تأمّلات في المحبّة الأولى 2

 ريمون رزق

النور - العدد الثالث 2017



في مقال آخر (صدر في العدد الثاني السنة 73 لمجلّة النور) توقّفت عند ما "طلب منّي يسوع في إنجيله وعهده الجديد الذي عرّفني إلى كنيسته بواسطة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة". سأسعى التوقّف الآن عند مَن رسّخوني في دعوة يسوع هذه، إذ كلامه لا يُفهم حقًّا إن لم يُعاش ويتجسّد في بشر كرّسوا له حياتهم. وقد أعطاني الربّ أن أتعرّف على مثل هؤلاء (في الحركة وخارجها) كانوا شهودًا بأقوالهم وحياتهم لرسالته.

* كنت لا أزال طالبًا في الخامسة عشر من العمر فدعاني أحد رفاق المدرسة أن أرافقه إلى أحد اجتماعات الحركة. لم أكن قد سمعت بها قط وكنت آنذاك في مرحلة يستقطبني كلّ شيء آتٍ من الغرب ومن الكنيسة الكاثوليكيّة بخاصّة، وكنت أخجل من مستوى كهنة كنيستي الأرثوذكسيّة العلمي، الذي كان آنذاك ضعيفًا جدًّا، ومن حضورها الخجول أمام مشاكل العصر والعالم. فقلت له هازئًا: أيوجد شيء صالح في الأرثوذكسيّة؟ لكنّه أصرّ فذهبت. كان يلقي المرحوم ألبير لحام حديثًا استوقفني فيه ما قاله عن مرض الأم الذي يستدعي من الأبناء أن يكونوا أكثر تحلّقًا حولها وأكثر اهتمامًا بها والتزامًا لشفائها من مرضها. هزّني هذا القول وخلق في قلبي جرح حبٍّ لكنيستي لا يزال ينزف حتّى الآن.

* بعد انتمائي إلى الحركة ببضعة شهور ألحّ عليّ الأخوة في بيروت أن أذهب إلى طرابلس لألتقي أمينها العام الذي كان آنذاك الأب جورج خضر. فذهبت منتظرًا تلقّي الإرشاد والوعظ، وإذ بي لا أسمع شيئًا منه، بل هو الذي استمع إليّ. اكتشفت أنّ ميزة رجال الله أن يمّحوا ويصبحوا حضورًا مصغيًا لهموم الآخرين، وبذلك ينقلوا إليهم، حتّى بدون كلام، صورة الربّ يسوع الذي علّمهم أن ينكروا ذواتهم ليغسلوا أرجل الناس، كما فعل.

* ثمّ أخذت أتفحّص ما قاله ألبير والأب جورج عندما أسّسوا مع رفاق لهما هذه الحركة، وكانوا جميعًا في أوّل شبابهم، كما كنت عندما طالعت أقوالهم لأوّل مرّة، هذه الأقوال التي أوّد نقل بعضها هنا، وأنا الآن في غروب العمر، لأؤكّد أنّهم سعوا حقًّا إلى تطبيق ما طلبه الربّ ورسله الأطهار منهم. تبيّن هذه الأقوال عن قناعتهم أنّ الحركة وُجدت لإعادة إحياء المسيحيّة الأولى، وتجديد نفوسهم والناس بإنجيل المسيح. لم يواجهوا الانحطاط الذي ساد الطائفة الأرثوكسيّة وبعض الأوساط الكنسيّة آنذاك بالثرثرة والتذمّر بل اقتنعوا أنّ معالجة الانحطاط لن لا تكون إلاّ من الوجهة الروحيّة. واقتنعوا أيضًا أن الحركة مدعوّة أن تكون خميرة تحرّك كلّ الأرثوذكسيّين ليقوموا معًا بالإصلاح الذي هو "انقياد مطلق مطيع لروح المسيح في الكنيسة". فالحركة لا "تعمل خارج الطائفة بل ضمنها وفي سبيلها". وشدّدوا على كونهم "مسؤولين عن كلّ الجسم الكنسي"، وأنّ هذه المسؤوليّة ليست "رهنًا بسماح من الرئاسة الكنسيّة"، لكنّها تعمل دومًا "تحت ظلّها"، أي ببركة المطارنة المولجين من الله استنباط المواهب وتنميتها. ويقول بعضهم إنّ الحركي "يجاهد ليعيش كما يحقّ لإنجيل المسيح، أي حياة صدق واستقامة، حياة محبّة تتجلّى بتفّهم الآخرين ومشاركتهم والاستعداد الدائم لخدمتهم". وقد يلخّص مسيرتهم قول لجورج خضر يؤكّد فيه أنّهم "هتكوا الحجب التي كانت تغطّي وجه المسيح لإيقاظ النيام ليشتهوه".

إيّاكم بعض هذه الأقوال:

- قال الطالب الجامعي جورج خضر السنة 1942 إنّ "الحركة وعي يحرّك نفس الأرثوذكسيّة المعاصرة النائمة لتعود فتكتشف ذاتها كحياة حقيقيّة وكنيسة حياة. علينا إذًا أن نجدّد الناس بواسطة إنجيل المسيح. هذا هو العمل الذي ينتظرنا".

وقال السنة 1946: «نحن الشباب نقول للأرثوذكسيّة: دعينا ننظر في ماضيك فتنظري في مستقبلنا. جعلوك قوميّة أو قوميّات فحدّدوك ورأوا أنّ واجبك الأوّل في التصدّر الاجتماعي والتسابق على المناصب،... فاعتقدوا أنّ لا كيان لك ما لم تنالي أعلى ما تصبو إليه الجماعات في هذا الشرق من كبرياء وعظمة... الكلّ يتغنّى بأمجادنا التليدة وبغابر العصور حيث كانت مملكة الروم تسود المشرق. وأمّا الممالك فتتلاشى... وتُدكّ العروش كلّ يوم أمامنا...إنّ الانحطاط في الطائفة لهو حديث كلّ أرثوذكسي... لا يمكن معالجة هذا الانحطاط إلاّ من الوجهة الروحيّة. إنّ محاولات الإصلاح التي ظهرت في الطائفة فشلت كلّها لأنّها لم تدرك أنّ مَن اكتفى بإصلاح الخارج دون أن يطلب من الناس جهاد النفس لا يبلغ نتيجة حاسمة... رأيناهم يشيّدون الأوقاف دون تشيّيد العقول ويناصرون فلانًا على فلان كأنّهم وجدوا المنقذ. رأيناهم في كلّ مدينة وقرية يشكّلون هيئات لأغراض موقتة تزول بزوال أغراضها لأنّها لا تعتمد على مقوّمات فكريّة وعوامل روحيّة».

- وقال مرسيل مرقس الجامعي (الأب الياس لاحقًا) السنة 1944 إنّ "على الحركة إعادة إحياء المسيحيّة الأولى... ما يتطلّب تجديدًا داخليًّا في كلّ واحد منّا... اليوم الذي يمكننا القول فيه إنّنا أصبحنا تلاميذ للمسيح تكون قد حقّقت الحركة مهمّتها إذ نعتقد أنّ الإصلاح الداخلي يجب أن يسبق الإصلاح الخارجي والنهضة الفرديّة الشخصيّة أن تسبق النهضة الطائفيّة الاجتماعيّة".

وأيضًا: "تعتقد الحركة بوجود انحطاط في الطائفة الأرثوذكسيّة... ولا تعني بالانحطاط الضعف في الطائفة من الناحية العدديّة والماليّة والإداريّة أو الانقسامات التي تسودها فحسب بل الانحطاط الحقيقي الأوّل هو الابتعاد عن الحياة المسيحيّة"

- وقال الشمّاس أغناطيوس هزيم السنة 1946: "يزعم البعض أنّنا نرتكب عملاً سخيفًا في عمل تبشير الأرثوذكسيّين بالأرثوذكسيّة. نحن نجيب: نعم نبشّرهم بها طالما نحن أمام واقع طائفي أرثوذكسي لا يمتّ إلى الأرثوذكسيّة بصلة. سنبشّر بها، بعد أن ننتهي من أنفسنا، التاجر والمحامي والسياسي والصحافي والكاهن إذا لزم الأمر حتّى يكون كلّ هؤلاء كتلة أرثوذكسيّة صحيحة... في ذلك اليوم الذي فيه نشعر أنّ البيت الأرثوذكسي أرثوذكسي بالفعل والمدرسة الأرثوذكسيّة تنتج رجالاً أرثوذكسيّين بالفعل، في ذلك اليوم فقط نطأطئ رؤوسنا ونقول: لقد ارتاح إلينا الله فتعال يا ربّ وانفخ الحياة فينا... كلّ الناس من الصغير إلى الكبير، هيّا لبّوا نداء الأرثوذكسيّة».

- وقال المحامي الشاب ألبير لحّام السنة 1950: «إنّ العمل في سبيل النهضة المنشودة ليس وقفًا على فئة من أبناء الطائفة دون فئة أخرى إنّما هو مُلقى على عاتق كلّ أرثوذكسيّ أمين... الإصلاح هو الأنقياد المطلق المطيع لروح المسيح في كنيسته».

وأيضًا: "إنّ العمل في سبيل النهضة المنشودة ليس وقفًا على فئة من أبناء الطائفة دون فئة أخرى، إنّما هو ملقى على عاتق كلّ أرثوذكسيّ أمين...الإصلاح هو الانقياد المطلق المطيع لروح المسيح في الكنيسة".

- وكتب كوستي بندلي السنة1960: "الحركي لا يمكن أن يكون في الحركة مستمعًا ومتقبّلاً فقط. يجب أن يكون منتجًا ، أن يشعر بأنّه مسؤول... إنّه يجاهد ليعيش كما يحقّ لإنجيل المسيح، أي حياة صدق واستقامة، حياة محبّة تتجلّى بتفهّم الآخرين ومشاركتهم والاستعداد الدائم لخدمتهم... إنّه يعلم أنّه شاهد للربّ الناهض من بين الأموات".

وقال نفسه: "الحركة وُجدت لتكون قبل كلّ شيء مدرسة للحياة المسيحيّة. فيها يتدرّب الأعضاء على الحياة الروحيّة، وفيها يتعلّمون أن ينظروا بمنظار الإنجيل إلى كلّ نواحي الحياة وقضاياها ومشاكلها، وفيها يتدرّبون على حياة الشركة".

- وقال أخيرًا المطران جورج خضر بعد عدد من السنوات في السنة 1991: "هتكنا الحجب التي كانت تغطّي وجه المسيح لنوقظ النيام ليشتهوه".

* بيّنت لي هذه الأقوال أنّ الحركة اتّخذت لها، عندما قرّرت الالتزام الكنسي منذ البدء التطلّعات التالية:

- النهضة تبدأء بالذات: يا طبيب طبّب نفسك بمعرفة ضعفاتك والتوبة عليها، ولا تنظر إلى القشة التي في عين أخيك متجاهلا الخشبة التي في عينك. وهذه عمليّة لا تنتهي أبدًا.

- لا يكون تجديد الذات والناس إلاّ بإنجيل المسيح. فالتجديد والإصلاح هما في الامتثال الكلّي بيسوع المسيح وسلوكه بين الناس، والعيش الدائم في حضرته.

- يأتي الانحطاط في الطائفة من الابتعاد عن الحياة المسيحيّة وجعل المصالح الفرديّة والجماعيّة تطغي على ما كلّف الربّ به كنيسته أن تكون مهمّتها تنصير نصارى الطائفة وجعلهم أعضاء في جسد المسيح وفي شركة القدّيسين.

- القناعة أنّ الكلّ مسؤول في الكنيسة، أكان كاهنًا أم علمانيًّا بموجب الكهنوت الملوكي الذي يجعل من كلّ أعضاء الجسد شعب الله، المشاركين، كلّ بحسب مواهبه، في عمل الربّ الخلاصي، وبنيان الجسد بإقامة الأسرار بإمامة "الأوّل بين أخوة متساوين"، هذه الأسرار التي تستنير بها النفوس ويستنير العالم.

* وقد عُبّر عن هذه التطلّعات وطُوّرَت بعض الشيء في «المبادىء الستّة» التي خُصّص لها معظم عدد مجلّة النور الأخير.

* وقد أكّد هذه التطلّعات «الطرس البطريركي» الصادر السنة 1946 الذي يعترف بالحركة بعبارات لا بدّ من الإتيان على ذكرها، إذ يتناساها بعض الحركيّين لجسامة المسؤوليّة التي يلقيها عليهم، كما يتناساها كثير من رجالات الكنيسة. يقول هذا الطرس:

1- إنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة منظّمة للشبيبة تدعو سائر صفوف الطائفة إلى نهضة دينيّة ثقافيّة أخلاقيّة اجتماعيّة.

2- إنّ الحركة حركة روحيّة كبرى تعمل في قلب الكنيسة الأرثوذكسيّة وفي خدمتها وتمتدّ إلى كلّ أنحاء الكرسي الأنطاكي المقدّس وهي حائزة رضى المجمع المقدّس الذي بارك أعمالها.

3- إنّها تمثّل تجاه أرثوذكسيّي العالم وغير الأرثوذكسيّين الحركة الرسميّة للشباب الأرثوذكسي وللعمل الأرثوذكسي في الكنيسة الأنطاكيّة المقدّسة.
4- تعمل الحركة في كلّ أبرشيّة من أبرشيّات الكرسي الأنطاكي تحت إشراف سيادة راعيها ولسيادته الحقّ أن يطلب من رئيس المركز بيانات عن سير مركزه.
5- لغبطة البطريرك ومجمعه المقدّس وحدهم حقّ الحكم عليها كهيئة حركة أرثوذكسيّة على أنّ لا علاقة للحركة بعمل أفرادها بصفتهم الشخصيّة فلا تتحمّل ما يصدر عنهم خارج نطاق الحركة.
6- هذا الاعتراف بقانونيّة الحركة الأرثوذكسيّة يخوّلها:

ا- أن تساعد المسؤولين في نشر التعاليم الأرثوذكسيّة في سائر أنحاء الكرسي الأنطاكي ولها أن تعقد لهذ الغرض اجتماعات خاصّة وعامّة وشعبيّة وأن تصد نشرات منتظمة الصدور وغير منتظمة الصدور وأن تتّحذ كلّ طرق الدعاية الدينيّة الناجعة لمساعدة المسؤولين في نشر التعاليم الأرثوذكسيّة.

ب- أن تتمتّع بكلّ الحقوق المعترَف بها من قبل السلطات المدنيّة للهيئات الطائفيّة.

ج- أن تكون محترمة الجانب بصورة أنّ كلّ ما ينسّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أو يعرقل عملها الديني وانتشارها بين أفراد الطائفة الأرثوذكسيّة يمسّ السلطة الروحيّة التي صرّحت لهل بحقّ هذا العمل وهذا الانتشار.

* ما لا شكّ فيه أن هذه التطلّعات لا تزال حيّة لدى معظم شباب الحركة (وكهولها) اليوم. ومع اعترافهم أنّ الربّ قد حقّق الكثير في كنيسته في السنين ال75 الماضية، وأنّه شاء أن يستعمل الحركة لهذا الغرض رغم ضعفات أعضائها، إنّهم باقون على هذه التطلّعات، مع اقتناعهم أنّه لا بدّ من تكييفها وتطويرها لتواجه تحدّيات عصرهم وتقوم بخدمة أنجع في الكنيسة.

* إذ لا يمكن أن يكون تيّارهم أبدًا إزاء الكنيسة، كما يتّهمهم البعض. الحركة من الكنيسة وفي الكنيسة وللكنيسة. وتصرّ على أن تبقى تيّارًا مواهبيًّا يحرّكه الروح في كنيسة المسيح، ويجذّره فيها. كلّ قطيع يتجذّر في المسيح يجذّره المسيح في جسده-الكنيسة. فيضحى منها ويوجد فيها لأنّه ملتصق برأس الجسد ويحيا به، وهو في شركة مع سائر أعضائها، مريدًا أن تعود الجماعة الكنسيّة تفتخر بأنّها مدعوّة أن تكون «أخويّة» كما كانت تُدعى في القرون الأولى. شكّل هذا المفهوم لالتزام الحركة الكنسي مجالاً للخلاف واسعًا مع بعض السادة المطارنة، الذين يصرّ بعضهم على «الطاعة» العمياء، ناسين أنّ بولس الإلهي تكلّم على «الطاعة المتبادلة» (أفسس 5: 21) وأنّ حقل الربّ بحاجة ماسّة إلى العملة.

* لكن يبدو لي بأسى كبير أنّنا نلتهي جميعًا بالقشور، متغافلين «الخراف التائهة» من شعب الله و« سائر أبناء الطائفة الأرثوذكسيّة» (كما ينصّ أحد مبادىء الحركة). نعرف أنّ مَن يؤمّ كنائسنا اليوم لا يتعدّى العشرة في المائة من شعبنا وذلك فقط بمناسبة الأعياد. فهل تساءلنا أين هي البقيّة؟ أندرك أنّ قسطًا غير ضئيل من هذا الشعب يُمارس في كنائس أخرى ويضطلع فيها بمسؤوليّات. أندرك أنّ معظم شبابنا الملتحقين بالمدارس غير الأرثوذكسيّة ينمون بدون معرفة أي شيء عن تراثهم؟ هل سعينا الاتّصال بهم وإقناعهم أنّ أمّهم بحاجة إليهم؟ أو أنّنا منشغلون فقط بمَن يؤمّ رعايانا؟ أمّا القسط الأكبر من غير الممارسين في الكنيسة الارثوذكسيّة فيضمّ الذين ابتعدوا عن الحظيرة لاختلاف بالرأي أو ضعف في الرعاية أو مواقف عقائديّة وإيمانيّة أخرى. هؤلاء هم مسيحيّون بالاسم، هذا إن لم يكونوا قد تخلّوا أيضًا عن الاسم. معظمهم متعلّق بالطائفة الأرثوذكسيّة ومتعصّب لها ولا تزال تربطه بالكنيسة عبرها تقاليد ومشاعر وبعض الوجاهات. وعدد منهم يتكاثر لمي يهتمّ لا بالطائفة ولا بالكنيسة ولا بشؤونهما. ألا يجب على كنيسة الربّ أن تجنّد كلّ طاقاتها الحيّة لتبني جسورًا مع هولاء؟

* وعلينا أيضًأ جمع كلّ قوانا الحيّة لإقناع أبناء البيعة بضرورة التمسّك بالأخلاق المسيحيّة كاملة. وعلينا الإقتناع، أمام هذا المجتمع المتعطّش إلى التملّك، أنّ كلّ ما لنا هو عطيّة من الله وأنّنا ليسنا سوى وكلاء. وأنّ علينا، في عالم يستخفّ الإلهيّات، الدعوة إلى التشبث بما يبدو لكثيرين عديم الفائدة، أي الله، الليتورجيا، القداسة، المجّانيّة والجمال، بيد أنّه ينير كلّ شيء ويعطيه معنى. وأنّ علينا استعادة هذا "الفرح العظيم" الذي يتحدّث عليه إنجيل لوقا (2: 10، 24: 52) والذي يدعونا المسيح أن نثبت فيه، علمًا أنّ هذا الفرح لن يثبت فينا إن ما لم نستعيد عطشنا إلى الله ونقتنع أنّه وحده "الصخرة" و"الكنز الذي لا يُثّمّن"، ونرتمي في أحضانه. وعلينا أن نعي أهميّة العلاقة الشخصيّة مع الله في سرّ لقائنا بواسطة الصلاة والأسرار، لأنّه إن لم يصلّي الإنسان ويبني علاقة وطيدة مع ربّه، لن يستطع أن يعطي معنى لمَن فقد المعنى. أمام عالم يوشك أن يفقد كلّ شعور بالذنب، ويُستباح فيه كلّ شيء، يتوجّب علينا جميعًا ألاّ نخجل بالتوبة إذ نعرف أنّنا خطأة، لا بل أكبر الخطأة، لكن خطأة يُغفر لهم. فحان الوقت أن نتوب ليس فقط إلى الله بل إلى بعضنا البعض، ويكون كلّ يوم من حياتنا يومًا نسجد أمام بعضنا البعض مستغفرين. وفي عالم سادته الفردانيّة وانحلّت فيه الروابط العائليّة، ويسمّر فيه الشباب والشيوخ على صليب الوحدة والانعزال، علينا تحويل جماعاتنا الإفخارستيّة ومؤسّساتنا الكنسيّة إلى أماكن ضيافة رحبة وشركة وخدمة حقّة، مطارح تُختبر فيها وحدة البشريّة بغضّ النظر عن كلّ اختلاف بالرأي أو الجنس أو المعتقد، مطارح يلتقي فيها الزمن بالأبديّة فنتذوّق مسبقًا طعم الملكوت. وفي عالم يحتدم فيه العنف علينا القضاء على دوامة العداوة والثأر الجهنّميّة بمحبّة أعدائنا ولاعنينا. وأخيرًا في عالم يُستباح فيه كلّ شيء بما فيه قدسيّة الحياة، وتبدو الحريّة فيه كأنّها قد أطلقت لنفسها العنان على كلّ الصعد، وخاصّة على صعيد الأخلاق والعلاقات الإنسانيّة، لا بدّ لنا أن نعرف بواسطة ضبط عيشتنا واحترام الآخر وحريّته، والانفتاح على اختلافه، والإقلاع عن كلّ إدانة، والمحبّة بعيدًا عن كلّ مصلحة، أنّ "الأمر مختلف بالنسبة إلينا" (لوقا 22: 26) لأنّنا قد اهتدينا إلى وجه يسوع المصلوب والقائم من بين الأموات.

*وضع عالم اليوم يشبه إلى حدّ كبير الذي ساد أيّام المسيحيّين الأوائل، فهل نحن قادرون على مواجهته على شاكلتهم؟ بالثورة على أنفسنا وعاداتنا في كلّ رعيّة وأبرشيّة، وفي الحركة ضمنهما، لنستعيد معًا محبّتنا الأولى ونعود فنشهد لاسم يسوع دون سواه (لا إسم الحركة أو لا حتّى إسم الكنيسة).

المشاركات الشائعة