلام الصحفي والإذاعي والتلفيزوني وفي وسائل التواصل الاجتماعي. ألا يجب تجنيد طاقتهم لنقل ليس فقط المناسبات والاحتفالاتن بل شيئًا من فكر أرثوذكسي في وسط يسوده الفكر الغربي أو الإسلامي. كان يطلّ المطران جورج (خضر) في مقالاته الأسبوعيّة في إحدى البصحف اللبنانيّة على مشاكل البلد والناس ويحاول النظر إليها أرثوذكسيًّا ويبشّر تاليًا بعبارات غير التي نسمعها في معظم العظات. أُعطي لنا الآن، والشكر لله ومَن أوجدها،إذاعة أرثوذكسيّة ومكتب إعلامي أنطاكي، ونريدها أن تجنّد الطاقات التي ذكرت ليصبح نقلنا الإخباري فعًالاً وهادفًا، مستعملاً لغة تحاكي الناس.

ولا بدّ في هذا الصدد من ذكر ما يحدث في كثير من وسائل التواصل الاجتماعي من شتم الآخرين، الذي إنّ دلّ على شيء يدلّ على انحطاطنا الروحي وضرورة إعادة تنصير الكثيرين.

9. تنسيق بين المطارح النهضويّة الأرثوذكسيّة
أمام تبعثر القوى الأرثوذكسيّة المتزايد، لا بدّ من سعيٍ لنوع من التنسيق بينها. أرجو أن يخطّط أحد – ويجب أن تبادر السلطات الكنسيّة - لاجتماع (او اجتماعات) يجمع المطارح النهضويّة كالرهبنات، والمعاهد، والجمعيّات للوصول إلى تقيّيم مشترك للواقع الأنطاكي وتوحيد الرؤية وتكامل المسعى، ودرس إمكانيّة تفعيل الأنظمة الأنطاكيّة وإيجاد آليّة لتعويم المجالس الكنسيّة وإحاطة الرؤساء في كلّ أبرشيّة بمجموعة من المؤمنين المخلصين للعمل على الشهادة في مختلف المجالات.

10. تحديّات العصر: 
نمرّ غالبًا مرور الكرام أمام تعداد هذه التحديّات دون الدخول في حيثيّاتها والإشارة إلى إيجابيّاتها وسلبيّاتها إلاّ بالعموميّات. في غياب قول الحق في أمور الحداثة والعولمة والدهريّة والمدنيّة الناتجة عنها، ينجرّ شعبنا إلى ما يأتيه من الغرب ويعتبره من "مكتسبات" الإنسان المعاصر التي لا يعارضها إلاّ "الأصوليّين" والمتعلّقين بديانات مرّ عليها الزمن. ويكون قد مرّ الزمن على كلّ جماعة لا تواجه التطوّر البشري إلاّ بالرفض بدون تبرير ارتكازها على مسلّمات لم تعد مفهومة وتاليًا غير مقبولة من معاصرينا. لذلك نرى أنّ الإجهاض، والموت الهنيء، والتلاعب الجيني، وتفتّة العائلة، والزواج المثلي، والطلاق والمساكنة، والحريّة المطلقة بدون ضوابط، والفردانيّة، إلخ. أصبحت هي أيضًا من المسلّمات.
على الكنيسة التصدّي لهذا الواقع المرير بإيجاد حلقات تبحث هذه التحدّيات بواقعيّة، بعيدًا عن كلّ تزمّت، وتقيّمها على ضوء الإنجيل والتقليد الآبائي، وتعطي العباد رؤية مسيحيّة لها، منبّهة إلى إيجابيّاتها ومحذّرة من سلبيّاتها بشتّى الوسائل.
من البديهي القول في هذا الصدد إنّ على المؤمنين أن يلتزموا أوّلا في حياتهم الشخصيّة مواقف تتوافق مع القيم الإنجيليّة، إذ أنّ الناس ليسوا بحاجة إلى عقائديّين يكتفون بإطلاق الأحكام بل لأناس يقتدون بالمسيح ويبرهنون بمسلكهم إنّ الحياة ليست عبثيّة بل "تقدمة وخدمة ومشاركة وورشة للملكوت الآتي" (كوستي بندلي، في شهادة الجماعة الإفخارستيّة).
على الحركة إقناع أعضائها أنّ الإنسان المسيحي يعرف، أمام هذا المجتمع المتعطّش إلى التملّك، أنّ كلّ ما له هو عطيّة من الله وأنّه ليس سوى وكيل عليه. وأنّه، في عالم يستخفّ الإلهيّات، يدعو إلى ما يبدو عديم الفائدة لكثيرين (الله، الليتورجيا، القداسة، المجّانيّة، الجمال)، بيد أنّه ينير كلّ شيء ويعطيه معنى. وأنّ عليه استعادة هذا "الفرح العظيم" الذي يتحدّث عليه إنجيل لوقا (2: 10، 24: 52) والذي يدعونا المسيح أن نثبت فيه. ويعرف أنّه لن يثبت في هذا الفرح ما لم يستعيد عطشه إلى الله ويقتنع أنّه وحده "الصخرة" و"الكنز الذي لا يُثّمّن"، ويرتمي في أحضانه. وأن يعي أهميّة العلاقة الشخصيّة مع الله في سرّ لقائهما في الصلاة والأسرار، لأنّه إن لم يصلّي الإنسان ويبني علاقة وطيدة مع ربّه، لن يستطع أن يعطي معنى لمَن فقد المعنى. وأمام عالم يوشك أن يفقد كلّ شعور بالذنب، ويُستباح فيه كلّ شيء، يتوجّب على المسيحي ألاّ يخجل من التوبة إذ يعرف أنّه خاطئ، لا بل أكبر الخطأة، لكن خاطئ يُغفَر له. وفي عالم سادته الفردانيّة وانحلّت فيه الروابط العائليّة، ويسمّر فيه الشباب والشيوخ على صليب الوحدة والانعزال، على المسيحيّ الحقّ أن يعرف كيف يحوّل مجموعاته الإفخارستيّة ومؤسّساته الكنسيّة إلى أماكن ضيافة رحبة وشركة وخدمة حقّة، مطارح تُختبر فيها وحدة البشريّة بغضّ النظر عن كلّ اختلاف بالرأي أو الجنس أو المعتقد، مطارح يلتقي فيها الزمن بالأبديّة فنتذوّق مسبقًا طعم الملكوت. وفي عالم يحتدم فيه العنف على المسيحي القضاء على دوامة العداوة والثأر الجهنّميّة بمحبّة أعدائه ولاعنينه. وأخيرًا في عالم يُستباح فيه كلّ شيء بما فيه قدسيّة الحياة، وتبدو الحريّة فيه كأنّها قد أطلقت لنفسها العنان على كلّ الصعد، وخاصّة على صعيد الأخلاق والعلاقات الإنسانيّة، لا بدّ لنا أن نعرف بواسطة ضبط عيشتنا واحترام الآخر وحريّته والانفتاح على اختلافه وبممارسة "الطاعة المتبادلة" معه (أفسس 5: 21)، ومحبّته بعيدًا عن كلّ مصلحة، أنّ "الأمر مختلف بالنسبة إلينا" (لوقا 22: 26) لأنّنا نريد تفعيل اهتدائنا بالربّ يسوع.

11- صعيد علاقة الحركة بالبنى الكنسيّة
تمرّ علاقة الحركة بالرئاسة الكنسيّة منذ سنوات بمدّ وجزر مستمرّين، ولا تزال. لا يمكن قبول هذا الوضع بدون معالجة جذريّة. علينا أوّلا الإقرار أنّ الأوضاع الكنسيّة تغيّرت منذ أن نشأت الحركة، وقد استعملها الربّ في تغيّير بعضها. وتاليًا لا يمكن تكرار المواقف والأفعال وردّات الفعل السابقة. لذلك نحن بحاجة إلى توضيح هذه العلاقة مع الرئاسة وإرسائها على أسس مقبولة من الجميع.
- لا بدّ من ورشة تفكير مشتركة حول الأمور الشائكة: المواهب وتكاملها في خدمة الجسد الواحد، مفهوم الطاعة ودورها، التفاعل والتكامل بين أعضاء شعب الله، النبوّة والمؤسّسة، دور الشباب في الكنيسة، الأبوّة الروحيّة، الكهنوت الملوكي، إلخ...
- هذا من جهة، ومن جهة أخرى، على الحركة أن تعود فتقول قولها عاليًا في الأمور الكنسيّة الشائكة وتدعو إلى الإصلاح. يكون ذلك بدراسة الموضوع بدقّة وإمعان على ضوء الإنجيل والتقليد الآبائي، ثمّ نشر النتائج تكرارًا والدعوة إلى الإصلاح. وفي بعض الأحيان أخذ المبادرات على أرض الواقع. هكذا فعلت الحركة في الماضي، في قضايا كثيرة، أمثال تغيّير الأنظمة الكنسيّة، والمناولة المتكرّرة والطلاق وغيرها من الأمور الرعائيّة. بما يخصّ المناولة، نشرت الحركة مقالات عديدة حول التقليد الأصيل الذي يقضي بمناولة الجميع في كلّ قداس إلهي. ونشرت استشهادات آبائيّة تؤكّد هذا الموقف. وأذكر أنّ عددًا من الشباب الحركي وقف أسابيع متتالية أمام الباب الملوكي في إحدى كنائس بيروت، والكاهن يخرج بالكأس مغطات ممتنعًا عن مناولتهم، إلى أن ناولهم بعد بضعة أسابيع، وهكذا عمّت شيئًا فشيئًا العادة المباركة. أمامنا اليوم العديد من هذه المواقف، أهمّها:
- إعادة النظر بالأنظمة الأنطاكيّة: قد راجع بعض الإخوة الأنظمة الراهنة بطلب من مثلّث الرحمات المتروبوليت إيليّا (صليبا) واقترحوا تعديلات عليها لجعلها أكثر ملائمة مع الواقع. بما أنّه لا يمكن للكنيسة أن تبقى متجاهلة أنظمتها، لا بدّ من تذكيرها بها، واقتراح أساليب التنفيذ.
- العمل الحثيث بشتّى الوسائل على إيجاد مجالس الأبرشيّات ومؤتمراتها، والحث على ممارسة حقيقيّة للشورى.
- كما فعلت الحركة في الماضي بالنسبة إلى المناولة المتواصلة، عليها الآن، أمام تقهقر ممارسة سرّ المصالحة (الاعتراف)، نشر ما يؤكّد أهمّيته والعمل شيئًا فشيئًا إلى إعادة ممارسته.
- القيام بحملة ضدّ ممارسات الطلاق غير القانونيّة المتزايدة.
- مواجهة الممارسات التكفيريّة والأصوليّة بالفكر المستند على الفكر الآبائي الأصيل لا المشوّه أو المجتزء، برصانة ومحبّة لا بالعنف الكلامي، كما يحصل غالبًا.
- الكتابة في أمور الأخلاق والحثّ على فضح كلّ ممارسة مشينة والانحرافات الجنسيّة، بدون التعرّض للأشخاص.
- نشر إنتاج طليعة اللاهوتيّين الأرثوذكسيّين المعاصرين لتجريد الفكر الآبائي من الصنميّة التي تعتريه في بعض الأوساط الأصوليّة.
- الكتابة في مواضيع يجب على الكنيسة أن تلعب دورًا فعّالاً وطليعيًّا فيها، كمحاربة الفقر والظلم والعنف والعمل على الحفاظ على البيئة وإحلال السلام ونشر روح المصالحة.

12- الطائفة والمجتمع
نحن بحاجة مجدّدًا وضع نصّ يوضّح علاقة الكنيسة والطائفة. وعلينا السعي إلى درء التفتّة الحاصل في الطائفة ودرس ما يمكن القيام به في هذا الصدد بالتواصل مع الهيئات المختلفة التي تتّخذ الصفة الأرثوذكسيّة.

هذا بعض من كلّ. أرجو أن تناقش اللإكار بدون – أيضًا وأيضًا – محاكمة الأشخاص وتصوّر النيّات. لا نيّة لي، طالما بارك الله شيخوختي، ولا هدف إلاّ رؤية كنيستي "كنيسة مجيدة لا كلف فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك بل تكون مقدّسة منزذهة عن كلّ عيب". وذلك يتطلّب محبّة وتواضعًا وقبولاً متبادلاً لأبناء شعب الله. فالتفافنا حول رعاتنا وممارسة "الطاعة المتبادلة" معهم هما الضمان ليتحنّن علينا مخلّصنا ويقينا من كلّ انزلاق.



[1]  يوجد في وثيقة "من أهم أهداف حياتنا أن نعيش في حضرة الله الدائمة" الصادرة عن المؤتمر الحركي الرابع عشر نموزج لمثل هذا القانون الذي اتّبعه آنذاك بعض الحركيّين.

المشاركات الشائعة