تحدّيات العالم الأرثوذكسيّ المعاصر 2

 ريمون رزق

النور - العدد الثاني 2020


الإحياء الليتورجيّ

نتابع توقّفنا عند أهمّ التحدّيات التي تواجه العالم الأرثوذكسي في هذه الأيّام، والتي تتعلّق بالنزعة القوميّة، والوجود الأرثوذكسي في بلاد الانتشار، والإكليريكانيّة، والجمود والترداد، وتقهقر روح المجمعيّة، وإنعدام التبشير، والهجرة والتهجير، ومواجهة تحديّات العصرنة، والإنفتاح على الآخر وتنصير الأرثوذكسيّين. لكني ارتأيت أن أبدأ هنا بقضيّة قلّما يتوقّف عندها المعنيّون، مع أنّها تمثّل العنصر الأهمّ في شهادة الكنيسة وحياتها، وهي عودة ليتورجيّتنا إلى ينابيعها.

لا وجود للكنيسة بدون سرّ الشركة والإفخارستيا. تمنع الإفخارستيا الكنيسة من أن تشيخ، وتجعلها تبقى هذه العجوز الدائمة الشباب التي يصفها راعي هرماس[1]. بالإفخارستيا نتّحد بالمسيح القائم من بين الأموات، ونتوحّد في ما بيننا. تُبنى خلالها الكنيسة، جماعة المؤمنين الإخوة. نتجزّر فيها في الإيمان القويم، إذ كما تقول العبارة المأثورة Lex orandi lex credendi ، التي ترجمتها "نؤمن كما نصلّي". تُدخلنا الليتورجيا إلى الكتاب المقدّس الذي يُتلى بكامله خلال السنة الطقسيّة الواحدة، كما تُدخلنا إلى الفكر الآبائي الذي يملأ نصوصها. وقبل كلّ شيء هي مغامرة ترفعنا إلى عتبات السماء. وتجعلنا بواسطة تناول جسد الربّ ودمه الكريمين نسير نحو التأليه ونتذوّقه. هي حافظت على الوجود المسيحيّ خلال عصور الاضطهاد، وهي تصونه أمام التحدّيات.

 بسبب أهمّية الحياة الليتورجيّة في كنيستنا، يعرّض كلّ شطّط في ممارستها فهم الحقيقة الكنسيّة للخطر، يمنع عيش ملئها، ويشكّل تحدٍّ كبير للكنيسة الأرثوذكسيّة. لن نكون نشكّك بعظمة الليتورجيا إذا قلنا بتواضع أنّه يوجد بعض الشطط في ممارستنا لها، يضعف فعاليّتها، ولا يسمح للمؤمنين من الوصول إلى ما تصبو إليه، أي أن "نتعرّى من كلّ شيء ما عدا محبّة الله"[2]، ونسلك درب التأليه. يقول المطران جورج (خضر) أيضًا: "يمكن لممارسة الليتورجيا، التي هي مطرح حضور الله بامتياز، أن تغشّي هذا الحضور أو تجعله أكثر سطوعًا". وأعترف الأب ألِكساندر شممّان بوجود أزمة ليتورجيّة عميقة في كنيستنا[3]، ودعى إلى العودة إلى تقليد الكنيسة الليتورجي الحقيقي، وعدم الإكتفاء بالأشكال، بل السعي لإبراز المعنى، وإدخال "التغييرات الضروريّة في الممارسة بدون أيّ تعرّض للمضمون"[4]. وبدا غبطة البطريرك الأنطاكي يوحنّا العاشر، موافقًا على هذا الطرح، عندما قال بعيد تنصيبه إنّه "يعي أهميّة جعل الخدمة الليتورجيّة سهلة المنال... وأكثر تفاعلًا مع الواقع الرعائي"[5].

التقليد والتقاليد

الحقيقة أنّنا غالبًا ما نخلط بين التقليد الشريف والتقاليد البشريّة التي ترافقه. كتب المطران أنطوني بلووم في هذا الصدد قائلًا: "التقليد الشريف هو ذاكرة الكنيسة الحيّة عبر العصور، بينما التعلّق بالتقاليد يشير إلى شيء كليّ الاختلاف، إذ هو تعلّق أعمى وبطريقة جافّة وجامدة بتقاليد وصلتنا إرثًا، ولم نعد نفهم معناها وسبب وجودها، فنتصوّر أنّها تعبّر عن قناعات أجدادنا الإيمانيّة"[6].

الإحياء الليتورجي

تشير كلّ هذه الأقوال إلى وجود مشكلة حقيقيّة، لا بدّ من تحديد معالمها والتعاطي معها بجدّيّة. معظم معالم المشكلة ناتجة عن عوامل تاريخيّة فرضت ذاتها لأسباب مختلفة في عصور الإنحطاط، ويجب تجاوزها للعودة إلى الأصول. لذا لن نتكلّم عن إصلاح ليتورجي، بل عن إحياء ليتورجي، لأنّنا لا نريد التغيير بل استعادة معنى الليتورجيا العميق، "فنضحى في آن معًا في هذا الزمن وفي الأبديّة"[7]. وفنعطي نظرتنا للحياة والعالم والكنيسة منظارًا إفخارستيًّا، وتعود عندها الليتورجيا مصدر حياتنا والتزامنا المسيحيّ وشهادتنا.

هدف الليتورجيا

هدف الإحياء الليتورجي أن تكون الحياة الليتورجيّة مصدر غذاء وتربية وتعليم للمؤمنين. أن تذكّرهم بحضور الله الدائم والبُعد الأخروي في وسط العالم. أن تجعلهم يعيشون أخويّة حقيقيّة ليس فقط مع المسيح، بل مع بعضهم البعض، وأنّهم جميعًا أعضاء مسؤولون عن كنيستهم التي يكوّنون في الاجتماع الإفخارستي. أن يدركوا أنّهم مشاركون فعليًّا في إقامة الخدمة، ومتمتّعون  بالكهنوت الملوكي، وليس مجرّد مستمعين أو مشاهدين. أنّ يفهموا أنّ الليتورجيا تبدأ قبل الليتورجيا بسلوك حياة التوبة وتمثّل بالمسيح، وأثناء الليتورجيا وبعد الليتورجيا، حيث ننتقل من سرّ المذبح إلى سرّ القريب.

تقديس الزمن

لا تختصر الليتورجيا على القدّاس الإلهي، بل تشمل  مجموعة خِدم وصلوات بغية تقديس الزمن، وعيش أهم أحداث تاريخ الخلاص. تحافظ الرهبنة فقط على كلّ هذه المتطلّبات، إذ لا يجد المؤمن العائش في العالم الوقت للالتزام بها. فكيف الاستفادة من هذه الكنوز والمشاركة في عمليّة تقديس الزمن، إذا لم تبتكر الكنيسة طرقًا بديلة أكثر ملائمة مع إنشغالات العصر؟.  ألا يمكن أن يلتزم المؤمن بتخصيص محطّات يوميّة (مثلًا واحدة كلّ ثلاث ساعات)، يختلي فيها بذاته، ويخرج منها، ذاكرًا الله ومشاركًا الكنيسة في النيّات التي وضعتها لخدم الساعات الطقسيّة؟ ألا يستطيع "أرباب" الصلاة أن يضعوا صلوات مختصرة لكلّ من هذه المحطّات؟

إعلان القيامة

أهمّ يوم في الدور الليتورجي الأسبوعي هو يوم الأحد،  المخصّص لذكر القيامة. هذا بالمبدأ، إذ لا يسمح واقع عدم إشتراك معظم المؤمنين في صلاة الآحاد السحريّة، عيش ملء ذكرها، إذ "تُعلن" القيامة في صلاة السحر، ويُدعى المؤمنين إلى "الخروج إليها" والسجود لها. لا بدّ من الاستمرار بدعوة الناس إلى الاشتراك بصلوات السحر في الآحاد ليختبروا القيامة، ولكن لن تلبّي هذه الدعوة سوى قلّة عزيزة. ألا يجب، والحالة هذه، إدخال بعض تسابيح القيامة وبعض من إنجيل السحر في القدّاس الإلهي، وبالمقابل اختصار بعض الترداد الموجود فيه؟ ربّ قائلٌ أنّ ذلك يشكّل "تلاعبًا" بالنصوص، كما وصلت إلينا. يجهل المعترض أنّ ليتورجيّتنا خضعت لإضافات كثيرة عبر الأجيال، وأنّ التريصاغيون مثلًا أُدخل في القرن الخامس، ودستور الإيمان النيقاوي وطقس الزيون والقوانين ونشيدي الشيروبيكون و"ابن الله الوحيد" في القرن السادس، والأنتيفونات في القرن الثامن، وأنّها جضعت لعمليّات "إحياء" واسعة على يد الرهبان الستوديّين في القرن التاسع، وتغييرات أخرى في أورشليم والقسطنطينيّة بين القرنين العاشر والثاني عشر، حيث أُدخل طقس التقدمة والإيصيدون الكبير، إلى ما هنالك. فلا شيء يمنع إذًا إدخال إضافات جديدة، إذا كانت تصبّ في منفعة العباد. وإلّا كيف يمكننا، بدون إحياء القيامة في كلّ أحد، أن نعيش باستمرار في هذا "الفرح العظيم" (لوقا 2: 10) الذي يدعونا الربّ إلى البقاء فيه؟

القدّاس الإلهي

علينا توعية المؤمنين إلى أنّ اشتراكهم بالقدّاس الإلهي ليس عملًا روتينيًّا أو واجبًا يُفرض عليهم، بل خبرة "معجزة دائمة"[8]، و"انفجار للحياة الكنسيّة"[9]، وإيجاد الكنيسة المجتمعة حول سيّدها للانتقال من "محبّة المسيح الداعية إلى محبّة البشر المستجيبة"[10]. وعلينا إقناعهم أنّهم، إن سعوا فهم معنى الليتورجيا الحقيقي والرموز التي تعبّر عنه، سيُعطى لهم أن يروا "السماء مفتوحة"، وابن الإنسان ظاهرًا، هنا وثمّة، ليوحّد الأرض بالسماء، والزمن بالأبديّة، ويترأس مسيرتنا نحو الملكوت، لأنّ وقت الليتورجيا هو دومًا "الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين"[11]. يبرز ذلك جليًّا في صلاة الأنافورا، حيث يصبح الماضي والمستقبل واقعًا بالنسبة إلينا، إذ نذكر "المجيء الثاني المجيد" مع أحداث التدبير الخلاصي. فنُعطى منذ الآن تذوّقًا للملكوت ولغلبة المسيح. ننشدّ في القدّاس الإلخي، أكثر من أيّ مكان آخر، بين "الحاصل" و"الآتي". فالحاضر مرتبط بالمستقبل ومتأثّر به. ويسمح لنا هذا الحسّ الأخروي الابتعاد عن الآني، ووضع رجاءئنا بالذي سوف يأتي. إذا لم نجد الأساليب الناجعة لكشف هذه المعاني البهيّة لشعبنا، نكون قد فوّتنا عليه فرصة ذهبيّة للتأليه.

بعض الاقترحات "لإحياء" القدّاس الإلهي

التقدمة

في البدء، كان يُقيم الكاهن خدمة "التقدمة" في وسط الكنيسة، محاطًا بأفراد الشعب. فيقدّم كلّ واحد قربانًا مع لائحة بأسماء الأحياء والراقدين، ويرى الكاهن، بعد "ذبحه" الحمل، يخصّص قطعة من القربان لكلّ واحد منهم ويضعها على الصينيّة، حول الحمل والقدّيسين، رامزًا إلى كون الكنيسة هي "اجتماع القدّيسين"[12]، ومعلنًا أنّ الليتورجيا تمثّل بامتياز السرّ الذي يقود كلّ الشعب "في طريق الحياة المشتركة الإلهيّة"[13]. بمشاهدته تلك الرموز "المحقّقة"، يعي المؤمن الوحدة العضويّة التي تجمعه مع أعضاء الكنيسة الآخرين، ويعي كم هو استعداد المسيح لضمّه إليه ومصالحته. ويعي أنّه يشكلّ كنيسة واحدة مع المسيح والقدّيسين والأحياء والأموات. يجعلنا مشاهدة طقس التقدمة شهود عيان لصلب المسيح وموته، ويُكسبنا الشجاعة والقوّة للتمثّل باللصّ الشكور، فنبتهل إلى الربّ، قائلين: "أذكرني اليوم في ملكوتك" (لوقا 23: 42). حبّذا لو أعدنا التقدمة إلى مكانها الأصلي، ودعوة المؤمنين إلى المشاركة فيها.

الكنيسة جماعة إخوة

لا بدّ من الإقرار أنّ جماعاتنا الإفخارستيّة وممارساتنا الليتورجيّة لا تعطي دومًا صورة "الأخويّة" التي تكوّنها الكنيسة. إذ لا تعي غالبيّة الجماهير الأرثوذكسيّة أنّها تجتمع لتكوّن الكنيسة، "جسد المسيح"، ولا تعي شيئًا من الكهنوت الملوكيّ الذي يجمع كلّ أعضاء شعب الله، إكليركيّين وعلمانيّين، في بوتقة واحدة، "جنس مختار وكهنوت ملوكي، أمّة مقدّسة، شعب  مقتنى" (1 بطرس 2: 9). بتناول جسد الربّ ودمه، نُصبح "مشاركين في هذا الجسد وهذا الدم"[14]. تحوّل الإفخارستيا، في اللحظة الأسراريّة، الكنيسة إلى جماعة مواهبيّة، لأنّ المواهب تظهر لدى إجتماع الإخوة (1 كورنثوس، 14: 26).

والحقّ يُقال إنّ ما وصلت إليه ممارساتنا الطقسيّة لا يسمح دائمًا للجماهير المجتمعة أن تعي أنّها تشترك فعلًا في إقامة القدّاس، بسبب تقاليد تبنّيناها لا تشجّع الشعب على وعي مدى مسؤوليّاته، ودعوته إلى ممارستها قبل القدّاس، وأثنائه وبعده.

قبلة السلام

سقطت مثلًا "القبلة السلاميّة المقدّسة"، التي كان يتبادلها الأقدمون، للتعبير عن محبّتهم الأخويّة، إستجابة لدعوة الكاهن: "لنحبّ بعضنا بعضًا...".  واختُصرت على اعضاء الإكليروس، كأنّهم مدعوّون وحدهم إلى المحبّة الأخويّة. في عالم كثُر فيه تبادل القبلات في مناسبات كثيرة ومتنوّعة، ها نحن نتجاهلها في المكان الأوحد الذي يستحقّها، المكان الذي يتيح لنا التعبير "حسّيًّا" عن أخوّتنا بالمسيح. يقول القدّيس يوحنّا الذهبي الفم بهذا الخصوص: "نحن هيكل المسيح. عندما نتبادل القبلة، نقبّل باب هذا الهيكل، الذي يدخل منه المسيح حقًّا، كلّ ما تناولنا"[15]. ويقول أيضًا: "تجمع قبلة السلام أرواحنا، وتجعل منّا جسدًا واحدًا، ومن كلّ واحد منّا، عضوًا من أعضاء المسيح"[16]. ويقول ذيوذوروس، أسقف مبصيصة، ومن كبار وجوه المدرسة التفسيريّة الأنطاكية، إنّه "بواسطة قبلة السلام، يعترف المؤمنون بوحدتهم وبالمحبّة التي تجمعهم"[17]. ويقول كيرلّس الأورشليمي، محذّرًا:"لا تعتقد أنّ هذه القبلة هي من نوع القبلات التي يتبادلها الأصدقاء عادة... إنّها تدعو إلى نسيان كلّ مذلّة.... وهي ختم المصالحة"[18]. ولا بدّ من التذكير أنّ الكهنة يقولون ، فيما يقومون بتقبيل بعضهم البعض: "المسيح معنا وفي ما بيننا... كان وكائن ويكون". حبّذا لو قال الكاهن القسم الأوّل من هذه الجملة علانيّة، وأجاب الشعب "كان وكائن ويكون"، للتأكيد أنّ المسيح موجود فعلًا مع كلّ الجماعة.

تبادل السلام والبركة و"الكهنوت الملوكي"

يغفل كثيرون أنّه يوجد في القدّاس تبادل للبركة والسلام بين مترأس الخدمة والشعب. فعندما يقول الكاهن، متوجّهًا إلى الشعب، "السلام لجميعم" أو "نعمة ربّنا يسوع المسيح... تكن مع جميعكم"، ونُجيبه "لروحك" أو "مع روحك أيضًا"، نقوم فعلًا بمبادلته السلام والبركة. بينما يحني أفراد الشعب الرأس، علامة لتقبّلهم السلام أو البركة، لا يقابلهم الكهنة غالبًا بالمثل، إذ لا يعون  أنّ هذا الشعب الحاضر، المجتمع، يبارك فعلًا كاهنه ويعطيه السلام، معبّرًا بذلك عن صفة الجماعة الكهنوتيّة. يُحكى كثيرًا في أيّامنا على "الكهنوت الملوكي"، ويواجه البعض به نزعة الإكليريكانيّة المتفشيّة في الكنائس، وينادون على أساسه بمساهمة العلمانيّين إلى جانب أسقفهم في إدارة شؤون الرعيّة. لا بدّ من تلك المشاركة، التي تدعو أنظمة كنائس كثيرة (منها الأنطاكيّة) إلى إحقاقها. لكن يعني الكهنوت الملوكي شيئًا أهمّ، ولا يظهر إلّا في القدّاس الإلهي. فالجماعة المجتمعة هي جماعة كهنة، مدعوّة إلى التفاعل مع الكهنة الذين يترأسون الخدمة. لا يفعل هؤلاء شيئًا نيابة عن المؤمنين، بل عليهم صنع كلّ شيء معهم. الكهنة والعلمانيّون يتشاركون في إقامة الخِدم الإلهيّة. وهم جميعًا يشاركون خدمة المسيح، الذي هو وحده "المقدَّم والمقدِّم". فكل مؤمن كاهن بقدر ما يعيش من كهنوت أعضاء شعب الله المشترك. لن يكون كاهنًا بدونهم، بل معهم، إذ يشكّلون سويّة "حجارة حيّة... لتقديم ذبائح روحيّة مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1 بطرس 2: 5). يعي شعب الله، أثناء القدّاس الإلهي، أنّه "جنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمّة مقدّسة، شعب مقتنى... لكي يُخبر بفضائل الذي دعاكم من الظلمة لإلى نوره العجيب... فأصبحتم شعب الله" (1 بطرس 2: 9-10).

الصلاة من أجل الموعوظين وهمّ البشارة

بغية "إختصار" القدّاس الإلهي، حزفت أوساط أرثوذكسيّة كثيرة، خدمة "خروج" الموعوظين، متجاهلة أنّ الكنيسة التي لم يعد يوجد فيها موعوظون، هي كنيسة فقدت همّ الشهادة، ونسيّت قول الرسول: "الويل لي إن لم أبشّر" (1 كورنثوس 9: 16)! بدل إسقاط نصوص لأسباب إعطباتيّة، علينا أن نختصر محتوياتها. وإلّا كيف إشعال همّ البشارة في نفوس الحاضرين، وحثّهم عليها؟

دستور الإيمان

مَن يشتكي من طول الخدمة أن يعي أنّه يوجد فيها دستوران للإيمان، دستور الموعوظين (يا كلمة الله الابن الوحيد...)، الذي يُتلى في قدّاس الموعوظين، والدستور النيقاوي-القسطنطينيّ الذي يُتلى في قدّاس المؤمنين. نلاحظ أنّ هذا الدستور الأخير، الذي يبدأ في نصّه الأصلي "بنؤمن"، يُتلى في كنائسنا بصفة الفرد: "أؤمن". يرجع هذا "التحريف" ربّما إلى الزمن حيث كان على كلّ معمّد حديثًا أن يحفظه على ظهر القلب ويتلوه أمام الأسقف. يبرَّر هذا "التحريف" بالقول إنّ التلاوة الحاضرة هي تعبير عن إلتزام كلّ مؤمن بإيمان الكنيسة الواحد. لكن نلاحظ أيضًا أنّه، ما عدا بعض الصلوات المتعلّقة شخضيًّا بالكاهن، تحمل كلّ صلوات القدّاس الإلهي صفة الجمع، معبّرة على كون المسيحيّ، كلّ مسيحيّ، لا يوجد فعلًا إلّا بالتواصل مع إخوته. وحيث تزاد الفردانيّة باضطراد في عالمنا، يجدر بنا التأكيد على "المعيّة" الكنسيّة، وتطبيقها في كلّ النصوص التي سقطت ولا توحيها.

الآمين

يعلم كثيرون أنّه لا توجد "القداديس الخفيضة"[19]،  في الكنيسة الأرثوذكسيّة.  لكن لا تعرف غالبيّتنا سبب هذا الغياب. يرجع السبب إلى كون الشعب "يشترك" فعليًّا في إقامة القدّاس، ويؤكّد، بآمينه، إحقاق السرّ المُعلَن من قبل الكاهن. من هنا أهميّة هذا "الآمين"، إذ يبصم حقيقة السرّ. قال اسيليوس الكبير، في إحدى رسائله، إنّ آمين رعيّته كان يطنّ كدويّ العاصفة،  خاصّة بعد استدعاء الروح القدس "علينا وعلى القرابين". يشير هذا القول إلى أنّ رعيّته كانت تسمع صلاة إستدعاء الروح القدس. يعني ذلك أنّ عادة تلاوة "الصلوات السريّة" بصوت منخفض، التي يتّبعها كثيرون في بلادنا، وفي العالم الأرثوذكسي عامّة، دخلت في عصور الإنحطاط، وغُربة الأرثوذكسيّة عن لاهوتها الأصيل. عندها، أخذ يفهم الناس أنّ نعت "السريّة" يعني "الصامتة"، وليس "الأسراريّة"، المتعلّقة بالسرّ الإلهي. وشجعت هذا المفهوم الخاطىء وهذا الانزلاق، النزعة االتي تنامت آنذاك، بأنّ القدسات يلمسها فقط المكرّسوين (أي الإكليروس)، وليس "القدّيسين"، أي أعضاء شعب الله المقدس كافة، الذين يُكرَّسون جميعًا في سرّ مسحة الميرون. يمنع الاستمرار بحجب هذه الصلوات وغيرها في القداس الإلهي عن مسامع الشعب، الكثيرين من فهم الأمور على حقيقتها. لذا يجلس عدد غير قليل من الحضور أثناء الإستحالة، إذ يعتبرون، تأثيرًا بالتعليم الغربي، أنّ المهمّ الأهمّ هو "الكلام الجوهري"، أي "خذوا كلوا... واشربوا منه كلّكم...". فيفوّتون بذلك على أنفسهم مناسبة "الإستقبال" بالسجود الروح القدس النازل عليهم وعلى القرابين، محوّلًا إيّاها إلى جسد الربّ ودمه الكريمين. لو تُليت كلّ صلوات القدّاس الإلهي بصوت مرتفع ومفهوم، لجعلت المنتبه يفهم ماهيّة الخدمة ومبتغاها. الليتورجيا تعلّم ذاتها بذاتها، إن اختربنا مقوّماتها.

اللغة

لا تُفهم، في بلدان أورثوذكسيّة شاسعة، اللغة التي يُتلى بها القدّاس (السلافونيّة في البلاد السلافيّة واليونانيّة القديمة في البلاد اليونانيّة). يعتبر البعض أنّ هذه اللغات "مقدّسة"، ولا يجب مسّها. ويعتبر آخرون أنّها تحمل جمالًا لا تحمله اللغات المحكيّة، وهم مستعدّون على عدم الفهم بسبب هذا الجمال المزعوم. لهذا السبب، يصرّ البعض في بلادنا على استعمال بعض اليونانيّة في ليتورجيّتنا. يذكّر هذا التعلّق باللغات "المقدّسة" بالصعاب التي واجهها القدّيس كيرلّس، مبشّر السلافيّين والمعادل للرسل، حين لم توافق كنيستي رومة والقسطنطينيّة على استعماله اللغة السلافونيّة التي ابتكرها والتي كان يفهمها الشعب، بسبب حصرهما اللغات الليتورجيّة بثلاث "مقدّسة"، هي العبريّة واليونانيّة واللاتينيّة. إنّ تمسّك بعض كنائسنا بلغة العبادة التي لا يفهمها شعبها، وخاصّة الشباب، يشجّع ابتعادهم عنها، ولجؤهم إلى كنائس غير أرثوذكسيّة تمارس الطقوس الأرثوذكسيّة، وتستعمل اللغات المحكيّة. تتّهم كنائسنا تلك الكنائس بممارسة الاقتناص بحقّها، ولا تعي أنّها هي المسؤولة، لأنّها تتعلّق بالماضي، ولا تنفتح على الواقع الجديد.

المناولة

يغفل معظم كهنتنا ذكر إسم كلّ واحد من المُقدمين على المناولة، ولا يقولون: "يُناول عبد الله (فلان) جسد ربّنا ودمه الكريمين لمغفرة الخطايا والحياة الأبديّة"، كما لا يقولون ومباشرة بعد المناولة: "هذه لمست شفتيك، فتنزع أثامك وتطهّرك من كلّ خطيئة". أُسقطت هذه الممارسة في رعايا كثيرة، لا سيّما لكسب الوقت وضعف الرعاية الشخصيّة، إذ يُفترَض على الراعي  أنّ يعرف أبناء رعيّته بأسمائه.  

وقد سقط أيضًا تقليد استمرّ بدون انقطاع حتّى القرن الرابع، ألا وهو بأن يأخذ كلّ متقدّم الجسد الإلهي بيديه ويتناوله، ثمّ يشرب مباشرة من الكأس. يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي (313-386): "بما أنّ الملك سيحلّ في يدك اليُمنى، اجعل من يدك اليُسرى عرشًا يسند اليُمنى، وتقبّل جسد المسيح، قائلًا آمين... والتقط بيدك رطوبة دم الربّ من شفتيك بعد أن تكون شربت من الكأس، وقدّس بها عينيك وجبينك وحواسك كلّها"[20]. لا مجال ربّما الآن للعودة إلى التقليد القديم الذي يبيّن كم كانت الكنيسة الأولى تعتبر مؤمنيها جميعًا أعضاءً راشدين فيها وأبناء الميراث، ويحقّ لهم تاليًا أن يقتربوا من القدسات التي وُجدت أصلًا للقدّيسين، وهي التسمية التي أُطلقت على المؤمنين إبتدأ من العهد الرسولي، لأنّهم يشتركون بقداسة الربّ يسوع.

التيبيكون

أشرنا إلى بعض الأمور التي تستدعي ضرورة الإصلاح في ممارساتنا الليتورجيّة، وإحياء تقاليد الكنيسة الأولى من جهة تشجيع مشاركة المؤمنين الفعليّة. يمرّ هذا السعي أيضًا  في إيجاد تيبيكون "رعائي"، مغاير للتيبيكون الرهبانيّ المتّبع حاليًّا. لن نكون أوّل مَن فعل ذلك، إذ سبقتنا الكنيسة في أيّام القدّيس سمعان التسّالونيكيّ (+1429)، حين وضعت نظامًا ليتورجيًّا يلائم حياة رعاياها. كانت كنيسته حيّة، ولم تدخل بعد في السبات الذي تتميّز به الأرثوذكسيّة المعاصرة، المكتفية بالترداد، وبتقديس حتّى "الغبار" التي تقع على مقدّساتها. ولا بدّ في هذا المضمار من إعادة النظر في بعض النصوص، خاصّة في الأفخولوجي، لجعلها تحاكي مشاكل الإنسان المعاصر. إنّ كتبنا الليتورجيّة التي يتميّز معظمها بغنى فائق، قد وضعها مؤمنون عبر العصور، ولا مانع تاليًا أن نساهم في تطويرها، وإدخال كلمات وأناشيد جديدة تحاكي الناس، كما فعل الآباء في أيّامهم. هل انتهى الإبداع الليتورجيّ في كنيستنا؟ حتمًا لا، لأنّه إن صحّ ذلك، يعني أنّنا هُجرنا من الروح. لكن علينا أن نعي أنّ تعلّقنا الأعمى بالتيبيكونات والتقاليد البشريّة يقف عائقًا أمام حركة الروح القدس فينا. لا شيء يمنع إذًا كنيسة أنطاكية بالبدء وحدها بعمليّة الإحياء الليتورجي، دون انتظار باقي الكنائس الأرثوذكسيّة المنهمكة بخلافاتها حول مشروع الروما الثانية والروما الثالثة الواهيتين.

 



[1]  هو نصّ رؤيوي وضعه هرماس في رومة في النصف الأوّل من القرن الثاني. يحتوي على ثلاثة أقسام، ينقل القسم الأوّل خمس رؤى والقسم الثاني إثني عشرة تعاليم والقسم الأخير عشرة أمثال تدور جميعها حول التوبة. وكان هرماس أحد أنبياء كنيسة رومة.

[2]  الجملة من وضع المطران جورج خضر.

[3]  مدخل إلى اللاهوت الليتورجي، منشورات الإيمان، 1975.

[4]  دور اللاهوت الليتورجي، في كتاي الليتورجيا والتقليد، ص. 29.

[5]  الرسالة الرعويّة بتاريخ 17 شباط 2013.

[6]  الكنيسة جماعة إفخارستيّة، نشرة سوب، رقم 111، 1986، ص. 24.

[7]  القدّيس الأرشمندريت صوفروني (ساخاروف)، في الصلاة الليتورجيّة، في "رؤية الله كما هو"، منشورات سيرف، 2004، ص. 261.

[8]  العبارة للقدّيس جان كاهم مدينة كرونستاد الروسي (1829-1904).

[9]  العبارة للمطران جان زيزيولاس (وُلد السنة 1931)، أحد اللاهوتيّين الأرثوذكسيذين البارزين.

[10]  نيقولا كابازيلاس، الحياة في المسيح، 1، 9.

[11]  أندريه لوسكي، الذكرانيّات، مؤتمرات معهد القدّيس سِرجيوس في الدراسات الليتورجيّة الستّة والستون، 2011، ص. 295.

[12]  القدذيس إيزيدوروس البيلوزي، الرسائل، 2246.

[13]  القدّيس ذيةنيسيوس الاريوجاجي، المقالة في الهييراخيّة الكنسيّة، 3، 3، 1.

[14]  نقولا كابازيلاس، الحياة في المسيح.

[15]  العظة 29، في الإصحاح 13 من الرسالة الثانية إلى كورنثوس.

[16]  المرجع عينه.

[17]  العظة 15، 39.

[18]   العظة 23، أو خامس موعظة معدّة للمعموديّة، 3.

[19]  Messes basses

[20]  العظة 23 من المواعظ قبل المعموديذة، 21 و22.

المشاركات الشائعة