تحدّيات العالم الأرثوذكسي 3

 ريمون رزق

النور- العدد الثالث 2020


داء التعلّق المفرط بالقوميّة وصمة عار الوجود الأرثوذكسيّ في بلاد الانتشار

تقضي أقدم القواعد القانونيّة الأرثوذكسيّة بأحاديّة الخدمة الإفخارستيّة المقامة من قبل الأسقف الواحد (أو مَن ينوب عنه) في المكان الواحد أو المنطقة الجغرافيّة الواحدة. يشارك جميع المؤمنين القاطنين في هذا المكان في هذه الخدمة، بدون أيّ تمييز في الجنس أو العرق. ليست الكنيسة جماعة الذين يربطهم الإيمان الواحد وحسب، بل هي أساسًا جماعة الذين يجتمعون في الخدمة الإفخارستية الواحدة، فيتّحدون فيها بالمسيح وببعضهم البعض، ويؤلّفون الكنيسة الواحدة. فالأسقف مرتبط إذًا بكنيسة محليّة واحدة تمثّل حضور كنيسة المسيح الواحدة. وبما أنّ هذه الكنيسة تمتدّ إلى العالم بأسره، لا بدّ أنّ تكون كلّ كنيسة محليّة في شركة مع الكنائس الأخرى. لذا يرسم الأسقف، الذي كان يشارك الشعب في انتخابه في القِدم، "أسقفان أو ثلاثة" (القانون الاوّل من قوانين الرسل الإثني عشر)، ويرسل رئيس الكنيسة المحليّة (البطريرك) بعد انتخابه "رسالة سلاميّة" للكائس الأرثوذكسيّة الأخرى، علامة لشركة كنيسته مع كنيستهم.

فلا يمكن أن يعني وجود أكثر من أسقف في المكان الواحد سوى القضاء على وحدة الإفخارستيا، وتاليًا على وحدة الكنيسة. ولم يعرف التاريخ الأرثوذكسي مثل هذه الازدواجيّة أبدًا قبل القرن العشرين. عرف التاريخ الكنسي تعدّد الأساقفة في حالات الانشقاق، إبتدأء من القرن الخامس، بين الخلقيدونيّين وغير الخلقيدونيين، وابتدأء من أواخر القرن الحادي عشر بين اللاتين والأرثوذكسيّين في عدد من أبرشيّات الشرق التي احتلّها الصليبيّون. وشكلت هذه الازدواجيّة حالة مرضيّة مأساويّة لا نزال نعاني من تبعاتها حتّى الآن. لكن، رغم فداحتها، يمكن لا تبريرها بل فهمها لاهوتيًّا بانقطاع الشركة الإفخارستيّة بين هؤلاء الأساقفة.

أمّا ما حدث في العالم الأرثوذكسي، في القرن العشرين، وما زال يحدث، فهو وجود أساقفة أرثوذكسيّين من أعراق مختلفة في المدينة الواحدة، ما يعرّض مبدأ الوحدة الكنيسة المتمثّله بالجماعة الواحدة الملتفّة حول الأسقف الواحد في المدينة الواحدة. يشكّل هذا الواقع وصمة عار تعيشها الكنائس الأرثوذكسيّة في ما يُسمّى بلاد الانتشار. فالأسقف الأنطاكي يرعى "العرب" والروسي الروس، واليوناني اليونانيّينن، والصربي الصرب، والروماني الرومان...، غافلين جميعًا قول الرسول إنّه لا يوجد في مَن لبس المسيح "يهودي ولا يوناني... لأنّ الجميغ واحد في المسيح يسوع" (غلاطية 3: 28). يُفهم أن يريد المهاجرون حديثًا الصلاة بلغة أجدادهم، مع أنّ الشباب الذين وُلدوا في المهاجر ما عادوا يعرفونها، ويفضّلون الصلاة بلغة البلد الذي استضافهم. القضيّة شائكة وتتطلّب بحثًا جديًّا وابتكارات على الصعيد التنظيم الكنسي، لكن بدون التعدّي على المبادئ القانونيّة.

أيّدت الكنيسة الأنطاكيّة، في عهد المثلث الرحمات البطريرك إلياس الرابع، فكرة إنشاء وحدات كنسيّة مستقلّة عابرة للعرقيّات في القارات التي تشهد الانتشار الأرثوذكسي (الأميركيتين، أوروبا، أوستراليا، إلخ.)، على أن يكون لمتروبوليت هذه الكنيسة أساقفة أو كهنة معاونين لرعاية العرقيات المختلفة. لكنّها غيّرت موقفها لاحقًا، وحذت حذوى معظم الكنائس الأرثوذكسيّة الأخرى، فأنشأت أبرشيّات جديدة لها في تلك القارات، مزيدة بذلك المشكلة تعقيدًا، وفاقدة ما كان يمثّل الخصوصيّة الأنطاكيّة الجامعة والشاهدة للمبادئ والأصول، وحافظة للقوانين. وحدها أعطت كنيسة روسيا في السنة 1970 استقلالها الذاتي للأبرشيّة "الروسيّة" في الولايات المتّحدة الأميركيّة، جاعلة منها "الكنيسة الأرثوذكسيّة الأميركيّة" التي لم تعترف بها الكنائس الأرثوذكسيّة لأنها حصلت على استقلالها بدون رأي الكنائس الأرثوذكسيّة الأخرى وموافقة البطريرك المسكوني.

لا بدّ في هذا المجال بالتذكير بما نصّت عليه خاتمة "القوانين الرسوليّة" النهائيّة[1]. تتوجّه إلى الأساقفة وتقول: "إذا ثبتّم على القوانين تخلصون وتحصلون على السلام. وإذا لم تعملوا بها تُعاقبون وتكونون في صراع دائم بعضكم مع بعض، وتستوجبون عقاب جهلكم لها". ولقد كتب باسيليوس الكبير قائلًا: "أحزن لأنّ قوانين الآباء تُهمَل، وتطبيقها الصارم (الأكريبيّ) مرفوض في كنائسنا. وأخشى أن يزيد هذا الإهمال رويدًا رويدًا ويؤدّي إلى الفوضى العامّة في شؤون الكنيسة"[2].

لا تسأل معظم الكنائس عن القوانين إلّا عندما تريد إدانة الغير. أمّا السعي إلى تطبيقها، فهو أمر مختلف، فنلجأ على الدوام إلى "التدبير" لرفضنا مواجهة الجديد من المشاكل والتحدّيات. تشكو ظاهريًّا كلّ الكنائس الأرثوذكسيّة من واقع ازدواجيّات الأساقفة في "المغتربات"، لكن لا تُحرّك ساكنًا لتغييره، لأنّ كلّ منها متعلّق بجماعاته العرقيّة لأسباب مختلفة، وربّما لأنّها تمثّل مصادر إعانات ماليّة ونفوذ. وقد توصّلت، بعد معانات طويلة، إلى حلّ مؤقّت يقضي باجتماعات دوريّة لجميع الأساقفة الأرثوذكسيّين في المكان الواحد للتداول والتنسيق فيما بينهم. يمرّ هذا الحلّ "المؤقت إلى حين إعلان كنائس محليّة جديدة"، بأزمة كبيرة الآن بسبب الخلافات الراهنة بين الكنائس، عقب المشكلة الأوكرانيّة. وكان قد مرّ هذا الحلّ بصعوبات حول "جنسيّة" مَن يترأس الاجتماعات، إذ اعترض الأساقفة الأنطاكيّون مثلًا في أميركا اللاتينية، على ترأس ممثّل القسطنطينيّة، بموجب مبداء "الأوّل بين متساوين" الذي يتمتّع به بطريركها، على أساس أنّ أكثريّة الأرثوذكسيّين في هذه القارة من أصل "عربي"! إنّ الأرثوذكسيّين كثيرًا ما يلتهون بالقشور بدل أن يفتّشوا سويّة على حلول تحاكي مشاكل رعاياهم وتنمّي الوحدة والتعاضد بينهم وشهادتهم المشتركة. يُسرعون إلى إدانة كلّ هرطقة عند غير الأرثوذكسيّين، ويعيشون حالات هرطوقيّة، ولا يسألون.

التعلّق بالقوميّة

يخفي واقع الوجود الأرثوذكسي "الهرطوقي" هذا في بلاد الانتشار، هرطقة أعظم وقعت فيها معظم الكنائس الأرثوذكسيّة منذ القرن التاسع عشر، بعد تحرير بلادها من النير العثمانيّ، وبروز القوميّات فيها، وبعد انتشار مؤمنيها حول العالم، سعيًا وراء فرص العيش الكريم أو هربًا من الحروب. عندها درج القول "الكنيسة اليونانيّة" بدل "كنيسة اليونان"، و"الكنيسة الروسيّة" بدل "كنيسة روسيا"، إلى ما هنالك من تسميات. تبدّي التسميات الراهنة صراحة العرق والإنتماء القوميّ على مكان وجود الكنيسة، كما كان تقليديًّا. منذ انطلاقتها الأولى، كانت كنيسة أنطاكية متعدّدة الجنسيات، تضمّ يونانيّين ويهودًا، سوريّين وعرب، لكنّها لم تُدعى أبدًا باسمائهم، بل كانت ولا تزال كنيسة "المسيحيّين" القاطنين المدى الأنطاكي. فانتمائهم وانتماؤها كان دومًا للمسيح لا لقوميّاتهم.

وقد حافظت البطريركيّات الأرثوذكسيّة القديمة (القسطنطينيّة، الاسكندريّة، أنطاكية وأورشليم) على التقليد في اسمائها، ولم تتبع الموجة التي اكتسحت العالم الأرثوذكسيّ. وما زالت ترتبط أسماؤها بمراكز إنطلاقها الأصليّة، رغم التقلّبات التاريخيّة، مع أنّنا بدأنا نسمع، هنا وثمّة، أقوالاً تشير إلى "الأمّة اليونانيّة" أو الإنتماء "العربي"! لكن تتعدّى رعاية إثنتين من بينها نطاقها الجغرافي، خلافًا لمبدأ الرعاية المكانيّة. فتزعم بطريركيّة أنطاكية برعاية كلّ الأرثوذكسيّين الذين ينطقون العربيّة، حيثما وُجدوا في العالم خارج نطاق الكنائس القديمة. وتعتبر بطريركيّة القسطنطينيّة، التي لم يعد يوجد سوى قلّة عزيزة من المؤمنين في إطارها الجغرافي التاريخي، أنّ كلّ أراضي "الشتات" الأرثوذكسي يتبعون حكمًا لها، بموجب فهمها، منفردة، أنّها تمثّل "الأبرشيّات الواقعة بين البربر"، التي أتبعها القانون الثامن والعشرين من المجمع الخلقيدوني لرعايتها.  

أمّا معظم الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة الأخرى، فتُسمّى عادة بالنسبة لانتماء معظم أعضائها العرقي أو الوطنيّ، علمًا أنّ غالبيّتها تضمّ مؤمنين من جنسيّات وأعراق مختلفة. فيحدّد نظام كنيسة قبرص الأساسي،  مثلًا أنّ "أعضاء الكنيسة هم كل القبارصة المسيحيّين الأرثوذكسيّين المعمّدين والمقيمين دائمًا في قبرص، وكلّ الذين هم من أصل قبرصي والمقيمين خارج قبرص"[3]. ونقرأ في نظام الكنيسة الروسيّة أيضًا أنّ "رعايتها تمتدّ إلى الأشخاص الأرثوذكسيّين المقيمين ضمن الحدود القانونيّة للكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، والذين يقيمون خارجها والذين يقبلون طوعًا رعايتها"[4]. تنطلق تلك الأنظمة من العنصر المكاني، وتمدّه ليشمل كلّ الذين ينتمون إلى "هويتها"ىالتي لم تعد ترتبط بالمسيح وحسب بل بالهويّة المدنيّة والأوطان. يبيّن النصّان أنّ رعاية الكنيسة تتعلّق بنوعيّة "إشخاص" وليس فقط بالذين يعيشون في مكان معيّن، ما يعطي الحق لكنيستهم أن تتدخّل ضمن الحدود القانونيّة لكنائس أخرى (أو حيث يجب أن توجد كنائس جديدة)، لمجرّد وجود أشخاصًا فيها من "عرقها". يخالف هذا المنظور كلّيًّا مفهوم الكنيسة في العهد الجديد والفكر الآبائي والقوانين، ويعيدنا إلى العهد القديم الذي كان يتمحور حول "الأمّة".

بربط هذا المفهوم طبيعة الكنيسة بالعرق أو الوطنيّة، جعل منها الكنيسة موازيًا للدول، فتواجه تجربة الخضوع لها. من هنا التماهي الذي نشهده غالبًا بين الكنيسة والدولة، والنزعات "العرقيّة" الآيلة إلى تطبيق المبدأ القوميّ على الواقع الكنسيّ، بمعنى أنّ الشعب الذي ينال استقلاله المدني، يجب أن ينال حكمًا استقلالًا كنسيًّا. ما يجعل من المستحيل تقارب الشعوب في بوتقة كنيسة المسيح.

ساهم نظام الملّة العثماني بخلط الدين بالدولة لدى الأرثوذكسيّين. وبدأ هذا الشعور القومي ينمو مع بروز فكرة القوميّات في أوروبا الغربيّة واقتناع النخب الفكريّة الأرثوذكسيّة (الإنتِليغِنتسيا) بها. وتجسّدت في حركات التحرير من النير العثماني التي لعبت الكنيسة فيها دورًا طليعيًّا. لكن، كما يقول الأب جان مايِندورف: "نقص الأرثوذكسيّة القوّة الفكريّة والتمييز اللاهوتي والبنى الموسّساتيّة التي كان بإمكانها طرد شياطين الثورة الوطنيّة... لذا انضمّ البطاركة والأساقفة وكهنة الرعايا، بحماس حينًا، وبتراخ وكلل أحيانًا، إلى الحركة الوطنيّة الجارفة، وساهموا في نجاحها السياسي، ولكن قبلوا من حيث لا يدرون منطلقاتها الإيديولوجيّة". فبدل أن تدافع الكنيسة عن الوطن وتحميه مع كلّ مكوّناته، وهذا من ضمن مسؤوليّاتها، أصبحت بانغماسها بالأفكار "الوطنيّة" بعدًا منه، وعلامة إنتماء إليه، وعليها تاليًا خدمته.  فبدا الشعور الوطني سيفًا ذي حدّين، مثّل من جهة قوّة تحريريّة، ومن جهة أخرى أصبح خميرة انقسام وبُغض ضمن الجماعة الواحدة، كما حدث في معظم الثورات. بانجرافها نحوه، انتقل مبدأ الكنيسة من الصعيد الإفخارستي الذي يقدّس الوطن وكلّ مَن فيه إلى الصعيد السياسي العرقي الذي يتحزّب. فتجذّرت في الأرض، ناسية ما قاله المسيحيّون الأوائل عن كونهم "يسكنون في العالم، ولكنّهم يظلّون غرباء عنه،... لأنّ كلّ أرض أو وطن يبقى غريبًا عنهم، لأنّهم مواطنو السماء"[5].

لم يكن انغماس الكنيسة في العالم والتاريخ والتزام العناصر العرقيّة القوميّة طريقًا مفروشًا بالزهور، بل واقعًا أليمًا تتطلّب منها دائمًا جهدًا ومساومات. فلا نظريّة "التناغم" بين الكنيسة والدولة البيزنطيّة، ولا نظريّة "الروسيا المقدّسة" أدّتا إلى تنصير العالم، بل إلى إخضاع الكنيسة غالبًا للسلطة والعنصر الوطني، بدل استنارته من قبل الكنيسة. يقول الأب ألِكسندر شمّمان إنّ "خطر الشعور الوطني يكمن في تعطيل لا واعي لمركزيّة القيَم الذي يحدثه، حيث لم يعد الشعب الذي يخدم الحقيقة والعدالة المسيحيّتين اللتين تنظمان حياته، يقيس ذاته بها، بل على العكس من ذلك تقاس المسيحيّة والكنيسة على مقدار خدمتهم للوطن والعرق والدولة"[6]. فإنّ خطيئة الكنيسة الأرثوذكسيّة التاريخيّة العظمى، والتي تجدّدت في القرن العشرين، تكمن في عدم تمكّنها من الابتعاد بما فيه الكفاية عن الفكرة الوطنيّة، لا بل قيادة الجهاد (أحيانًا العنيف والدامي) في سبيلها. يختلف هذا الانزلاق كلّ الاختلاف عن المكانة المعنويّة التي تحتلّها طبيعيًّا الكنيسة بسبب الدور الذي لعبته (أو تلعبه) "كضمير الأمّة" أو "أمّ الوطن"، مساهمة في تحريره. من هنا كثير من غير المؤمنين، لا بل من الملحدين، يتمسّكون بكنيستهم الأرثوذكسيّة، تأكيدًا لانتمائهم القومي، من دون أن يعطوا لهذالاالانتماء أيّ صفة دينيّة. 

بسبب من هذه العقليّة المتفشّية في كنائسنا الأرثوذكسيّة، أصبحت بلاد الانتشار، بدل أن تكون مطرحًا للشهادة الأرثوذكسيّة، وتعبيرًا عن وحدتها، مطرح صراع بين الكنائس، وفي أحسن الاحوال مطرح تجاهل بينها. في كثير من الأحيان، ويا للأسف، عندما يجتمع أساقفة مختلف الكنائس في أرض من "أراضي البرابرة"، يهتمّون بصلاحيّات كنائسهم وأمّتهم وكرامتهما، بدل أن يصغون معًا إلى وشوشات الروح.

إنّ هذا الواقع يشكّل حالة هرطوقيّة بامتياز، رفضها المجمع الأرثوذكسيّ العام، المنعقد في القسطنطينيّة، السنة 1872. حرّم هذا المجمع إنشأ كنائس مبنيّة على معايير العرق والوطنيّة أو اللغة، استبدالًا بالمعيار المكاني. وحرّم أيضًا "تأسيس كنائس خاصّة لا تقبل إلّا مؤمنين من أمّة واحدة وتقصي الآخرين، ولا يرعاها سوى أساقفة ينتمون إلى هذا العرق". وأوصى أنّه لا يجب ربط الكنيسة بمصير أيّ دولة وأيّ عرق. قال: "نرفض ونحرّم وندين القوميّة، أي الحكم على أسس عرقيّة، والخلافات والبغضاء والخصومات العرقيّة داخل كنيسة المسيح، ونعتبرها مخالفة لتعليم الإنجيل وقوانين الآباء القدّيسين، الذين يدعمون الكنيسة المقدّسة والعالم المسيحي ويقودونهما إلى القداسة الإلهيّة".

إنّ دور الكنيسة الأساس هو المصالحة بين البشر والقوميّات ونشر المحبّة بينهم. الكنيسة شركة في الاساس ولا تميّز بين الناس. فإن تجاهل خطورة الأوضاع، والاستمرار بتأجيل حلول تأسيس الكنائس الجديدة الناجعة، بسبب خلافات حول "الرئاسات"، أي حول القشور، يضرب في الصميم مفهوم "الكنيسة الواحدة، جسد المسيح الواحد والوحيد" الذي يوجد في مكان ما. كنيسة المسيح لا مركز لها سوى مذبح كلّ كنيسة محليّة في العالم، ولا يمكن أن توصف بصفات عرقيّة وطنيّة. إنّها جسد المسيح، عربون الملكوت السماوي، فلا يجوز أن تصبح مركزًا أرضيًّا لدولة ما أو عرق. فالواقع القائم الآن في بلاد الانتشار غريب كلّ غرابة عن مفهوم الكنيسة الصحيح. فكيف لنا أن نقبله؟ كيف نقبل أن تسوس كنائسنا سياسات الدول وإيديولوجيّاتها وصراعاتها؟

علينا الاعتراف أنّ الطريقة التي تتصرف بها كنائسنا خلقت وضعًا فوضويًّا هرطوقيًّا سوف يؤدي بنا إلى مزيد من التباعد وربّما الانشقاق. فمتى يعي رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة ورعاتها وشعوبها خطورة هذا الواقع، الذي يكاد يجعل من كلّ اجتماع أرثوذكسيّ عام إجتماعًا للأمم المتّحدة، تتضارب فيه القوميّات والمصالح؟ متى سنفهم جميعنا ضرورة الغلتزام حرفيًّا بمتطلّبات الإنجيل، وإبراز وجه يسوع وحده في كلّ ما نعمل؟ بدللاالتغني بنبويّة مزعزمة لكنيستنا الأنطاكيّة، أما حان الوقت لنفهم أنّ النبي هو قبل كلّ شيء آخر مَن ينطق بكلام الله ويتصرّف بأخلاقه، والإقدام للخروج من حالة الجمود الذي يستكين فيها عالمنا الأرثوذكسي؟



[1]  وُضعت هذه القوانين السنة 380 في المدى الأنطاكي، والخاتمة موجودة في البند 48 من فصلها الثامن.

[2] الرسالة 89، 2.

[3]  نظام 1980، المادة 2.

[4]  نظام 2000، المادة 1، 3.

[5]  الرسالة إلى ذيوغنيطوس، كُتبت في أواخر القرن الثاني من كاتب مجهول.

[6]  الكنيسة والتنظيم الكنسي، مجلّة، Le Messager ecclesiastique de l’Exharcat russe d’Europe Occidentale ، باريس، 1949، 5.

المشاركات الشائعة