الحياة في المسيح

 ريمون رزق

النور - العدد  الثاني 2002

(أسس من الكتاب المقدّس وتوافق الآباء)

"لا تقولوا إن نيل الروح القدس أمر مستحيل؛
لا تقولوا إن الخلاص بدونه ممكن؛
لا تقولوا إنّكم قد تنالونه بدون إدراك ذلك؛
لا تقولوا إن الله لا يكشف نفسه للإنسان؛
لا تقولوا إن الإنسان لا يستطيع معاينة النور الإلهي،
وإن ذلك مستحيل في الأزمنة الحاليّة؛
لم يكن هذا الأمر مستحيلاً يوماً، أيها الأصدقاء؛
على العكس، إنّه ممكن جدّاً، عندما نريد،
لكن فقط للذين قد لطّفت الحياة أهواءهم،
ونقّت عيون ذهنهم" (القديس سمعان اللاهوتي الحديث، النشيد 27)

1. القصد الإلهي

تألّه الإنسان

منذ عهد الرسل وصولاً إلى آباء الكنيسة المعاصرة (كافة المعاصرين من آبائنا الذين يلدوننا بالإيمان كلّ يوم)، نشهد تواصلاً واضحاً في فهم القصد الإلهي وانعكاساته على حياة المسيحيّين. ونعني بهذا الفهم المشترك إتّفاق الآباء على ما هو جوهري وليس الحدّ الأدنى من التوافق؛ إنّه "توافق الآباء" كما جرت العادة بتسميته؛ هذا "التوافق" الذي يرتكز بشكل رئيسي على الكتاب المقدّ‍س، والذي يشكّل، مع الكتاب المقدّس، معياراً لأرثوذكسية الإيمان.

لقد خلق الله الإنسان ليحيا معه، ليقبل معاينته وجهاً لوجه. الإنسان يرفض إلاّ أن الله يبقى وفيّا. يستمرّ بتنفيذ قصده لكن بصورة مختلفة، ويرسل في النهاية ابنه الوحيد ليمنح الإنسان القدرة على الدخول من جديد، وبواسطة الإبن، معه في الشركة. منذ البدء، وبعد القديس بطرس الذي يقول لنا إننا مدعوون كي نصبح "شركاء الطبيعة الإلهية" (2بط 1 /4)، عمد الآباء إلى تلخيص القصد الإلهي بعدّة صيغ متشابهة، نورد عنها هنا ثلاثة أمثلة: شهادة القديس كليمندوس الإسكندري (حوالي140-220): "كلمة الله صار إنساناً لكي تتعلّم أنت كيف يصير الإنسان إلهاً" (Protreptique, XI)؛ وشهادة القديس إيريناوس، أسقف ليون (حوالي 130-208): "لقد صار ابن الله إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً" (Contre les Hérésies, III, 10, 2)؛ وشهادة القديس أثناسيوس الإسكندري، المدعو "الكبير" (295-373): "لقد تجسّد الإله لكي يتألّه الإنسان" (Sur l’Incarnation, 54). 

الهدف إذن من خلق الإنسان هو تألّهه (باليونانية theosis). يمرّ هذا التألّه باتّحاد الإنسان بالله (باليونانية henosis) وينتهي إلى تأمّل الله (باليونانية theoria)، لا في جوهره الذي يبقى سرّياً ومخفيّاً، بل في قوى الله Energies. يتوسّع القديس غريغوريوس النزينزي (حوالي 330- 390) في هذا الموضوع فيتحدّث عن الإنسان وكأنه "الكائن الحيّ المتألّه... عندما يقبل الله" (Discours 45, Pour la Sainte Pâque, verset 7). ويضيف: "أدعو إنساناً من ارتقى بطبيعته البشريّة وتقدّم نحو الله نفسه". وكان القديس باسيليوس الكبير (حوالي 329-379) يردّد دائماً، كما روى عنه غريغوريوس النزينزي: "الإنسان حيوان تلقّى الدعوة ليصبح إلهاً" (Discours). ويقول أيضاً القديس سمعان اللاهوتي الحديث (949-1022) مخاطباً المسيح: "بدون أيّ تحوّل، أصبحت إنساناً، أنت يا إلهي، لكي تؤلّهني، بكلّيتي، أنا الذي احتضنتني" (النشيد 26). ويؤكّد القديس نقولا كاباسيلاس، بعد بضعة قرون (1325/1320 – 1398/1397)، الشيىء نفسه: "إننا نحن البشر نصير آلهة وأبناء لله. وقد تشرّفت طبيعتنا فصار الله إنساناًً وارتفع جسد الانسان، هذا الغبار ارتفع إلى العلاء حتّى صار مشاركاً في العرش للطبيعة الإلهيّة" (الحياة في المسيح).   

قبل السقوط

خلق الإنسان في الفردوس ليعيش في وحدة مع الله، ليكون في حضرته بشكل دائم، وجهاً لوجه أمامه. فالله في العهد القديم ليس فقط العليّ، بل أيضاً "القريب" (مز 119/151). إنه الله الخالق الحاضر دوماً من أجل خليقته (حك 11/25 ؛ روم 1/20). إنه الله المخلّص الحاضر دوماً من أجل شعبه (خر 19/4). إنه الله الحاضر في كلّ الأزمنة، فهو سيّد الزمن، هو "الأول والآخر" (اش 44/6؛رؤ 1/8 و17؛ 22/13). وحتّى في لحظة السقوط، يريد الله أن يبقى حاضراً من أجل الإنسان. فيناديه: "آدم، أين أنت؟" (تك 3/8).

بعد السقوط

بعد السقوط، يتراءى الله لأشخاص مختارين ويطمئنهم بحضوره: يتراءى للآباء ويقيم عهداً معهم (تك 17/7؛ 26/24؛ 28/15)؛ ولموسى الذي كانت مهمّته تحرير شعبه (خر 3/13). يكشف الله لهم عن اسمه. ويضمن لهم حضوره الدائم معهم. فهو سيكون هنا، يسير مع شعبه في كل زمان ومكان (خر 3/13؛ 33/16). وفي نبوءة أشعيا، يعلن لهم عن ولادة طفل يخلّصهم ويدعى "عمّانؤيل" أي "الله معنا" (اش 7/14). يتراءى الله من خلال إشارات مختلفة. من خلال النار والرياح والرعد في جبل سيناء (خر 20/18). ومن خلال نسيم لطيف في مكان آخر (تك 3/38). إلا أنه يبقى "إلهاً محتجباً" (اش 45/15)؛ فرؤية الله "عياناً" (اش 52/8) تبقى أقوى رغبة لدى الإنسان. نجد في العهد القديم حنيناً إلى الفردوس، شعوراً بالندم حيال فقدان القدرة على رؤية الله مباشرة. إنه توق دائم لرؤية وجهه. لقد اختبر كلّ من موسى وإيليا شكلاً من أشكال ظهور الله لكن بدون رؤيته وجهاً لوجه. يقول الله لموسى: "ترى ظهري، وأمّا وجهي فلا يرى" (خر 33/22). أمّا إيليا "فيستر وجهه" ولا يسمع سوى صوت عند عبور الله المحتجب في نسيم لطيف (1مل 19/13).

التجسّد

مع تجسد الابن تصبح هذه المعاينة ممكنة من جديد، وكذلك التألّه. عمّانؤيل "سكن بيننا" (يو 1/14). يمكن رؤية الله في يسوع المسيح. ففي المسيح تتّحد الطبيعة البشرية بالطبيعة الإلهيّة وتفتح كافة الأبواب من جديد أمام الإنسان. يؤكّد ذلك يوحنا الإنجيلي :"فرأينا مجده، مجداً من لدن الآب لابن وحيد" (يو 1/14). "الحياة التي كانت لدى الآب فتجلّت لنا" (1يو 1/1-3). وقد سمعنا السيد يقول: "من رآني رأى الآب" (يو 14/8؛ 1/18؛ 12/45). كما أنه يطمئننا من جهة حضوره الدائم معنا: "وهاءنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالم" (متى 28/20).

2. العودة إلى حضن الله

من الصورة إلى المثال

إن صورة الله التي زرعت في الإنسان عند الخلق والتي أظلمتها الخطيئة، تعود إذن ينبوعاً للحياة. فالإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله يستطيع من الآن فصاعداً الاستناد إلى هذه الصورة لتحقيق المثال. الحياة في المسيح هي الإتّحاد بالمثال الأصلي الذي يقود الإنسان نحو الكمال. فالعودة إلى الآب يتمّمها المسيح وهي تتمّ من خلاله. يحثّ القديس أغناطيوس الأنطاكي (+ بين 100 و117) أهل فيلادلفيا بقوله: "اقتدوا بيسوع المسيح كاقتدائه بالله" (VII). "الاقتداء" في هذا السياق يعني اتّحاداً وتمثّلاً وادماجاً، وليس مجرد محاكاة بسيطة.

يؤكّد القديس غريغوريوس النزينزي، المعروف باللاهوتي، في القرن الرابع: "لقد استعدنا كمال طبيعتنا بالمسيح." ويضيف: "يجب أن أصبح وريثاً معه للسماء، أن أصبح ابناً لله، أن أصبح إلهاً... لقد جاء لكي يرفع الجسد ويرتقي به، ليخلّص صورته، ليصلح الإنسان. لقد جاء لكي يوحّدنا فيه... لقد حلّ فينا لينسكب كاملاً فينا.... لم يعد هناك رجل أو امرأة... لم يعد هناك سوى صورة الله التي نحملها جميعنا في داخلنا، والتي خلقنا على أساسها، والتي يجب أن نحفرها فينا فتصبح كافيةً للتعريف بنا" (Discours 7). ويقول القديس باسيليوس الكبير: "أن نتشبه بالله ونتحوّل إليه، بقدر ما تسمحه لنا طبيعتنا البشريّة؛ هذا ما نحن مدعوّون إليه" (في الروح القدس).

يقول القديس مكسيموس المعترف (580- 662) في القرن السابع: "يعيد الابن الطبيعة إلى نفسها... المجد نفسه الذي منحه الآب للابن، يمنحنا إيّاه الابن بالنعمة... لقد جعلنا أقرباء له. والوحدة التي تجمعنا هي مماثلة لوحدة الزوج مع زوجته والمرأة مع زوجها" (Traité Ethique 1:6; 57: 127). وفي حديثه عن الله، يضيف: "إنّه الذي يتمنّى خلاص الانسان ويتعطّش لتألّهه" (Centuries des Textes Variés 1:74). ويقول أيضاً: "يمكننا الاتّحاد بالله فلا يعود بيننا أيّ حدّ فاصل". ويؤكّد القديس إسحق السرياني، الذي ولد في ما يعرف اليوم بقطر، في القرن السابع، على أن الله هو دوماً "بانتظار اللقاء"، فليس مهمّاً أن نتكلّم عن الله، بل أن نتحوّل به ومن أجله. 

يكرّر القديس سمعان اللاهوتي الحديث الشيىء نفسه في القرن العاشر – الحادي عشر: "بالاتّحاد بالمسيح فقط يبلغ الانسان ملء كيانه، ويجد كمال طبيعته وكلّيتها، والمعنى الحقيقي، الأوّل والأخير، لمصيره، وكمال أعماله وحياته كلّها. فبالمسيح وحده يستطيع الانسان أن يكون إنساناً، كاملاً، ويحقّق طبيعته الحقيقيّة بكلّ أبعادها". ينقل إلينا القديس سمعان ما سمعه من المسيح نفسه في هذه الكلمات: "أنا الإله الذي صار إنساناً من محبّته لك. فبما أنّك قد تمنّيتني وسعيت إليّ بكلّ جوارحك، فأنت منذ الآن أخي، صديقي، ووريث للمجد معي" (Actions de grâce, 2). ويقول أيضاً: "يتّحد المسيح بنا بالنعمة كما هو متّحد بالآب بالطبيعة" 

يؤكّد نقولا كاباسيلاس في القرن الرابع عشر على أن "المسيح يتدخّل بلا انقطاع، لا بالكلام أو بالطلبات، بل بالأعمال... يوحّدنا به، ويشركنا بنعمه الخاصة، كلّ بحسب درجة استحقاقه وبرّه" (المرجع المذكور).

أمّا في أيّامنا هذه، فلا يزال العديد من اللاهوتيين المعاصرين يزوّدوننا بالتعليم نفسه. فيؤكّد الأسقف كاليستوس وير (المولود في عام 1934)، وهو أستاذ في جامعة أكسفورد وأحد ألمع الشهود للأرثوذكسيّة في زمننا الحالي، على أن "الإنسان – السائح يبقى طوال حياته على الدرب التي تصل بين الصورة والمثال". وقد كتب الأب يوحنا مايندورف (+1992): "لا يكون الانسان إنساناً حقّاً ما لم يشترك بالحياة الإلهية ويحقّق صورة الله في داخله" (Le Christ dans la théologie Byzantine, p. 288). ويضيف: "ليست الحقيقة الجديدة (حقيقة الله) .... مجرّد مجموعة من المعارف، لكنّها حياة جديدة. لا تفرض نفسها علينا كحقيقة خارجيّة، بل كتبديل لكياننا، وتجلّ لنا" (الكنيسة الأرثوذكسيّة بين الماضي والحاضر). ويؤكّد اللاهوتي الروماني الكبير، الأب د. ستانيلواي (1903 - 1993) في كتابه الرائع، "ألله محبّة"، على أن "الانسان يغيّر وجهه في المسيح، يصبح هو وجهاً للمسيح، ومسكناً له. وأكثر من ذلك، يعكس المسيح، يصير هو المسيح. إنّه مسيح ليس فقط بما هو إلهيّ في داخله، بل أيضاً بما هو مخلوق ومتّحد بغير المخلوق، كما المسيح هو نفسه ليس فقط الإله غير المخلوق، بل أيضاً الانسان المخلوق، إذ أن هاتين النقطتين لا تنفصلان". ويقول بول أفدوكيموف (1900 - 1969) في هذا السياق: "للانسان، المخلوق على صورة الله ومثاله، وجهة رئيسيّة تحدّده... فكما تنجذب أيّة نسخة إلى أصلها، يتوق الانسان–الصورة إلى تخطّي ذاته والارتماء في الله، فيسكّن الحنين الذي يشعر به" (Les âges de la vie spirituelle, p. 145 ). ويذكّرنا القديس سلوان الأثوسي (1866 – 1938)، الذي ظهر عليه المسيح في القرن العشرين، بأنه على الانسان أن يجاهد ليصل إلى الحياة الإلهيّة، إذ أن "الاعتقاد بوجود الله شيىء، ومعرفة الله شيىء آخر" (الستاريتس سلوان، راهب من جبل آثوس، الأرشمندريت صفروني).   

كلّ إنسان، مخلوق على صورة الله، هو إذن مدعوّ ليصبح "صورة في المسيح"، "ليتمسحن"، ويتّحد بالمسيح ويتمثّله، فيصبح بالتالي مخلوقاً جديداً حقيقيّاً. لا يقتصر الأمر على "مجرّد "محاكاة" بسيطة للمسيح، بل يعني أن "نجعله في داخلنا"، كما يقول بول أفدوكيموف، أن نؤلّف معه "جسداً واحداً"، على حسب تعبير الآباء. يتحدّث القديس نقولا كاباسيلاس حتّى عن "قرابة دمويّة" (المرجع المذكور، IV). يقول لنا إسحق السرياني: "من أجل بلوغ الكمال والمثال يجب ألاّ نتوقّف أبداً عن تلقّي حياة الرب يسوح المسيح في داخلنا". لقد كتب القديس إيريناوس، أسقف ليون، منذ القرن الثاني: "عندما نصبح مقلّدين لأفعاله ومنفّذين لأقواله، نصل إلى الاتّحاد به، فننال بواسطة ذلك، نحن المخلوقون من جديد، من الذي هو كامل...النموّ، ومن الذي هو وحده كلّي الرحمة وفائق الصلاح أن نكون على مثاله" (المرجع المذكور، V). كما يقول كليمندوس الإسكندري: "بالنسبة لنا، المسيح هو الصورة التي لا عيب فيها. يجب أن نبذل كلّ جهدنا لنجعل صورتنا شبيهةً بها" (Le Pédagogue, I, II, 4, 2). ليست الحياة في المسيح إذن مجرّد مسألة حسن سلوك أو لطف. فالحوار بين يسوع والشاب الغني (وكلّ منّا غنيّ بطريقة أو بأخرى) حاسم: لا يكفي أن تحفظ الوصايا، يجب أن تتبع يسوع نفسه، يجب أن يحيا هو فينا، يجب ان نقبل بأن يأخذنا معه إلى المكان الذي يقصده، أي إلى الآب، مروراً بالصليب والقيامة. فالأمر لا يقلّ أبداً عن "الإنتقال من مرحلة المسيح الذي "معنا" إلى مرحلة المسيح الذي "فينا""، كما يقول أوريجينوس (185 – 253) في القرن الثالث (كما استشهد به لويس بويي Louis Bouyer، La spritualité du Nouveau Testament et des Pères, p. 350). يقضي الأمر بالانتقال من الاقتداء بالمسيح إلى الاشتراك الحقيقي بحياته نفسها وبالتالي بحياة الله. يؤكّد القديس كيرلّس الإسكندري (380/376 – 444) على "أننا لا نستطيع الدخول في الآب .... ما لم يجعلنا المسيح فيه أو يحلّ هو فينا". يجب أن "نلبس المسيح" ونصل إلى القول: "فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ" (غل 2/20). يجب أن "نسعى من كلّ قلبنا لكي نتشبّه بالمسيح"، كما يقول القديس المصري مكاريوس الكبير (حوالي 300 – 390). ويقول القديس أوغسطينوس (354-430) في السياق نفسه في كتابه Les Confessions: "لقد صنعتنا لأجلك، وسيظلّ قلبنا قلقاً حتّى يرتاح فيك". ويؤكّد القديس
غريغوريوس النيصصي (330 – 395): "لا يقضي الأمر بأن نعرف شيئاً عن الله، بل أن يكون الله فينا". ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم ( 348/354 - 407): "لقد امتزج بنا، وحلّ جسده فينا، لكي نصير واحداًً، مثل الجسد المتّحد بالرأس". ويقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث، مخاطباً المسيح: "أنت من جنسنا بالجسد ونحن من جنسك بالألوهة، فبتجسّدك منحتنا روحك القدّوس... تصنع من كلّ واحد منّا مسكنّا لك، تسكن فينا وتصبح أنت مسكننا جميعاً ونسكن فيك. كلّ واحد منّا، أيّها المخلّص، معك بكلّيّته. ومع كلّ واحد منّا، تكون، معه وحده... وكذلك تصبح أعضاء كلّ واحد منّا أعضاء للمسيح... فنصبح آلهة إذ اننا نحيا دائماً مع الله" (أناشيد، 15). ويضيف في مكان آخر: "تصبح معي روحاً واحداً، بدون لبس أو تشويه". أمّا القديس غريغوريوس بالاماس (1296- 1371)، وهو المنادي الأكبر باتّحاد الانسان بالله من خلال القوى الإلهيّة Energies في القرن الرابع العشر، فيعرّف عن التمثّل بالمسيح بأنه "صحّة النفس وكمالها" (الثلاثيّات II، 1، 42). يكون الإنسان الانسان-الإله أو لا يكون. فخلاص الانسان رهن بتألّهه.     

أسس من الكتاب المقدّس

هذا التعليم  متجذّر في العهد الجديد. فالإنسان مدعوّ إلى أن يصبح كاملاً على صورة المسيح ومثاله. يكفي قراءة: قول 1/28؛ اف 4/13؛ عب 10/14، 12/2، 12/23؛ ويو 1/ 4 لنقتنع بذلك. ففي المسيح وبالمسيح (متى 5/48) نصل إلى الحياة إذ نصبح "شركاء الطبيعة الإلهيّة" (2بط 1 /4). هذه ليست نصائح أخلاقيّة للتقوى بل دعوة إلى "تمسحن" حقيقيّ. يسوع ليس بين المؤمنين بل هو فيهم (غل 2/20؛ اف 3/17). يغذّيهم من جسده (1قور 10/16). روحه يحلّ فيهم ويحرّكهم (روم 9/9و14). يجعلهم هيكلاً لله (1قور 3/16؛ 6/19؛ اف 2/21) وأعضاء من المسيح (1قور 12/12و27). يدعوهم للبحث عنه أينما كان بالإيمان. غير أن المسيح هو في الذين يأكلون جسده ويشربون دمه (يو 6/56و63). وهو أيضاً مع أبيه (يو 20/17). هو في المساكين حيث يريد أن يخدم (متى 25/40)، في كلّ الذين يحملون كلمته ويريد أن يسمع من خلالهم (لو 10/16). وهو أخيراً بين كلّ الذين يجتمعون للصلاة باسمه (متى 18/20). بفضل نعمة الروح القدس، يملك التلاميذ في داخلهم المحبّة التي تجمع بين الآب والابن (يو 17/26). يجعل منهم أحبّاء له (يو 15/15) وأبناءً لأبيه (يو 20/17). لذلك يقيم الله فيهم (1يو 4/12). إلا أن حضور الله لا يكون كاملاً إلا بعد الموت (2قور 5/8). إذ بعد القيامة بالروح (روم 8/11)، يرون الله الذي يكون "كلّ شيىء في كلّ شيىء" (1قور 13/12؛ 15/28).

3. العودة، صنيع مشترك بين الله والانسان

 التناغم La Synergie

تتمّ هذا المسيرة نحو التألّه بتوافق المشيئة والعمل بين نعمة الله ومجهود الانسان. هذا ما يسمّى في اللاهوت الشرقي بالتعاون (أو التعاضد) “synergie”. يقول مكاريوس الكبير: "لا يستطيع الله أن يفعل شيئاً بمفرده". فهو يتطلّع إلى مشاركتنا في صنع خلاصنا. يقول القديس يوحنّا الذهبي الفم: "الخير رهن بنا وبالله. يجب أولاً أن نختار الخير، وبعد الخيار الذي نتّخذه، يمنحنا الله ما يأتي من لدنه. إنه لا يتجاوز مشيئتنا احتراماً لحرّيتنا، لكن عندما نختار، يمنحنا عونه العظيم" (العظة 16 عن القديس يوحنا). وبحسب كاباسيلاس، "تكمن الحياة في المسيح بالتعاون بين ما هو إلهي، خاص بالله، وبشري، أي إرادتنا الحرّة وجهدنا وحماسنا" (المرجع المذكور I). إننا نحظى إذن بالنعمة مجاناً ويتوجّب علينا النضال للمحافظة عليها وجعلها تثمر فينا. يجمع التقليد الآبائي بأسره على ضرورة جهاد الانسان من أجل خلاصه، متّفقاً بذلك مع تأكيد الكتاب المقدّس على بطلان الإيمان إذا لم يترجم بالأعمال. يجب أن يملك الانسان الإرادة بالشفاء. يجب أن "يمسحن" إرادته، أن يقبل بأن تتّحد مشيئته بمشيئة المسيح. "لتكن مشيئتك" في الصلاة الربانيّة تعني: "إني مستعدّ للتنازل عن مشيئتي أمام مشيئتك. إني مستعد لبذل الجهد الضروري لتلقّي نعمتك. "Fiat إنّها مسألة عزم". إصنع بي ما تشاء. ساعدني كي أصبح كما يجب أن أكون". يقول مكاريوس الكبير في إحدى العظات المنسوبة إليه: "يملك الانسان في طبيعته العمل الطوعي، وهذا ما يطلبه الله. يعلّم الكتاب المقدّس أنه على الانسان أن يفكّر أولاً، ثم يحبّ، وأخيراً يعمل طوعاً... ثم تأتي نعمة الله التي يمنحها لمن يريد ومن يؤمن. فمشيئة الانسان هي إذن عنصر إضافي مساعد مرتبط بجوهره. بدون هذه المشيئة، الله نفسه لا يفعل شيئاً، حتّى لو كان قادراً على التدخّل، وذلك احتراماً لحرية الانسان في الاختيار. ففعالية عمل الله رهن إذن بمشيئة الانسان" (Homélies, 27, 10). ويضيف: "يجب أن تتوافق مشيئة الانسان مع النعمة الإلهيّة (ditto, 15, 5). ويورد القديس غريغوريوس النيصصي في مقالته عن المعموديّة: "لا يمكن أن يطرأ أيّ تبدّل في حياتنا من جرّاء التجدّد ما لم يتغيّر شيىء في حياتنا... ما لم تكن حياتنا بعد المعموديّة مختلفة عن حياتنا قبلها... وإلاّ تكون ماء العمودية مجرّد ماء عادية" (40). أمّا القديس ذياذوخس أسقف فوتيكي، فيسلّم، في القرن الخامس، بأن ترميم الصورة يكون ممكناً بفضل النعمة. لكن المثال "ينتظر مساهمتنا ليمنح إلينا" (مائة مقالة في المعرفة الروحية، 55). ويقول مكسيموس المعترف: "كلّ واحد منّا يملك قوّة الروح القدس الجليّة بحسب مقدار إيمانه. فكلّ واحد هو إذن أمين على النعمة الخاصة به" (Questions à Thalassios, 54). ويؤيّد القديس يوحنا الذهبي الفم هذه الأقوال: "بعد الحصول على النعمة الإلهيّة، يصبح كلّ شيء رهناً بنا وباجتهادنا" (Catéchèses Baptismales, 54) ويؤكّد على أن "الطبيب السماوي لا يشفينا رغماً عنّا" (Commentaires sur Matthieu, 28, 4). ويستفيض القديس باسيليوس الكبير في شرح هذه الفكرة: "طبيب النفوس العظيم مستعدّ لشفاء كلّ علّة. فإذا سلّمته نفسك لن يتردّد أبداً" (Lettres, 46, 6). ويستخدم القديس كيرلّس الأورشليمي (حوالي 315 – 387) هذه الصورة المتعلّقة بالطبيب ويقول لكلّ واحد منّا: "إن جراحاتك لا تفوق قدرة الطبيب العليّ. سلّم نفسك له بالإيمان وبح له بدائك" (Catéchèses Baptismales, 2,6). أما القديس مرقس الناسك الذي عاش في منتصف القرن الخامس، فيؤكّد من ناحيته على أن "النعمة الإلهية تبقى فينا إلا أنها لا تفرض نفسها علينا... فلا تظهر نتائجها إلا بقدر إيماننا ورجائنا وحفظنا للوصايا" (Le Baptême, 4, 22; 15, 16).

العمل من أجل خلاصنا: الجهاد بالأعمال Praxis

يذكّرنا القديس غريغوريوس النزينزي بأن أول إنسان مخلوق كان "عارياً، على طبيعته" (Discours 45, 8) وأنه علينا أن نتحرّر من "أقمصة الجلد" (تك 3/21) لنتمكّن من الجهاد في سبيل خلاصنا ونلبس المسيح حقّاً. يدعونا المطران جورج خضر (المولود عام 1923)، مستخدماً الصورة نفسها، إلى "أن نتعرّى من كلّ شيىء إلاّ من محبة الله". يقتضي هذا المجهود النسكي الذي هو مساهمة الانسان في مسيرة التألّه، تطهّرنا من أهوائنا واكتسابنا الفضائل.

يبدأ هذا المجهود بفعل التوبة (باليونانية : ميتانويا metanoia) الذي يعني اعترافنا بوضعنا كخطأة واتّخاذنا القرار بتغيير حياتنا تغييراً جذريّاً. إنّه تبديل فعلي في الاتّجاه الذي نسلك به، إنه اهتداء. وهذا ما هو مطلوب من المسيحيّ قبل أي شيىء. يقول القديس يوحنّا السلّمي (+650): "لن نلام يا إخوة عند خروجنا من الدنيا على عدم اجتراحنا للعجائب أو عدم تكلّمنا باللاهوت أو عدم معاينتنا للرؤى، لكننا سنؤدّي حساباً لله بالتأكيد عن أننا لم نبك بدون انقطاع" (السلّم إلى الله، 7، 70). ويضيف: "التوبة ابنة للرجاء وجحود لليأس" (المرجع المذكور، 5، 2). يقول القديس اسحق السرياني: "لقد نلنا هذه الحياة من أجل التوبة؛ فلا تهدروها بالبحث سدىً عن أشياء أخرى". ويضيف: "من يعرف خطاياه هو أعظم ممّن يقيم الموتى... ومن أعطي له أن يرى نفسه أعظم ممّن أهّل لمشاهدة الملائكة" (نسكيّات، 34). ويذكّرنا القديس افرام السرياني (حوالي 306 – 373) بأن "بداية الخلاص هي أن نعرف نفسنا". كما يؤكّد القديس يوحنا الذهبي الفم في إحدى عظاته على أن "الانسان الذي لا يعرف داءه لا يكترث لأمر إعاقته". ويكتب الأسقف "كاليستوس وير" Kallistos Ware في الحديث عن خبرته بالتوبة: "ليست التوبة يأساً بل هي انتظار حار؛ ليست الشعور بأنّك في مأزق بل أنك قد وجدت مخرجاً. هي أن تنظر إلى فوق، إلى محبّة الله. ألاّ تنظر إلى ما لم تستطع أن تكونه، بل إلى ما يمكنك أن تكونه بنعمة المسيح" (Le Royaume intérieur, Ed le sel de la terre, p. 50).

إن ما يطلق عليه الآباء اسم "الحياة العملية" أو الجهاد" (باليونانية "براكسيس" Praxis) لا يتضارب مع ما جرت العادة بتسميته في أيامنا "بالحياة الروحيّة". فهي "ليست حياة في خدمة العالم، بل هي نضال داخليّ للتغلّب على الأهواء واكتساب الفضائل"، كما يقول كلّ من إفاغريوس البنطي ومكسيموس المعترف إلى جانب العديد من الآباء الآخرين. إنها بالتحديد هذا النضال من أجل معرفة الذات معرفةً حقيقيّة وتغيير حياتنا. فمعيار النضال هو إذن الحقيقة الداخليّة وليس الحالة الخارجيّة. بحسب الآباء، يقودنا الجهاد إلى التأمّل (باليونانيّة "ثيوريا" theoria). فما من تضارب بين الاثنين. إنهما وجهان لعملة واحدة. ليست مرتا ومريم نموذجين متضاربين في الموقف أو الإلتزام بالنسبة للمسيحيّين. فكلّ واحد منّا مدعوّ لأن يكون مرتا ومريم في الوقت نفسه، أيّاً كان وضعه، أكان يعيش في العالم أو في الدير.

الجهاد هو حفظ الوصايا وتطبيقها لكي نصل إلى المسيح. يقول مكسيموس المعترف: "كلمة الله ينكشف في الذين يعملون بالوصايا ويحفظونها. فبالوصايا يقود هؤلاء، بوصفه الكلمة، نحو الآب" (Questions à Thalassios, 25,3). ويؤكّد مرقس الناسك على أن: "السيد مختبىء في وصاياه، ونحن نجده بقدر ما نسعى إليه... لا تقل قد جاهدت ولم أجد السيد) (Loi Spirituelle, 191, 192). يجب إذن معرفة الوصايا معرفةً حقيقيّة وأخذها على محمل الجدّ. من أجل ذلك، يجب أن تتطابق حياتنا مع حياة المسيح، يجب أن نتشبّه به. كما يقول لنا القديس اسحق السرياني: "كونوا متعطّشين للمسيح، وهو يرويكم بمحبّته". هذا التشبّه بالمسيح، "الاقتداء" به إلى حدّ الاندماج به، هو من المواضيع التي تتكرّر في كتابات الآباء.

4. نيل الروح القدس: مفتاح الاندماج بالمسيح

كلّ شيء يبدأ، كما سبق وأشرنا أعلاه، بالتوبة التي تقلب كياننا، ثم يتبعها استدعاء الروح القدس. فبدون الروح القدس ما من ولوج إلى المسيح، وبدون حياة في المسيح لا نستطيع الوصول إلى الآب. يقول القديس ساروفيم ساروفسكي (1759 – 1833): "إن هدف الحياة المسيحيّة هو نيل الروح القدس... أما الأصوام والسهرانيّات والصلوات وعمل الخير والأعمال الصالحة الأخرى التي تتمّ باسم المسيح، فليست سوى وسائل لنيل الروح القدس" (Entretiens avec Motovilov). والروح القدس، كما يقول الأب "سيرج بولجاكوف" Serge Boulgakov (1871- 1944)، الذي قد سمّاه البعض "أوريجينوس" القرن العشرين: "هو الله بحيث أنّه يتمّم الحقيقة ويحييها ويقدّمها إلى العالم" (L’Eglise Orthodoxe, p. 146). ويقول أثناسيوس الاسكندري: "لقد لبس الله الجسد لكي يستطيع الانسان أن يلبس الروح" (De l’Incarnation et contre les ariens, 8). ويقول كيرلّس الإسكندري: "لنفترض أننا بقينا محرومين من الروح القدس، مع العلم أن هذا مستحيل، لا يمكن حتّى أن يخطر في بالنا ما الذي يفعله الله فينا" (Sur Jean). أمّا غريغوريوس النيصصي فيؤكّد على أنّه "لا يمكن أن نتصوّر الابن بدون الروح القدس، ولا يمكن تسمية يسوع ربّاً إلاّ بالروح القدس" (Contre les Macédoniens). وفي صيغة أخرى للصلاة الربانيّة، وهي التي يفضّلها القديس غريغوريوس النيصصي، تستبدل عبارة "ليأت ملكوتك" بـ "ليأت روحك القدّوس"، إذ ان أبواب الملكوت تفتح بالروح القدس. لذا تبدأ كافة الصلوات في الكنيسة الأرثوذكسية باستدعاء الروح القدس: "أيها الملك السماوي، المعزي، روح الحق، الحاضر في كلّ مكان وصقع والمالىء الكلّ، كنز الصالحات ورازق الحياة، هلمّ واسكن فينا، وطهّرنا من كلّ دنس، وخلّص أيها الصالح نفوسنا".
هذا لا يعني أبداً أنه يجب الفصل بين عمل الابن وعمل الروح القدس. يقول القديس سلوان الأثوسي (1866- 1938) مخاطباً المسيح: "أعطيتني أن أحيا عذوبة روحك القدوس... وروحك القدوس منحني أن أميّزك" (المرجع المذكور). ويعلّمنا القديس غريغوريوس النيصصي

"ألاّ نفكّر أبداً بالمسيح بمعزل عن الروح القدس" (Du Saint-Esprit. Contre les Macédoniens). أمّا القديس إيريناوس أسقف ليون، فيشدّد على أن الابن والروح القدس هما "يدا الله" (op. cité, IV, 20, 1). إن اقتناء مثال المسيح ونيل الروح القدس أمران لا يفترقان ويؤثّر الواحد في الآخر.

5. السبل إلى الاندماج بالمسيح

الاندماج بالمسيح في الجماعة الرسوليّة

 يصف كتاب أعمال الرسل، بالإضافة إلى بعض رسائل بولس، حياة الجماعات الرسوليّة. فأحاديث بولس الرسول عن حياته في المسيح تكشف عن عقليّة هذه الجماعات: "الحياة عندي هي المسيح" (فل 1/21)؛ "تحيون لله في يسوع المسيح" (روم 6/10)؛ "حياتكم محتجبة مع المسيح في الله" (قول 3/3)؛ أريد أن أحيا على الدوام "للّذي مات وقام" (2قور 5/15). وكيف ننسى، من بين العديد من الأقوال الأخرى، تأكيده في رسالته إلى أهل غلاطية: ""فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ" (غل 2/20).

يطبّق المسيحيّون الأوائل تعاليم المسيح حرفيّاً في قلب جماعة محبّة ومضيافة. إنهم ممتلئون بفرح القيامة ومدركون لحضور السيّد بينهم. وهكذا يعيش المؤمنون معاً، في مكان واحد، بدون تمييز في السن أو الجنس أو المرتبة  الاجتماعية أو العرق (روم 16/23؛ 1قور 2 /1؛ 2قور 1/1؛ 1طيم 1/1؛ رسل 11/22؛ غل 3/28؛ قول 3/11...). يجتمعون بانتظام "بابتهاج وسلامة قلب" (رسل 2/46) "لإعلان موت الرب إلى أن يأتي" (1قور 11/26). إنهم "مواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات" (رسل 2/42). يتشاركون بكلّ شيىء، "كان كلّ شيىء مشتركاً بينهم" (رسل 2/44؛ 4/32). يعتبرون أنفسهم إخوة بالمسيح ويتعاملون في ما بينهم على هذا الأساس. لذا فكان من الطبيعي تسمية المسيحيّة في تلك الفترة "بالأخويّة". إلا أن هؤلاء المسيحيّين كانوا يتوقون إلى أكثر من ذلك، فكانوا ينتظرون عبثاً المجيء الثاني للرب وقد كانوا يرجونه قريباً.

الاندماج بالمسيح بواسطة الشهادة

خلال القرون الثلاثة الأولى لحياة الكنيسة، كان التعبير الأبرز للاندماج بالمسيح هو الرغبة في بذل الحياة بالمعنى الحرفيّ من أجله بواسطة الشهادة. يرتكز هذا الموقف على نصوص مختلفة من الكتاب المقدّس. يعتبر الشهداء "الأقران الحقيقيّين للمسيح"، كما نقرأ في الرسالة إلى كنيستي فيينّا وليون التي يوردها القديس افسابيوس في كتابه Histoire Ecclésiastique (I. V, c, II, 2). والقديس إغناطيوس الأنطاكي هو من بين الذين عبّروا ببلاغة عن هذا التوق إلى الشهادة. يكتب في رسالته إلى أهل أفسس: "لنتنافس فيمن يقتدي أكثر بالمسيح فيحتمل الظلم والعوز والاحتقار" (X، 3). وفي رسالته إلى المغنوصيّين، يكتب: "إذا لم نكن مستعدّين للموت، بواسطته، ولاحتمال عذاباته على مثاله، فحياته لا تكون فينا" (V، 2). وفي رسالته إلى الرومانيّين، يصف الشهادة وكأنّها الأمل الوحيد "في استرجاع الذات" بالمسيح، الأمل في "بلوغ" المسيح: "من الحسن أن أموت بطريقة تخوّلني أن أكون في المسيح يسوع... فهو الذي أبحث عنه، هو الذي قد مات لأجلنا، هو الذي أريد، هو الذي قد قام من أجلنا... الآن أتعلّم كيف أصبح تلميذاً حقيقيّاً. لا تمنعوني من أن أنفتح على الحياة" (V  إلى VI). وتؤكّد الحكمة القائلة: "أرق دمك فتنال الروح القدس" على أن الشهادة كانت تعتبر معموديّة حقيقيّة وقد تحلّ حتّى محلّها. يسيطر مفهوم الشهادة على حياة المسيحيّين الروحية في القرون الأولى وعلى طقوسهم وعبادتهم.

الاندماج بالمسيح من خلال الرهبنة

مع تنصّر الإمبراطوريّة وتوقّف الاضطهادات، كانت العودة إلى النموذج الرسولي، من خلال  جماعات تحيا على مثال جماعة أورشليم، أبرز بديل للشهادة. كان القديس كليمندوس الإسكندري قد تحدّث عن هذا البديل بقوله: "إذا كانت الشهادة هي الاعتراف بالله، فكلّ نفس تحيا بنقاء بتعاليم الله وتحفظ الوصايا هي شهيدة في حياتها وأقوالها... إنها تريق إيمانها كالدم خلال حياتها وعند لحظة موتها" (Stromates, I, IV, 4, 15). في الواقع، ليست الرهبنة، التي غالباً ما توصف على أنها ردّة فعل جديدة ومبتكرة على حياة المسيحيين التي تكيّفت مع العالم عند توقّف الاضطهادات، إلاّ عودة إلى حياة فيها مواظبة على الصلاة ومشاركة بالمقتنيات وكسر الخبز وكافة الممارسات الأخرى التي كانت مطبّقة في الجماعة الرسوليّة. فباستثناء التبتّل الاختياري، لا يقوم الرهبان سوى بالحفاظ، في ظروف مغايرة، على المثال الأصلي لحياة المسيحيّين في الجماعات الأولى. يقول الأب "لويس بوييّ" Louis Bouyer: "عندما يعقب عالماً كان المسيحيّون فيه مبعدين ومرذولين، عالم يصبحون فيه مكرّمين، بدون أيّ تغيير في ذهنيّة هذا العالم، من الطبيعي أن تختار الصفوة من المسيحيّين، طوعاً، وبشكل عفويّ، إبعاد نفسها وإن لم يعد هناك داعياً لذلك. ففي عالم لم يعد ينظر إليهم على أنّهم أعداء، يشعر هؤلاء المسيحيّون بضرورة العيش كأعداء للعالم: فهم يدركون أنّهم، بدون ذلك، كانوا سريعاً ليصبحوا عبيداً له" (op. cité, p. 371). أراد الرهبان الأوائل، بتحرّرهم من كلّ شيىء، الانصياع لتعاليم المسيح، وقد قرّروا تطبيق كلّ كلمة بحرفيّتها، خاصة تلك التي قالها المسيح للشاب الغني: "إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع أموالك وأعطها للفقراء ، وتعال فاتبعني" (متى 19/21؛ مر 10/21؛ لو 18/22)، أو أيضاً: "من لم يحمل صليبه ويتبعني، فليس أهلاً بي" (متى 10/38؛ 16/24؛ لو 14/26؛ 9/23؛ مر 8/34).

بالتالي، إن هذه الدعوة التي كان من المفترض أن تعني كافة المسيحيّين، على الأقلّ في توافقيّاتها الرئيسيّة، أصبحت حكراً على أقليّة. فجرت العادة على التحدّث عن "المثاليّة" النخبويّة المسيحيّة المتمثّلة بالرهبان و"الآباء الروحيّين"، مقابل جمهور المسيحيّين العاديّين المدعوّين إلى "أن يفعلوا الحدّ الأدنى ليظلّوا وفق الأصول".

"المثالية" الرهبانيّة بقصد الاندماج بالمسيح تعنينا كلّنا

ولكن سرعان ما علت الأصوات للتذكير بأن ما يسمّى بـ "المثالية" إنّما هو المقتضيات الطبيعيّة للمسيحيّة الملتزمة، والتي العالم بأسره مدعوّ إليها. فالقاعدة الأولى التي وضعها القديس باسيليوس الكبير إنّما كانت موجّهة بالأصل إلى كافة المسيحيّين الذين يرغبون فعلاً في "الحياة في المسيح". فلم يكن باسيليوس بصدد تأسيس جماعة رهبانيّة جديدة. كان يريد جماعةً ملتزمة بتطبيق الحياة المسيحيّة كاملةً، كنيسةً تطيع الانجيل وتحيا به. كان يصعب عليه تقبّل ألاّ تكون الجماعة المؤسّسة على مبدأ الاقتداء الجذري بالمسيح ممتزّجةً بشكل كامل بالرعيّة، تلك الكنيسة المحلّية. كان يحلم بحركة من المسيحيّين العاديّين الذين يختارون أن "يلبسوا" المسيح، ويكونون في منتصف الطريق بين الرهبنة التقليديّة التي غالباً ما تكون منقطعةً عن العالم وتحبّذ النسك والتوحّد، والرعيّة العادية. هذه الحركة مدعوّة إلى "بعث الحياة بالكنيسة كلّها". هذا ما يفسّر سعي القديس، أثناء تنظيمه للحياة داخل الأديار النسكيّة التابعة له، إلى ألاّ يحول الصمت والتأمّل وأوقات الوحدة الفعليّة التي يعيشها الرهبان عن مشاركتهم الفعليّة في أعمال اجتماعيّة، وفي المدارس والمستشفيات والمياتم وأيّ نشاط آخر في خدمة الجماعة المحلّيّة.

يذكّر آباء آخرون بأن كتابات النساك الغزيرة التي كتبت في الأديرة إنما تعني أيضاً المسيحيّين الذين يتكلّفون بعض العناء للاستماع إلى كلمة المسيح واتّباع تعاليمه. ويشدّد هؤلاء الآباء على أن الدعوة إلى القداسة موجّهة إلى الجميع، وأن المسيح قد أحبّنا كلّنا بالمحبّة نفسها وأنه يتوق ليرانا نبادله هذه المحبّة. فبعد أن يذكّر القديس نيلوس البار (أواسط القرن الخامس) بأن الرهبان هم الذين يريدون "أن يخلصوا"، وهم الذين "يحيون بحسب الانجيل، ويبحثون عن الوحيد الضروري، ويقسون على كلّ شيء"، يضيف بدون تردّد: "إن كافة الممارسات الرهبانيّة هي مفروضة على الناس الذين يعيشون في العالم" (Ep. 1, 167, 169). ويتوسّع القديس يوحنا الذهبي الفم في هذا السياق: "عندما يأمر المسيح بسلوك الدرب الضيّقة، فهو يتوجّه إلى كافة الناس. على الراهب والعلماني بلوغ المثال نفسه... يجب على الذين يعيشون في العالم، ولو كانوا متزوّجين، أن يشبهوا الرهبان بكلّ شيىء آخر... أنتم مخطئون تماماً إذا كنتم تعتقدون بأن هناك أموراً مطلوبة من العلمانييّن وأخرى من الرهبان... فكلّهم سيحاسبون في اليوم الأخير" (Homélie sur Ep. Aux Hébreux, 7, 41). ويؤكّد القديس ثيودورس الأستوديتي (759 – 826)، في حديثه عن الصلاة والصوم ومطالعة الكتاب المقدّس والقانون النسكي "على أن هذه اللائحة تنطبق كاملةً على الرهبان والعلمانيّين على حدّ سواء" (P.G. 99, 1388). ويقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث: "يمكن لسائر الناس، ليس فقط للرهبان بل أيضاً للعلمانيّين، أن يتوبوا باستمرار ويبكوا ويتضرّعوا إلى الله، فينالوا بذلك كلّ الفضائل الأخرى" (Catéchèses, 5). وينصح القديس غريغوريوس بالاماس "بالسعي إلى الكمال في طريقة العيش وليس تبديل الملابس". أمّا القديس نقولا كاباسيلاس فيختصر شموليّة هذه الدعوة بأسلوب رائع: " لا يفترض التزامنا أيّ امتحان إضافي. فليس علينا احتمال المشقّات أو إنفاق الأموال. ولا يتأتّى منه أي عار أو خزي... وهو لا يمنعنا عن ممارسة مهنتنا ولا يقيم أيّة حواجز أمام اهتماماتنا. فالقائد يستمر في قيادته والمزارع في زراعته والحرفيّ في عمله... لسنا مضطرّين إلى الانعكاف في مكان ما في الصحراء أو تناول طعام غريب أو ارتداء ملابس مختلفة أو إلحاق الضّرر بصحّتنا أو المجازفة بحياتنا" (المرجع المذكور)... "فنحن لا نغيّر مكاننا بل طريقة حياتنا ومنهاجها" (المرجع المذكور). فالحياة الأبديّة تنبع إذن من قلب حياتنا اليوميّة العادية. يتوجّه القديس سيرافيم ساروفسكي إلى موتوفيلوف، خلال الرؤيا المشتركة في نور الروح القدس، قائلاً: "أمّا عن كونك علمانيّاً وكوني أنا راهباً، فلا داعي للتفكير بذلك... الرب يبحث عن القلوب الممتلئة بمحبة الله والقريب. هذا هو العرش الذي يحبّ أن يجلس عليه والذي سيظهر جالساً عليه عند اكتمال مجده السماوي". يؤكّد القديس تيخون زادونسكي (+1783) على هذا التشابه في المصير بين الرهبان والعلمانيّين إذ يدعو هؤلاء إلى ممارسة "رهبنة داخليّة". إن حياة كلّ إنسان، كما يراها الآباء، هي عبارة عن حجّ متواصل بحثاً عن المسيح، وبتوجيه من الروح القدس وممتدّاً دوماً نحو وجه الآب.

6. الاندماج بالمسيح في حياتنا اليوم

البحث عن المسيح في كافة أماكن وجوده

يجب أن نبحث عن المسيح في كافة أماكن وجوده. وكما أعلن لنا المسيح، فالروح القدس هو الذي سيدلّنا على هذه الأماكن وسيخوّلنا العثور على المسيح حتّى نجعله حاضراً فينا حقيقةً. ومع أننا نعلم أن "الروح يهبّ حيث يشاء"، إلاّ أننا أكيدون من أنّه، بشكل أساسي، في الكنيسة، وهي جسد المسيح ومكان وجوده بامتياز. لكن من يستطيع ادّعاء معرفة حدود الكنيسة؟ لا نعلم سوى حدودها الظاهريّة ونعلم أن الروح القدس يعمل فيها باستمرار من خلال الأسرار وقنوات النعمة الغزيرة الأخرى. غير أنّنا نميل في معظم الأحيان إلى تشييد الأسوار حول هذه الحدود الظاهريّة للكنيسة، ونرغب في رؤيتها ترتفع لتطال السماء.  لكنّنا لو صمتنا وسمعنا وشوشات الروح، يعلّمنا هو كيف "يتخطّى" هذه الحدود وكيف أن المسيح "مختبىء في ليل الأديان وفي حضارات العالم بأسرها" (المطران جورج خضر)، وكيف يتوجّب علينا البحث عنه هناك. يقول كاباسيلاس: "ليس المسيح غائباً عن أيّ مكان، يستحيل ألاّ يكون فينا. فهو في داخل من يبحث عنه، أقرب إليه من قلبه" (المرجع المذكور).

يدلّنا يسوع، الذي هو "الطريق"، على الدروب التي تقود إليه، وتساعدنا خبرة الكنيسة الطويلة على تحديد هذا الحضور. إن هذه الدروب التي لا يمكن اعتناقها بدون الإيمان والتوبة وتغيير الذهن (ميتانويا metanoia) هي، على وجه الخصوص، كالتالي:

-  الأسرار، وخاصةً في اللقاء الوجودي في الافخارستيا، بالإضافة إلى التجديد الدائم للوعود التي قطعت باسمنا أثناء المعموديّة، وتأوين الوعود بالروح أثناء سر الميرون وسرّ الاعتراف، سرّ المصالحة؛

-   اللقاء وجهاً لوجه مع كلمة الله في الكتاب المقدّس؛

-  الأعياد التذكاريّة لحياة المسيح وتاريخ الخلاص في الحياة الطقسيّة الكنسيّة؛

-  السهر الدائم على ذكر الله وحميميّة الصلاة الشخصيّة (متى 18/19؛ مر 11/23)؛ والصلاة غير المنقطعة (لو 18/1؛ 11/5-8) و"صلاة يسوع" (يو 16/24)؛

-  اجتماع اثنين أو ثلاثة باسم المسيح (متى 18/20)؛

-  خدمة كلّ جائع وغريب وعريان ومريض وسجين تماهى به يسوع (متى 25/31-46)

-  الإصغاء لأحبّاء الرب، القديسين والشيوخ، الذين يسكن الله فيهم.

اللقاء في الأسرار

للتعاون دور كبير في هذا البحث عن المسيح. فجواباً على إيماننا وتوبتنا واستعدادنا للتغيّر، يظهر المسيح في حياتنا من خلال الأسرار.

الإيمان هو المدخل إلى التصاقنا بالمسيح، وقرارنا باتّباعه لنتّحد به ونصبح رسلاً له في هذا العالم. يجب أن يترافق الإيمان بالتوبة، أي مواجهة خطايانا والإرادة بتغيير حياتنا. فالإيمان والتوبة يحثّان المسيح على الحضور إلينا. يأتي ويسكننا. فحتّى لو تلعثمنا في طلبتنا ("آمنت، فشدّد إيماني الضعيف" (مر 9/24))، يركض هو إلينا. هذا ما يعبّر عنه القديس سلوان الأثوسي بتعابير مؤثّرة في إحدى صلواته: "يمكن للأم أن تنسى أولادها، أما أنت فلن تنسانا أبداً، لأنك تحبّ خليقتك بلا حساب، والحب لا ينسى" (المرجع المذكور).

لقد حجّ المسيح إلينا بواسطة التجسّد، والموت والقيامة. ولا يزال يرافقنا اليوم على درب وجودنا. يأتي لملاقاتنا ويمنحنا محبّته وغفرانه والطرق إلى الله أبيه. فكما يقول كاباسيلاس: "يتحقّق ذلك من خلال مشاركتنا بالأسرار... فبفضل الأسرار، يأتي المسيح ويسكن فينا. يتّحد بنا ويصبح واحداً معنا. يخنق الخطيئة التي فينا ويجعلنا مشاركين في حياته وقدرته. يجعلنا شركاء له بظفره" (المرجع المذكور).

تفوق الوحدة بالمسيح في الإفخارستيا، كلّ وحدة أخرى يمكن للإنسان تصوّرها. فبتناولنا جسد الكلمة المتجسّد  ودمه وبفعل الروح القدس "نصبح في قربى مع المسيح"، كما يقول القديس سلوان الأثوسي. لا سبيل إلى مقارنة هذه الخبرة بأيّة خبرة أخرى. يعلّمنا الكتاب المقدّس أن الرابط بين المسيح وبيننا أوثق من علاقة الساكن بمسكنه (متى 22/1-14)، والكرمة بغصنها (يو 15/1-7)، والرجل بالمرأة في الزواج (اف 5/21-33)، والرأس بالأعضاء (قول 1/18). إن اتّحاد الانسان بالمسيح يخوّله الانعتاق من الحياة المائتة والوجود الميت ومن البشاعة والعتمة والجهل. يقول كاباسيلاس، وهو أبرز من تغنّى بهذا الاتّحاد بالمسيح من خلال الأسرار: "إذا حفظنا ذكرى المائدة المقدسة والدم الذي لوّن لساننا، لا نعود نتفوّه بأيّ كلام قبيح.. ولا تتّجه أعيننا أو خطانا أو أيدينا نحو أيّ شرّ" (المرجع المذكور).

إلى جانب ذلك، علينا تجديد وعود المعموديّة من خلال معموديّة الدموع التي بدونها، كما يقول الآباء، تكون مياه معموديّتنا الأولى مجرّد ماء عادية. يجب أيضاً أن نتذكّر دائماً أننا مسحنا بالروح القدس وأنّه علينا أن نكون طيّعين بين يديه. كما أن ممارسة سرّ الاعتراف بشكل دائم، وهو سر المصالحة مع الله والبشر، تعدّ هي أيضاً باباً يغوص الله من خلاله في حياتنا ويجدّد الصداقة التي بيننا.

ليست الأسرار، كما نلاحظ، مجرّد أدوات. بل هي التي تنقل النعمة والقوى الإلهيّة غير المخلوقة إلى البشر. لا يفترض بها إثارة "انفعال نفسي" بسيط فينا إزاء المخلّص. فالأسرار "تدمجنا" حقيقةً بالمسيح.

لكن علينا العمل للمحافظة على نعم الله. يقول كاباسيلاس: "علينا السهر على أن نتلقّى هذه النعم ونحافظ عليها ولا نرذل الإكليل الذي صنعه الله لنا بعذابات ومشقّات جمّة. هذه هي الحياة في المسيح التي تمنحها الأسرار. هذه هي الحياة التي يجب أن تساهم تقوى الانسان فيها" (المرجع المذكور). يجب إذن الانتقال من "المحبّة الداعية" (محبّة المسيح) إلى "المحبّة الملبّية" (محبّة الانسان).

الجهاد في الأعمال Praxis

يمكننا المحافظة على المواهب وإثمارها من خلال الجهاد في الأعمال، أي الجهاد المتواصل ضد الأهواء واكتساب الفضائل. علينا في هذا الجهاد، كما يقول لنا كاباسيلاس، "أن نعلن أن المسيح الذي يدعونا إلى وليمته يجاهد إلى جانبنا. غير أن رفيق الجهاد لا يمدّ يد المساعدة للكسالى والمتباطئين بل للمقدامين الذين يجاهدون بكرامة وكلّ شجاعة وقوّة ضدّ العدوّ... عندما يمنحنا المسيح نعمه... يزوّدنا بكلّ ما من شأنه تعزيز شجاعتنا وترسيخ مواظبتنا على الجهاد والظفر. عندما يجاهد إلى جانبنا، فهذا لا يعني أنّه يقوم بالعمل كلّه  لوحده" (المرجع المذكور).

من هنا ضرورة البقاء متيّقظين وإيجاد الطرق كي لا نتهاون، فلا تعود النعم تنفعنا في شيء. يجب إذن بذل جهد متواصل. فبحسب القديس أنطونيوس الكبير (251- 356)، يجب البدء من جديد في كلّ يوم وكأنّه اليوم الأوّل. وينصح القديس دورثاوس أسقف غزّة الذي عاش في القرن السادس "بمراجعة النفس كلّ ست ساعات فنتذكّر كيف أمضيناها وبماذا أخطأنا" (Instructions Spirituelles, 11, 117). وفي القرن السابع، يوصي القديس يوحنّا السلّمي بفحص الضمير "كلّ ساعة" (السلم إلى الله، 126). يذكّر القديس يوحنا الذهبي الفم ويشدّد على ضرورة "تذكّر أخطائنا... فذكرى الماضي تحمي المستقبل" (Homélies sur la pénitence). يشدّد الآباء جميعهم على ضرورة التوبة المستمرّة. "التوبة هي تجديد للمعدوديّة؛ إنها معموديّة ثانية" (يوحنا السلمي، السلم إلى الله، 5،1؛ غريغوريوس النزينزي Discours, 39, 17؛ سمعان اللاهوتي الحديث، Catéchèses, 32, 59؛ غريغوريوس بالاماس، Triades, 2, 2, 17). بواسطة التوبة، نجدّد انتماءنا لجسد المسيح ونستطيع المضيّ في سعينا إلى الرأس.

لقد اكتسب الآباء، وآباء الصحراء بشكل خاص، معرفة محدّدة للنفس البشريّة وآلياتها. وتمكّنوا قبل المحلّلين النفسيّين بوقت طويل، وبواسطة المحبة والجهاد، من سبر أغوار النفس البشريّة وتطوير العلاج للأمراض الروحيّة التي تصيبها. وبلغتهم التي قد تبدو غريبةً لنا في بعض الأحيان، يتّضح أنهم عصريّين جدّاً. يبرهن النجاح الحالي للفيلوكاليا، وهي مجموعة كبيرة من التراث النسكي الذي سنتحدّث عنه لاحقاً، عن فعاليتها في مدّ الناس في عصرنا بالإجابات عن المشاكل التي تشغل بالهم. لا يكتفي الآباء بشرح مختلف الأهواء والطرق التي تتسلّل بها إلى داخل النفس البشريّة، بل يمسكون بيدنا ويدلّوننا على مختلف السبل لمحاربتها والانتصار عليها بواسطة الترياق، ألا وهو الصلاح.

إن عمليّة شفاء النفس هذه (باليونانية كاثارسيس catharsis)، التي هي موت للخطيئة، هي أيضاً مشاركة حقيقيّة في صليب المسيح. فبها نولد من جديد كأعضاء في جسد المسيح. نرتّل في أعياد الشهيدات هذه الطروباريّة: "يا ختني إني أشتاق إليك، وأجاهد طالبةً إيّاك وأصلب معك لكي أحيا بك". تستغرق عمليّة الشفاء بعض الوقت. فهي تتطلّب المثابرة والإصرار. يقول القديس سلوان الأثوسي: "التعلّم يتطلّب وقتاً طويلاً... لن تتعلّم التواضع من مرّة واحدة" (المرجع المذكور). والكلمات التي قالها المسيح له: "إحفظ ذهنك في الجحيم و لا تيأس" (المرجع المذكور)، تشجّعنا على الاستمرار بالرجاء مهما كانت الصعوبات والتجارب.

يؤكّد القديس سمعان اللاهوتي الحديث على هذا الارتقاء اليومي في مسيرة الانسان المسيحي بقوله: "يواصل كلّ يوم ارتقاءه الروحي، فيتخلّص من كلّ أثر للطفوليّة ويتقدّم بحسب عمره الروحي. يشهد تغيّر مقدراته ونهجه ويزداد نضجاً وقوّةً" (Catéchèses, XIV). يكلّل هذا العمل المتواصل الذي يقوم به الانسان بعمل يقوم به الله بواسطة الروح القدس الذي يسمح للانسان بتحقيق الهدف. والهدف هنا هو اكتساب نمط جديد في العيش. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "يجب أن نقرن الإيمان بتنظيم الحياة وتغيير نمط معيشتنا" (Comm. sur Mt. 11, 7).

ممارسة المحبّة

بالنسبة إلى أحد آباء الصحراء، الأنبا موسى، فالهدف هو "نقاوة القلب أي المحبّة" (أقوال الآباء). الخليقة كلّها، بمحبّة الانسان والطيور والحيوانات والشياطين وسائر الخلائق، وتحرّكه رحمة لامتناهية يذهب القديس اسحق السرياني إلى حدّ القول بأن القلب المحبّ والرحوم هو "الذي يلتهب بمحبّة تستيقظ في قلب الذين يتشبّهون بالله". ويضيف القديس نيلوس البار: "لا يدين بعد اليوم لا الخاطىء ولا أبناء عصره... لا يرغب سوى في أن يحبّ كلّ إنسان ويجلّه، بدون أيّ تمييز... إذ انّه يحترم الانسان من بعد الله، وكأنّه الله نفسه" (Oeuvres Spirituelles, Discours 81). أمّا القديس سمعان اللاهوتي الحديث، فيقول في حديثه عن نفسه: "أعرف رجلاً كان يرغب بشدّة في خلاص إخوته، لدرجة أنّه كان ليرفض دخول ملكوت السماوات حتّى لا يفترق عنهم". ويشدّد القديس غريغوريوس بالاماس على أن "صحة النفس وكمالها لا يتحقّقان إلاّ بالمحبّة وحفظ الوصايا" (الثلاثيّات).

المحبّة هي إذن مفتاح كلّ شيء. تأتي المحبّة قبل المعرفة. فمحبّة الإخوة ومحبّة الأعداء هي طريقة لمعرفة الله، وليست مجرّد مبدأ أخلاقي. ينهي نقولا كاباسيلاس كتابه "الحياة في المسيح" بنشيد المحبّة التالي: "هذه هي الحياة في المسيح الظاهرة بنور الأعمال الصالحة، أي بالمحبّة... الحياة في المسيح تفرضها المحبّة... فمحبّة المسيح اتّحاد به وهذا الاتّحاد يشكّل الحياة الحقيقيّة... إن المحبّة هي القوة الوحيدة التي يجب أن تحرّك المسيحي الحقيقي... إن كل الأشياء ستبطل في الحياة الأخرى، أما المحبّة فستبقى لأنها ضروريّة لغبطة الحياة" (المرجع المذكور). ويكرّر القديس سلوان الأثوسي في القرن العشرين أن "أخانا هو حياتنا الحق" (تامرجع المذكور)، وأن "من لا يحب أعداءه لا يمكنه معرفة الله ولا نعم الروح القدس" (المرجع المذكور).

اللقاء وجهاً لوجه في الكتاب المقدّس

لكي نتعلّم المحبّة، يجب اكتساب فكر المسيح والتعوّد على طريقة عيشه. ونحن يمكننا لقاء المسيح واكتساب "فكره" من خلال معاشرة الكتاب المقدّس. إن قراءة الكتاب، أي التأمّل في نصوصه أشبه بلقاء بين إنسانين. إنها توحّد بالمسيح. لذا، يجب أن نصلّي إلى الروح القدس، قبل كلّ قراءة. يوصينا القديس افرام السرياني بذلك: "قبل أيّة قراءة، صلّ وتوسّل إلى الله ليتراءى لك". ويطلب منّا القديس يوحنا الذهبي الفم ترديد الصلاة التي يوجّهها الكاهن قبل قراءة الانجيل أثناء القداس الإلهي: "إفتح عيون ذهننا لفهم كرازتك الإنجيليّة... ونفتكر في كلّ ما يرضيك ونعمله".

يتحدّث الآباء عن "غذاء" كلمة الله الموجود في الكتاب المقدّس. يقولون لنا إنه "علينا أن نسلّم نفسنا لمقتضيات كلمة الله"؛ فبذلك يأتي المسيح ويسكن فينا. يقول القديس إيرونيموس (347 – 419/420): "نأكل جسده ونشرب دمه في الذبيحة الإلهيّة، وأيضاً في قراءة الكتاب". يدعونا القديس نيقوديموس الهاجيوريتي (1748- 1809) إلى "الانتقال من الكلمة المكتوبة إلى الكلمة المغذّية". كما يقول لنا القديس أثناسيوس الاسكندري: "الرب حاضر في كلمات الانجيل والشياطين لا تطيق احتمال حضوره هذا". لذلك يدعونا الآباء إلى قراءة الانجيل كلّ يوم. يختصر الستاريتس (الشيخ) أمبروزيوس من أوبتينو (+1895)، الذي أعلنت الكنيسة الروسيّة قداسته مؤخّراً، تعاليم الشيوخ بقوله: "إقرأوا كلّ يوم فصلاً من الانجيل، وإذا انتابتكم حالة من الكرب، إقرأوا من جديد حتّى تتخلّصوا منها؛ وإذا انتابتكم من جديد، إقرأوا الانجيل من جديد".

هناك طبعاً مستويات مختلفة لقراءة الانجيل. نقرأه لنعرف كيف عاش المسيح وكيف تصرّف إزاء الأشخاص والأشياء. قد نقرأه لفهم تاريخ الخلاص واستعادة الأحداث. نقرأه لنكتسب فكر المسيح ونتحاور معه. وقد نقرأه أيضاً كصلاة ودعاء ليحلّ المسيح فينا وينمو هو فينا وننقص نحن. يؤكّد نقولا كاباسيلاس على أن التفكّر الحقيقي بكلام الله الذي يؤدّي إلى تذكّر وقائع مسيرة الخلاص والتأمّل، إنّما يغيّر سلوكنا بصورة جذريّة: "من خلال التأمل والتفكّر بحياة المسيح كلّ يوم، تعلّمنا محبّته التواضع وتظهر لنا مدى ضعفنا البشري إلى حدّ النواح. تجعلنا محبّته ودعاء وعادلين، متسامحين ومعتدلين، أدوات سلام ووفاق بين البشر. نصبح مأخوذين بالمسيح وبالصلاح لدرجة احتمال إهانات بعضنا لبعض" (المرجع المذكور).

الحياة في الجماعة: مختبر للمحبّة

يتطلّب تعلّم المحبة جهداً جبّاراً وعوناً خاصاً من الرب. هذا العون الخاص مذكور في الآية: "فحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم" (متى 18/20). إنه بين المؤمنين، يساعدهم على اختبار المحبّة التي يسكبها في كلّ واحد منهم، قبل كلّ شيء من خلال علاقاتهم الأخويّة، ليسكبوها هم بعد ذلك في علاقاتهم الأخرى. تظهر لنا حياة الجماعة الرسوليّة ما المقصود بكلمة "اجتمع". فالأمر يتعدّى اللقاء العرضي والسريع، وكأننا على عجلة من أمرنا. بل هو أن نتحمّل مسؤولية بعضنا البعض، ونجعل كلّ شيء مشتركاً في ما بيننا، فنتقاسم الحياة والأموال التي إنما أعطيت لنا مجاناً. يفترض بالرعيّة أن تكون المكان الذي يجتمع فيه الإخوة ويعيشون حياةً مشتركة، وهم يسعون إلى الرب ويندمجون به، ليس فقط في القدّاس الإلهي، بل أيضاً في الصلاة والتأمّل والتفكّر المشترك والتعاون والمشاركة وتعلّم المحبّة الأخويّة وخدمة الآخرين والشهادة. أمّا واقع رعيّاتنا التي لا تستطيع دائماً أن توفّر هذا المكان، فيجب أن يجعلنا نعي الحاجة الملحّة لتأسيس رعيّات صغيرة تضمّ أشخاصاً يرتبطون في ما بينهم وبالمسيح بميثاق لحياة مشتركة. يجب أن يكون هؤلاء الأشخاص مترسّخين في الإفخارستيا التي تقام في الرعية. وعليهم أن يسعوا إلى العيش معاً وفقاً لمثال الجماعة الرسوليّة، وينقلوا خبرتهم الإفخارستيّة والأخويّة إلى خارج جدران الكنيسة فيعيشوها مع سائر أقربائهم. إن وجود مثل هذه الجماعات أمر ضروري لكي نكون قادرين على الإجابة بـ: "تعال وانظر" على كلّ من يسألنا عن إيماننا. الحياة المسيحيّة هي بطبيعتها جماعية، على صورة الثالوث المقدّس. فيجب تجسيدها في حياتنا اليوميّة مع إخوتنا، لنكون مؤهلين لمقابلة المسيح و"نكون مستعدّين لأن نردّ على من يطلب منّا دليل ما نحن عليه من رجاء" (1بط 3/15)، ولنتعلّم حقّاً كيف نسمح للمسيح الذي فينا بأن يحبّ ويخدم الخليقة بأسرها من خلالنا.

سر الأخ

 يجب إذن أن نعتاد البحث عن المسيح في كلّ كائن بشريّ، فنستقبله تماماً كما لو كان المسيح، ونسمح للمسيح الذي يسكن فينا بأن يتحاور مع المسيح عينه الذي فيه، فيوحّدنا المسيح. كل إنسان يرسله الله على دربنا إنما هو "قريبنا". فمن خلاله أيضاً يعرض المسيح نفسه علينا. يجب بالتالي اعتماد نهج حياة نكون مهيّئين فيه ومستعدّين على الدوام للقاء المسيح في كلّ لحظة وفي قلب كلّ إنسان. كان أحد آباء الصحراء، الأنبا أبّولوس، يكرّر هذا القول على الدوام: "عندما ترى أخاك فإنما أنت ترى الرب إلهك" (Apophtègmes, 3). وهناك قول مأثور يستشهد به آباء الصحراء مراراً، يشدّد على أهميّة كل لحظة يعيشها الانسان وكلّ إنسان يلتقي به: "الساعة التي تحياها، والعمل الذي تنجزه، والانسان الذي تلقاه في هذه اللحظة؛ هذا هو أهمّ شيء في حياتك". ويؤكّد "أوليفييه كليمان" Olivier Clément (المولود في عام 1923)، وهو من أبرز اللاهوتيين الأرثوذكسيين المعاصرين الذين يجيبون عن الأسئلة التي تطرحها الحداثة، على انطباق هذا القول في زمننا الحالي: "كم هي كثيرة أوقات الغفلة والسهو التي يمكن تحويلها إلى أوقات صلاة ... وحوار مع الله، بحيث نصبح متيقّظين وحاضرين من أجل كل الكائنات والأشياء".

هذا الاهتمام بالأخ، وخاصة بالمحتاج، هو موضوع رئيسي في تاريخ الأدب المسيحي، منذ أوّل عهده. فالنصوص القليلة التي حفظت من الفترة الرسوليّة وتلك التي تلتها مباشرةً تبرهن أن الأمر لم يكن مجرّد صدقة تمنح للمحتاجين، بل مشاركة فعليّة ورؤيا جديدة بالتالي للعلاقات بين الناس. فقد كان أعضاء جماعة أورشليم يمارسون مبدأ المشاركة والقسمة: "وكان جميع الذين آمنوا جماعةً واحدة، يجعلون كلّ شيء مشتركاً بينهم، يبيعون أملاكهم وأموالهم، ويتقاسمون الثمن على قدر احتياج كلّ منهم" (رسل 2/44 و45)؛ "وكان جماعة الذين آمنوا قلباً واحداً ونفساً واحدة، لا يقول أحد منهم إنه يملك شيئاً من أمواله، بل كان كلّ شيء مشتركاً بينهم" (رسل 4/32).

وقد ظلّ الآباء يعلّمون هذه الممارسات في القرن الثاني، كما يتبيّن لنا من وصيّة هرماس الراعي (حوالي 140- 155) التالية: "اعمل الخير واعط ببساطة ما تنتجه بأتعابك للذين يحتاجون لأن المعطي هو الله. لا تتردّد في عطاء هذا أو ذاك ولا تقل هذا يستحقّ وذاك لا يستحقّ. اعط الجميع لأن الله يريدك أن تشرك الجميع بخيراته" (الوصيّة الثانية). كما يؤكّد تعليم الرسل الإثني عشر (حوالي 150) على ذلك: "لا تصرف المحتاج واقتسم كلّ شيء مع أخيك ولا تقل إن لك مالاً خاصاً بك فإذا كنا نحن نقتسم الخيرات الأزليّة فكم بالحريّ الخيرات الفانية" (IV، 8). والقديس يوستينيانوس، الفيلسوف والشهيد، (+حوالي 165) يكرّر الشيء نفسه: "من يمتلك خيراً يساعد كلّ من هم بحاجة، ونتبادل جميعنا المساعدة. ومن أنعم الله عليهم بالخيرات ويرغبون في العطاء، يعطون طوعاً، كلّ ما يريده" (1ère Apologie, 67, 1,6). أمّا القديس إيريناوس، أسقف ليون، فيذهب إلى حدّ القول: "أن نرفض مساعدة الغير يعني أن ننكر مائدة الرب المقدّسة" (مقتطفات).

والأمر سيّان في القرن الثالث كما يتبيّن من خلال القوانين الرسوليّة: "تذكّروا أنكم أعطيتم أكثر من حاجتكم لكي تتقاسموا ما لديكم" (بشارة بطرس). ويشهد ترتليانوس (+حوالي 220) على استمرار هذه الممارسات في الجماعات في عهده: "كل واحد يأتي بمساهمته الصغيرة مرةً في الشهر، أو عندما يريد، بشرط أن يرغب في ذلك ويكون قادراً على ذلك... إنها نوع من مستودعات للصدقات" (Apologie 39).

لا يختلف آباء القرن الرابع، فكتاباتهم تزخر بالحضّ على اقتسام ما منحه الله إذ انه ملك للجميع ولسنا سوى أمناء عليه. يقول باسيليوس الكبير: "إن الخبز الذي تحفظه في الأقبية هو ملك الجائعين، والثوب الذي تقفل عليه الخزانة هو ملك للعراة، والحذاء الذي يتلف عندك هو ملك للحفاة... " ويضيف: "والأموال التي ائتمنت على إدارتها استوليت عليها. من يحرم إنساناً من ملابسه إنما يستحقّ صفة السارق. ومن لا يكسو المتسوّل في حين يستطيع ذلك، هل يستحقّ تسميةً أخرى؟" (عظة عن الغنى 6، 6). والقديس غريغوريوس النزينزي مباشر أكثر في قوله: "أنتم كلّكم خدام المسيح، إخوته والورثة معه... ساعدوا المسيح، خلّصوا المسيح، أطعموا المسيح، أكسوا المسيح، آووا المسيح، كرّموا المسيح" (عظة "عن محبّة الفقراء"). يتوسّع القديس غريغوريوس النيصصي في هذا المجال: "لا تحتقروا الفقراء... اسألوا نفسكم من هم حقّاً وستكتشفون عظمتهم. لقد لبسوا وجه مخلّصنا. الرب بحنوّه منحهم وجهه... الفقراء هم أمناء على رجائنا، حرّاس الملكوت... الفقراء هم المحظيّون لدى الله... كل شيء هو ملك لله ونحن كلّنا إخوة في عائلة واحدة" (عظة عن محبّة الفقراء). أمّا القديس يوحنّا الذهبي الفم فيحذّرنا: "لا تقل أنا أنفق من مالي، وأنعم بما هو لي. فأنت لا تملك أيّ شيء ممّا هو لك، بل هو ملك الآخرين... إنّه لك ولقريبك، مثل الشمس والهواء والأرض" (عظة 20 عن الرسالة الثانية إلى أهل قورنتس). وفي حديثه عن زينة الكنيسة، لا يتردّد في القول: "يجب إرجاء تزيين الكنائس إذا كن يؤدّي إلى إهمال أخيك المحتاج. فهذا المذبح (أي مذبح أخيك) أعظم من ذاك المذبح (أي مذبح الكنيسة)" (العظة 50 عن إنجيل متى). ويقول في سياق آخر: "انتقلوا من سر المذبح إلى سر الأخ الذي هو مذبح قائم في كلّ زاوية". ويقول القديس إيرونيموس: "نفس المؤمن هي هيكل المسيح الحقيقي. فزيّنوها وألبسوها وقدّموا لها الذبائح واستقبلوا المسيح فيها. لا جدوى من تزيين الجدران... عندما يموت المسيح من الجوع في شخص الفقير".

تظهر نصوص الأباء التي ورد ذكرها أعلاه، خاصة في مقطعي "ممارسة المحبّة" و"حياة الجماعة كمختبر للمحبة"، أن هذه المواقف التي تقضي بالمشاركة واقتسام الخيرات قد تمّ تناقلها عبر الأجيال، في أوساط أحبّاء الله الحقيقيّين. فبالنسبة إلى هؤلاء، مساعدة الإخوة هي الالتقاء بالمسيح الذي يتماهى بهم. هذا السبيل للبحث عن المسيح لا يقلّ إذن شأناً عن السبل الأخرى للتمثّل به. من البديهي إذن أن يكون الانسان بالنسبة للمسيحيين مكاناً مميّزاً للقاء المسيح.

تذكّر الله والصلاة بغير انقطاع

إن العيش في حضرة الله المقدّسة هو "فرحنا التام"، بحسب تعبير كاباسيلاس (المرجع المذكور). يجب أن نعرف كيف ننال هذا الفرح وكيف نحافظ عليه. من أجل ذلك، ينصحنا كاباسيلاس بـ: "تركيز ذاكرتنا على كلّ ما يتعلّق بالمسيح. فلنفكّر به بدون كلل أو ملل. لنتأمّل حياته عندما نكون لوحدنا ولنستلذّ الحديث عنه مع الآخرين. يجب تجسيد انشغالنا به، بقدر الامكان، طوال حياتنا، أو على الأقلّ في غالبيّة الأوقات" (المرجع المذكور).

كيف نتذكّر الله، كيف نتذكّر دائماً أنه حاضر فينا "ينتظر لقاءنا"، بغير الصلاة التي هي "الرابط الذي يوحّد الخليقة بخالقها" (غريغوريوس بالاماس، Trois Chapitres sur la prière et la pureté du coeur, 1). ويؤكّد القديس برصانوف الذي عاش في أواسط القرن السادس على أن: "تذكّر الله، بدون حتّى لفظ أيّة كلمة، هو صلاة بحدّ ذاته" (Philocalie, 2, 584). ويضيف كاباسيلاس: "إن هدف الصلاة... هو التقرّب من الله، ليس لأنّه بعيد عنّا، بل لأن خطايانا تعمي ضمائرنا عن حضوره" (المرجع المذكور).

هناك نوعان للصلاة، الصلاة الشخصيّة وتلك التي تقترحها الكنيسة. الواحدة لا تلغي الأخرى. فالمثل الشعبي الذي يقول "من يريد أن يسكر لا يعدّ الكؤوس" ينمّ عن وضوح كبير في الرؤية. المهمّ هو أن نتعلّم كيف نبقى مدركين لحضور الله فينا من خلال "الصلاة بغير انقطاع". والكنيسة التي تعرف ضعف طبيعتنا وحيل الشرير الذي يهدف بشكل أساسي وتحديداً إلى جعلنا ننسى حضور الله، تقترح علينا في طقوسها أداةً للبقاء متيقّظين، أو بالأحرى للنهوض على الدوام من غفلتنا. يقول القديس يوحنا الدمشقي (حوالي 650- حوالي 750): "إبق برفقة الله طوال اليوم. فيحلّ الله في النفس والنفس تهاجر في الله" (Exposé de la foi orthodoxe). ويطلب القديس سرافيم ساروفسكي من الله: "أن يجعل من صلاته سر حضوره".

الدورة الطقسيّة اليوميّة (صلاة النهوض من النوم، صلاة السحر، صلاة الساعات، صلاة الغروب، صلاة النوم، صلاة نصف الليل؛ هذا بالإضافة إلى صلوات قبل وبعد الأكل ومختلف صلوات منح البركات)، تحيك يومنا بخيوط ذهبيّة وتساعدنا على أن "نبقى في صحبة الله"، إذ تذكّرنا كلّ ثلاث ساعات بأننا في حضرته المقدّسة. كما أن الكنيسة تدعونا من خلال هذه الدورة إلى المشاركة بالصلاة من أجل تقديس الزمان وسائر الكون. باستثناء فترات وأيّام الأعياد، أعلم أنه يصعب علينا المشاركة بهذه الخدم المختلفة في الأيّام العادية. لكن لا شيء يمنعنا من وضع برنامج يوميّ يتناسب مع إيقاعنا الخاص (من المفضّل أن يكون برفقة إخوتنا وأخواتنا في الجماعة)، ممّا يتيح لنا فرصة "الخروج من الزمن" (Kierkegaard) كلّ ثلاث ساعات، وتذكّر الله والاشتراك بالقصد الذي ربطته الكنيسة بكلّ فترة من اليوم. لهذا، يجب ربط الساعة الثالثة (التاسعة ق.ظ.) بحلول الروح القدس، والساعة السادسة (الثالثة ب.ظ.) والساعة التاسعة (السادسة ب.ظ.) بصلب السيد وموته الذين حصلا على التوالي في هذه الساعات. يمكن دائماً القيام بهذه المحطّات، وإن كانت طويلة أحياناً، أيّاً كان برنامج يومنا. أمّا المحطّة المسائيّة فجوهريّة إذ أن الصلاة خلالها تترافق مع مطالعة الانجيل ومراجعة أنفسنا وفحص الضمير اليومي. ينصح القديس يوحنا الذهبي الفم حتّى بمقاطعة الليل لمحطّة من هذا النوع. فيقول: "ليكن بيتك كنيسةً. إنهض في نصف الليل. بارك معلّمك. أيقظ أولادك لينضمّوا إليك في صلاة مشتركة" (عظة عن رسل 26/3و4). في جميع الأحوال، يمكن ربط هذه المحطّات، التي تنظّم يومنا، بعضها ببعض من خلال صلاة يسوع التي سنتحدّث عنها لاحقاً.

الدورة الطقسيّة الأسبوعية، التي تعيّن لكلّ يوم من الأسبوع نيّة للصلاة والاحتفال والتي تبلغ أوجها في القداس الإلهي يوم الأحد، تساعدنا على أن تتماشى حياتنا اليوميّة أكثر فأكثر مع حياة الرب لكي نتّحد به بالمناولة في يوم الأحد. تقترح الكنيسة تذكّر الملائكة بشكل خاص في أيام الإثنين؛ ويوحنا المعمدان، سابق ربنا وصديقه، كلّ ثلاثاء؛ والصليب المقدّس في يومي الأربعاء والجمعة؛  والرسل والأساقفة القديسين، وهم أيضاً أصدقاء الرب، في أيام الخميس؛ وأخيراً الشهداء والقديسين الآخرين وخاصةً والدة الإله، في أيام السبت. أمّا الأحد فهو مخصّص لموت الرب وقيامته، وندعى فيه جميعنا بالذبيحة الإلهية إلى تذوّق طعم ملكوت الله. وتوصينا الكنيسة بالصوم كلّ أربعاء وجمعة كمشاركة لنا في صليب المسيح. تزيد الحاجة إلى هذا الصوم في أيّامنا لكي نتعلّم فصل أنفسنا عن الفكر السائد في مجتمعنا الاستهلاكي.

الدورة الطقسيّة السنويّة، التي تتألّف من احتفالات وأعياد وأصوام، تدعونا إلى تذكّر حياة المسيح باستمرار وعيش كلّ أحداث المسيرة الخلاصيّة معه. فمن خلال الأعياد الرئيسيّة (عيد ميلاد السيّدة العذراء في 8 أيلول، دخول السيّدة إلى الهيكل في 21 تشرين الثاني، ميلاد المسيح في 25 كانون الأوّل، وعيد الظهور الإلهي في 6 كانون الثاني، ودخول السيد إلى الهيكل في 2 شباط، وعيد البشارة في 25 آذار، وعيد التجلّي في 6 آب، ورقاد السيّدة العذراء في 15 آب، وعيد رفع الصليب في 14 أيلول بالإضافة إلى أعياد الفصح والصعود والعنصرة التي تتغيّر تواريخها)، تدعونا الكنيسة إلى استعادة كل تاريخ الخلاص وتحثّنا إلى عيشه من جديد. فالأمر ليس مجرّد تذكّر الماضي؛ إننا مدعوّون إلى المشاركة بهذه الاحتفالات "كشهود عيان" للحدث المحتفى به، وكأننا "نعاصر" ما حدث في الماضي. أحداث مسيرة الخلاص لا تتكرّر في كلّ عام، لكننا نحن المدعوّون إلى الانتقال عبر الزمان والمكان لنشهد الحدث الفريد الذي تحقّق مرّة واحدة، غير أننا لا نزال نستفيد منه. نحن مدعوّون إذن إلى أن نولد من جديد مع المسيح، ونتجلّى معه ونصلب معه ونموت من أجل خطايانا فنكون أهلاً بالامتلاء بفرح القيامة. يدعونا القديس غريغوريوس النزينزي إلى هذه "الاستعادة" لحياة المسيح بقوله: "فلتصلب مع المسيح، ولتمت معه، ولتدفن معه لتقوم معه وتمجّد معه وتحكم معه" (Discours 38, 18). فالشرط الأساسي للالتصاق بالمسيح هو أن تمرّ بالمكان نفسه الذي مرّ به، وتتألّم الآلام نفسها وتتحمّل ما احتمله. يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث: "ليكن المسيح قدوتك، هو المسيح الإله. تألّم أنت كلّ ما احتمله هو من آلام من أجل خلاصك أنت" (Catéchèses 6). يجب أن نحبّ المسيح ونتبعه قبل كلّ شيء في "إخلائه لذاته" kénose، ونكرانه لذاته والإهانات التي احتملها. "تتلمذوا لي فإني وديع متواضع القلب" (متى 11/29). كان القدّيس باكوميوس (286- 346) يردّد دائماً قوله: "إذا رأيت إنساناً نقيّ القلب ومتواضعاً، تأكّد أنها رؤيا عظيمة. فما هو أعظم من رؤيا كهذه: الله الذي لا يرى في الإنسان الذي يرى، هيكل الله" (La première vie grecque de saint Pachôme, IV, 2). يعلّمنا الطقس الكنسي كيف نقتدي بالمسيح، ونتبعه في "إخلائه" لذاته، ونعيش مع الصليب رفيقاً لنا، رمزاً للموت لنا وعربوناً لظفر الله فينا. فإذا لم نعلّق على الصليب مع المسيح، سيصعب علينا جدّاً أن نطلب منه أن "يذكرنا في ملكوته".

أن نكون مصلوبين على الدوام مع المسيح لا يعني أبداً التلذّذ بالألم أو بالكوارث. فنحن نعلم أن المسيح غلب الموت بالصليب. ونحن نختبر منذ الآن باكورة هذه الغلبة متأكّدين من أنها ستكشف لنا كاملةً في اليوم الأخير. هنا يكمن التجاذب بين "ما سبق وحدث"  و"ما لم يحدث بعد"، الذي هو أساس الرؤية المسيحيّة. فالحاضر مرتبط بالمستقبل ويتأثّر به. كان المسيحيّون الأوائل يعيشون متلهّفين في انتظار الذي سيأتي. ينتهي كتاب الرؤيا، وهو الكتاب الأخير من العهد الجديد، بهذه الصلاة الحارة: "أمين! تعال أيّها الرب يسوع!" (22/20). في الذكرانيّة في القداس الإلهي، نذكر في الوقت نفسه أحداثاً من حياة المسيح "والمجيء الثاني المجيد في اليوم الأخير". يساعدنا هذا الانتظار على الابتعاد قليلاً عن الزمن الراهن، فنضع رجاءنا في الآتي. الموت إذن ليس نهائيّاً، وعذاباته كذلك. فنحن نتخطّاه بالرجاء. يحدّد القديس يوحنا الذهبي الفم هذا الرجاء على أنه "انتظار ما لا نناله مباشرةً، الانتظار بثقة وبدون أيّ شعور بالإحباط" (تأمّل في المزمور 146). ويضيف: "ينعم المسيحيّ بإيجابيّة أنّه برجائه في الخيرات الآتية يترفّع عن كافة أحزان الحياة" (Homélie sur les statues, 2, 3).

يجعل منّا هذا الاحتفال الطقسي بذكرى حياة المسيح "شهود عيان". غير أن الشاهد يجب أن يشهد، فلا يسعه إلاّ القول مع الرسول: "الويل لي إن لم أبشّر" (1قور 9/16). يصرخ القديس سمعان اللاهوتي الحديث: "ما رأيته وعرفته، فعليّاً وبالخبرة، من عجائب الله لا أسكت عنه بل أبشّر به أمام الجميع كما لو كنت في حضرة الله" (Catéchèses 34). يقول كاباسيلاس: "يحيا المؤمنون في المسيح. يفرحون لما يفرحه ويحزنون لما يحزنه. فهم يجسّدون مشيئة المسيح في الزمن. يتكلّمون وكأنهم أفواه المسيح ويشهدون لحقيقته. ويعملون وكأنهم أيدي المسيح فيصنعون العجائب" (Explication de la Divine Liturgie). يقول القديس سلوان: "كيف لا أتحدّث عن الله، وروحي تحترق بمحبّته ليلاً نهاراً" (المرجع المذكور).

تعلّمنا المشاركة في الطقوس الكنسيّة كيف نصبح كائنات "تسبيحيّة" بطريقتنا في النظر إلى الكائنات والأشياء بنور الإله، وجهدنا المتواصل لإيجاده وخدمته فيها ومن خلالها. يؤكّد الأب ألكسندر شميمن (1921- 1983)، اللاهوتي الكبير للحياة الطقسيّة، في ختام كتابه الرائع "من أجل حياة العالم" ذلك بقوله: "المسيحي هو شخص يجد المسيح في كلّ مكان ينظر إليه، ويفرح به. يبدّل هذا الفرح كافة مشاريعه وبرامجه وقراراته وتحرّكاته البشريّة. ويوكل إليه مهمّة إعادة العالم إلى من هو حياة العالم".

صلاة يسوع

العهد الجديد مليىء بذكر اسم يسوع. "وهب الله له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء" (فل 2/10). كلّ شيء ممكن باسم الرب يسوع. فبه يشفي التلاميذ المرضى (رسل 3/6؛ 9/14) ويطردون الشياطين (مر 9/38؛ 16/17؛ رسل 16/18) ويأتون بالمعجزات (متى 7/22؛ رسل 4/30). اسمه هو "الذي يخلّص" (متى 1/21-25) ويهب الشفاء (رسل 3/16) ويهب الخلاص (رسل 4/7-12). يفرح الرسل إذ أنه "يجب عليهم أن يعانوا من الألم في سبيل اسمه" (رسل 9/16). والمبشّرون "يخرجون من أجل الاسم الكريم" (3يو 7). ونقرأ في هرماس الراعي ان "اسم ابن الله عظيم، لا حدّ له ويضبط الكلّ... إنه يحمل كل الذين يحملون اسمه وهو أساس لهم، ويحملهم بعذوبة لأنهم لا يخجلون من حمل اسمه" (المثل التاسع، XIV). ويروى في سيرة حياة القديس اغناطيوس الأنطاكي أنه حين وصل إلى الشهادة، كان يبتهل باسم يسوع بلا انقطاع. وعندما سئل عن سبب ذلك، قال: "هذا الاسم محفور في قلبي". تفيض كتابات الآباء بالحديث عن سلطان اسم يسوع. يقول يوحنا السلمي: "اجلد أعداءك (أي الشيطان والأهواء) باسم يسوع، فما من سلاح أقوى في السماء وعلى الأرض". ويوصينا ذياذوخوس أسقف فوتيكي "بأن نجعل من اسم الرب يسوع شغلنا الوحيد" (Cent Chapitres sur la perfection spirituelle, 59). أمّا فيلوثيوس من سيناء، في القرن التاسع، فيدعونا إلى "استجماع أفكارنا بواسطة ذكر يسوع" (الفيلوكاليا).

منذ بدء التاريخ المسيحي، ارتبط هذا التركيز على اسم يسوع بتعليم الرسول بولس "بالصلاة بدون انقطاع" (روم 1/10؛ اف 6/18؛ 2تس 1/3؛ إلخ) أو "ليل نهار" (1تس 3/10؛ 1طيم 5/5) من جهة، وبصلاة العشّار (لو 3/12) وصياح الأعمى: "رحماك يا ابن داود" (لو 18/37)، حتّى صار ما يعرف اليوم بـ"صلاة يسوع" أو "صلاة اسم يسوع". إن هذه الصلاة التي تكرّر بلا كلل في صيغتها المطوّلة: "أيها الرب يسوع المسيح، ابن الله الحي، إرحمني أنا الخاطىء" أو صيغتها المختصرة: "يا يسوع ارحمني" أو حتّى "يا يسوع"، قد أصبحت صلاة الرهبان بامتياز، وصلاة العديد من العلمانيّين في العالم البيزنطي كما يؤكّد نقولا كاباسيلاس. تسمّى "بالصلاة النقيّة" أو، بكلّ بساطة، "الصلاة". إن ممارسة هذه الصلاة في الهدوء والسكون، تربط بين اسم يسوع ونفس المصلّي. فيصبح الاسم وكأنه نفس المصلّي، ويتملّك به شيئاً فشيئاً، و"يحلّ في القلب"، حيث يظلّ صداه يرنّ. فكما يقول القديس غريغوريوس النيصصي، عندئذ "الختن يقترب" (La Colombe et les Ténèbres, Cerf, p. 147) ويملأنا بحضوره. إن الروحانيّة التي تتضمّنها "صلاة يسوع" تعرف باسم "الهدوئيّة" (من اليونانية hesychia التي تعني الهدوء والسكينة والتأمّل في السلام الداخلي).

كان القديس إفاغريوس البنطي (+399) أوّل من جمع قوانين العقيدة الرهبانيّة في الصلاة. أما القديس مكاريوس الكبير فوضع أسس تصوّف القلب كمركز لوحدة الشخص. وقد ساهم القديس ذياذوخوس أسقف فوتيكي بشكل كبير في نشر هذا المذهب "الهدوئي" وتعميمه. في القرن الثامن عشر، نشر القديس نيقوديموس الهاجيوريتي كتاباً يجمع نصوصاً عن الرهبنة الهدوئيّة. سمي هذا الكتاب "بالفيلوكاليا" أي محبة الجمال. في عام 1793، نشر الراهب "بايسي فيليكوفسكي" Paissy Veleckovsky (1722-1794) ترجمة عنه باللغة السلافية-الروسية، كان لها الأثر الكبير في تجديد الحياة الروحيّة في الكنيسة الروسيّة في القرن التالي. كما نشرت ترجمة متقنة رومانية، مع مجموعة كبيرة من الحواشي والشروحات العلميّة، في أوج العهد الشيوعي، وقد قام بها الأب ديميتري ستانيلواي Dimitru Staniloae. أمّا في زمننا هذا، فنجد ترجمات للفلوكاليا بجميع اللغات، ويبدو أن هذا الكتاب قد أصبح المرجع الرئيسي للعديد من الناس، قي الشرق والغرب.

أما القديس يوحنا كرونشتادت (1829- 1908)، وهو كاهن عجائبي ربط العمل الاجتماعي والرعائي بأسس روحيّة عظيمة، فقد كان يوصي رعيّته بممارسة صلاة يسوع بقوله: "ليكن اسم الرب بالنسبة إليكم كحضور الرب نفسه" (حياتي في المسيح). بالنسبة إلى الأسقف كاليستوس وير، "فصلاة يسوع ليست شكلاً من أشكال التأمّل التحليلي في حقبات من حياة يسوع... بل هي أن نكون في حضرة المخلّص، ونشعر بأنه أمامنا وفينا وأنه يسمع طلباتنا ويستجيب لها... تخلق هذه الصلاة نوعاً من الحميميّة والصداقة المباشرة والشخصيّة مع يسوع" (Le Royaume intérieur, p. 39). في صيغتها المطوّلة، تعتبر هذه الصلاة "كاملة". فهي تتضمّن الاعتراف بالإيمان وتشهد على  أن يسوع هو الرب الإله ابن الله. وبما أن "ما من أحد يستطيع أن يقول "يسوع ربّ" إلا بإلهام من الروح القدس" (1قور 12/3)، فهذه الصلاة أيضاً اعتراف بالثالوث. وهي تشمل التوبة أيضاً، فيعترف المصلّي بخطاياه ويطلب المغفرة عنها. وهي أخيراً تكرار غير منقطع لاسم يسوع، إنها نداء وانتظار لحضوره.

في كتابه عن حياة يسوع (Ed. De Chevetogne)، يوجز الأب ليف جيليه (1893- 1980) تعليم الآباء وخبرته الشخصيّة المتعلّقة بالصلاة على الشكل الآتي

محاولة الدخول في حالة من السلام والخشوع قبل التفوّه باسم يسوع" (P. 82)، بواسطة موقف معيّن يتّخذه الجسد والروح (يقترح بعض الآباء ربط تكرار اسم يسوع بعمليّة التنفّس)

"التضرّع من أجل مساعدة الروح القدس"، ثم الارتماء في الصلاة كمن يرتمي في الماء، فنلفظها "بعبادة محبّة، ونكرّرها ببطء وهدوء وسكون" (p. 82)؛ 

"تركيز كياننا كلّه، شيئاً فشيئاً، حول اسم يسوع والسماح له بالدخول فينا وملء نفسنا بهدوء" (p. 83

"طرد كل لذة ذهنيّة وكلّ محاولة للانفعال وكل توتّر وكلّ عجلة" (p. 83).

عندما نعتاد على اللجوء إلى اسم يسوع بهذه الطريقة، ينعم المسيح علينا بحضوره ويقودنا إلى الاتّحاد به. فنلبسه حقيقةً. وبما أن المسيح يحمل الكلّ، وكنيسته بشكل خاص، في داخله، فإنه يوحّدنا كلّنا. ونعتاد مع الوقت على إطلاق اسم يسوع على البشر والخليقة. هذا وجه من أوجه وظيفتنا التي تقضي بالمشاركة في تجلّي العالم. فالألفة التي تقوم بيننا وبين المسيح تساعدنا على التعرّف إليه حيث يسكن، حيث يختبىء فنقول له عند رؤيته: "ربي وإلهي". يختم الأب ليف جيليه بقوله: "إذا كنا نرى يسوع في كلّ إنسان، وإذا كنا ندعو كلّ إنسان يسوع، نسير بالعالم برؤية جديدة وبنعمة جديدة في قلوبنا" (op. cité, p. 91).

الإصغاء إلى أصدقاء الرب

علينا أخيراً  أن نبحث عن المسيح بين أصدقائه القديسين. فبعضهم في السماء والبعض الآخر بيننا، على الأرض.

إن الورع الذي نحمله للقديسسن الذين "فوق"، خاصة لوالدة الإله، يجب ألا يتركّز على حياتهم إلا من أجل اتّخاذ العبر منها، فنتعلّم منهم سبل الوصول إلى المسيح ونطلب شفاعتهم. على كلّ حال، في معظم أيقونات والدة الإله، نرى يدها متّجهةً إلى ابنها وكأنها تقول لنا: "هو من يجب أن تنظروا إليه". والدة الإله هي أعظم مثال، وما أروع هذا المثال، على ما يمكن أن يصبح عليه الانسان الذي يقبل بأن يولد المسيح فيه. يجب اتّخاذ موقف مماثل من كافة القديسين. نطلب مساعدتهم ونقتدي بهم من أجل التقدّم نحو الذي هو غايتنا المشتركة وطريقنا إلى الآب.

أما القديسين الذين "تحت"، فيجب أن نعلم كيف نميّزهم. إنهم عادة من يحسبون أنفسهم أكبر الخطأة. وهم، عندما يضعهم الله على طريقنا، أشبه بـ "اللؤلؤة الثمينة" التي يتحدّث عنها الانجيل. علينا أن نصغي إلى أقوالهم وندعهم يقودوننا إلى السيد ونطلب منهم قائلين: "قل لي كلمة لأخلص". يعرف هؤلاء كيف يبقون في الظلّ ليشعّ وجه المسيح وحده. يعلّموننا من خلال خبرتهم أن الحياة في المسيح هي نار تلتهمنا وأنها على غرار شوك النار، تطهّرنا وتغيّر طبيعتنا بدون أن تتلفنا. فالمسيحيّة، وهي ليست عقيدة بالدرجة الأولى بل نمط معيشة، تنتقل مشافهةً من جيل إلى جيل، من قلب إلى قلب آخر، من أب محبّ إلى تلميذ مهيّأ لأن يولد من جديد في المسيح.

وماذا بعد؟

لا شيء غير أن من يدرك أنه محبوب بجنون لا بدّ من أن ينطلق للبحث عن الحبيب، بدون كلل وبدون توقّف، في كلّ مكان يوجد فيه. "يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك؟" (يو 6/68).

                

 

                                    

       

     

 

 

         

المشاركات الشائعة