كلمة الأمين العام في عيد الحركة العام 2001

 ريمون رزق 

النور - العدد الخامس 2001


"لكي يبرز وجه المسيح"

المسيح قام، حقّاً قام.

أصحاب السيادة الأجلّاء، قدس الآباء المحترمين

أيّها السيّدات والسادة

إخوتي،

قال لي أحد مؤسّسي حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في أوّل انتسابي إليها: "المهمّ أن يبرز وجه المسيح وإيّاه وحده في كلّ واحد منّا وفي كلّ عمل نقوم به. في هذا فقط تكمن الحركة".

لا أعرف إن كان أحدٌ يرى اليوم وجه المسيح في حركتنا. نحن نرى خطايانا، وهي كثيرة ولكن ما أعرفُهُ، وأرجوه في آنٍ، هو أنّنا باقون على هذا السعي، ولن نكفّ عن طرح التساؤلات التي تحثّنا على التوبة الدائمة وإصلاح كلّ اعوجاج فينا وفي المسيرة. شئتُ أن أطرح على مسامعكم أربعة من هذه التساؤلات التي تتدارسُها اليوم الفرق الحركيّة كلّها، ساعيةً بذلك إلى موافقة "المحبّة الأولى"، عساها تَصفُ، بكلمات قليلة، اهتمامات الحركيّين الحقيقيّة.

- التساؤلُ الأوّلُ هو: هل نحن حقًّا تلاميذ ليسوع تربطنا به علاقة شخصيّة ونسعى إلى التخلّق بأخلاقه؟

- التساؤل الثاني: هل نحن، جماعة وأفرادًا، إنجيليّون في فكرنا وتصرّفاتنا وأخلاقنا، وفي خدمتنا وعلاقاتنا؟ وهل نحن نصفح لبعضنا البعض وللآخرين لأنّنا نثق بأنّ الله يتوب علينا إذا تبنا إليه؟

- التساؤل الثالث: هل نحن حاملون حقًّا همّ الكنيسة ونتمزّق إذا شاهدنا عيوبًا فيها، وإذا لاحظنا أنّ معاصينا تحول دون إبراز وجه المسيح؟

- والتساؤل الرابع: هل نحن حقًّا خدّامٌ في الكنيسة والمجتمع والعالم، همُّنا التبشيرُ بمحبّة الله، وهل نحن مقتنعون بأنّ الناس إذا أحببناهم من دون تمييز أو محاباة، وكنّا مستعدّين لخدمتهم، سيكتشفون أنّ الله يحبّهم؟

يكمن في هذه التساؤلات مبرّر وجود الحركة. الفرق والتعليم والنشاطات والنشر والخدمة الاجتماعيّة أو أيُّ إنجاز آخر مهما سما لا يبرِّرُ وجودها. همّ الحركة أن يسعى أعضاؤها إلى القداسة ويروا إلى الكلّ وإلى إحقاق حقّ الله، وأن يحيوا، جماعةً وأفرادًا، بتوبة نصوح ومحبّة مجانيّة ويكونوا مستعدّين دومًا لغسل أرجل كلّ الناس مهما كان دينهم أو لونهم أو جنسهم.

هويّة الحركة الوحيدة هي الحياةُ في المسيح. نظامُها الإنجيلُ مترجمًا حياةً. قانونها المحبّة وإعلانُ رسالة الخلاص. الحركة تيّار مواهبيّ يحرّكه الروح في كنيسة المسيح وطنها الأوّل والحقيقيّ. وهذا يعني أن تكون دائمًا متأصّلة في المسيح، في شركة تامّة مع شعب الله وفي طليعته الأسقف. فمن تأصّل في المسيح يؤصّله الربُّ في جسده ولا يكون أبدًا إزاء الكنيسة. هو منها وفيها لأنّه ملتصق برأس الجسد ويحيا به. وهذا ما يعطيه الحقّ أن ينقل حبّه وخلاصه إلى العالم كلّه. الهمّ هو أن يصل الكلّ إلى ملء قامة المسيح. المسعى أن ننفتح جميعًا، ودائمًا، على حركة الروح، لأنّه باعث المواهب ومحرّكها في الجماعة، وهو الحيّ الذي يرفض كلّ بُعد وتفرّج وجمود، وتاليًا كلّ تمأسس في الكنيسة أو رداء لا يليق بها، يريد أبناؤها – ولأسباب شتّى – أن يلبسوها إيّاه.

الحركة موجودة الآن بشكل أو بآخر في معظم أبرشيّات الكرسي الأنطاكيّ. ينخرط في صفوفها ويشترك في نشاطاتها آلاف من الشباب والشابّات، وكلّ من يصرّ على أن يبقى شابًّا بالروح، وهم من الطلّاب والعمّال والعاملين والعائلات. أضف إلى ذلك آلافًا من الأولاد في أسر الطفولة والنشاطات التربويّة الأخرى. كلّهم يجتمعون أسبوعيًّا في فرق همّها أن تكون مختبرًا للحياة في المسيح بما تحمل هذه العبارة من حقيقة وتفترض من متطلّبات. وأن تذكّر، تاليًا، الخراف البعيدة والمتصلّبة بدعوة الله وتحثّهم على الانخراط الفاعل في حياة الجماعة.

لن أتكلّم على المؤتمرات والمخيّمات والحلقات التدريبيّة والخلوات العديدة التي يشترك فيها معظم هؤلاء ولن أتوقّف عند علاقاتنا المتواصلة مع حركات الشباب الأرثوذكسيّ في العالم عبر منظّمة سندسموس، والحركات المسيحيّة الأخرى عبر الاتّحاد العالميّ المسيحيّ للطلبة. ولن أتبسّط في ذكر اللقاءات العالميّة والمحلّيّة التي تجمعنا إلى إخوة لنا من كنائس أخرى، والتي تكشف لنا كنوزًا كانت مطمورة، وتسمح بمزيد من العمل والصلاة من أجل أن ينعم الله علينا بالوحدة في حيّز هذا الوجود. ولن أتكلّم على عمل مجلّة النّور، المجلّة الأرثوذكسيّة التي ما زالت تصدر بانتظام منذ ما يقارب ستّين سنة. ولا على منشورات النّور، التي أغنت، وما زالت، المكتبة العربيّة بإصداراتها في مختلف نواحي الفكر الأرثوذكسيّ. ولن أسهب ختامًا في الكلام على "الإخوة الصغار" خصوصًا عبر مراكزنا الطبيّة الاجتماعيّة، وعبر العديد من البرامج الاجتماعيّة التي تُعنى بافتقاد المسنّين، أو بتأمين الدراسة بواسطة مشروع التبنّي المدرسيّ. وقد سمح الله بأن نساهم في أقساط ما يقارب خمس ماية طالب في السنة الدراسيّة الحاليّة...

لا تشكّل هذه النشاطات، وغيرها، سوى مساهمة متواضعة في العمل في حقل الربّ نقوم بها إلى جانب العاملين الكثيرين في الرعايا والجمعيّات وباقي المؤسّسات الكنسيّة.

نشكر لله كلّ جهد طاهر يبذله كلُّ مخلص، ونحن، بصدق، نعتبره حافزًا لنا، ودافعًا إلى مزيد من العطاء والتكريس. بخاصّة أنّ كلّ ما يعمل في كنيسة الله ليس إلّا نقطة ماء في بحر من التحدّيات. فالحقل واسع والعملة قليلون، والحاجة، كلّ الحاجة، هي إلى تضافر الجهود لإبراز وجه الربّ الممجَّد وحده، وخدمة إخوته والذين لا يعرفونه، وهم كثيرون.

لا بدّ لنا من أن نقلق على الأعداد الهائلة من الأرثوذكسيّين الذين لا يعرفون من الكنيسة سوى أشكالها الاجتماعيّة والطائفيّة والسياسيّة (هل نسبتهم تزيد على 85٪؟ لا أدري). الأسئلة التي يجب أن تقلقنا جميعًا هي: لماذا معظم إخوتنا لا يشاركون في حياة الكنيسة، يؤمنون ولا يمارسون، كما يُقال اليوم. وهل من إيمان بلا اندماج كامل في حياة شعب الله؟ لماذا لا يسعى ملتزمون كثيرون بيننا (وأتكلّم على أنفسنا) جدّيًّا إلى التخلّق بأخلاق يسوع؟ ولماذا لا نظهر للملأ بما فيه الكفاية بشرًا جددًا، محبّين، متعاونين، وخادمين، لا نقبل أن يكون في وسطنا فقير أو محتاج...، لأنّنا نؤمن – أو هكذا يجب – بأنّ المسيح قام وغلب الموت وكلّ مظاهره؟ تُرى هل فقد المسيح الحيّ قوّة جذب الناس إليه أو أنّنا أصبحنا ستارًا يحجب النّور ويمنع الرؤية؟! لماذا نبدو، في معظم الأحيان، مكتفين بالكلام على يسوع ولا نسعى إلى التمثّل به في كلّ شيء؟ هذا النوع من الأسئلة لا بدّ من طرحه، وبإلحاح، على ضمائرنا، وعلى ضمير الكنيسة والمسؤولين فيها (وكلّ من أخذ "مسحة من القدّوس" هو مسؤول). قال صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس الرابع في خطبة ألقاها السنة 1969 لمناسبة عيد للحركة: "أنتم الشباب، يُطلب إليكم أن تكونوا في الكنيسة ذلك العنصر الذي يتطلّع إلى ما بعد. أنتم لستم في الحركة من أجل الكنيسة اليوم، أنتم في الحركة من أجل الكنيسة إلى بعد أجيال... نحن هنا لنستجوب كنيستنا، نستجوب عصرنا، نستجوب كلّ عادة من عاداتنا... علينا أن نتساءل ونسأل الجميع حيث الجميع يطمئنّون. يجب أن نقلق الكنيسة. يجب أن تهتزّ الضمائر...".

ولعلّه من المناسب، قبل أن نودّع بعد أيّام معدودة الفترة الفصحيّة لهذا العام، أن نتوقّف أمام بعض معاني الفصح التي لها علاقة مباشرة بنشوء التيّار النهضويّ منذ ما يقارب ستّين سنة. وذلك لنفحص أنفسنا، ونسعى جميعًا، أكنّا منتمين إلى هذا التيّار أو غير منتمين، إلى رفع التحدّي الذي يواجه كنيستنا اليوم، ونقبل على معرفة أفضل للقادر وحده على تحريرنا وتقويم كلّ اعوجاج في مسيرة هذا الشعب المقدّس.

سأل بيلاطس السيّد قبل أن يسلمه للصلب: "وما هو الحقّ؟". نحن نعلم أنّ يسوع هو الحقّ. وأنّ الحقّ الذي أتى هو به لا يُدرك حصرًا بالكلام ولا يأتي نتيجة قناعة ذهنيّة. لقد كشف يسوع كلّ متطلّبات الحقّ لمّا علّق على الصليب. وهو بذا لم يجب بيلاطس فقط، وإنّما العالم كلّه عن الحقّ الذي يخزي حكمة الحكماء ويفضح قدرة المقتدرين.

الصليب، إذًا، هو الجواب: هو إعلان الحقّ، هو مركز الوحدة، وهو برهان المحبّة! أين نحن في أنطاكية اليوم من هذا الجواب؟

منطلق الكلام أن ليس من وحدة بين الحقّ والباطل. هذا ما تؤكّده طقوسنا بقولها إنّ "المسيح قهر الموت بالموت". الظلمة والنّور لا يمكن أن يلتقيا في مكان واحد. النّور يطرد الظلمة، كما أنّ المسيح قام من بين الأموات في اللحظة ذاتها التي أسلم الروح فيها على الصليب. لذلك الصليب مكان إعلان الحقّ، والحقّ هو في أنّ نعبد الله وحده وأن نرتضي جدّة إنجيله وحدّته في حياتنا، وليس في مسايرة العالم أو تمييع الالتزام! صلب المسيح لا يعني شيئًا أبدًا إذا لم يكن صلبًا للمهادنة وكلّ ما هو باطل. صليب المؤمنين اليوم هو: أن يظهروا، بتعب ودم، أنّهم مقتنعون بالحقّ الذي تحدّى بيلاطس يسوع أن يكلّمه عليه.

أكمل يسوع الطريق إلى النهاية حين قال على الصليب: "اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون"!، فأقرن إعلان الحقّ ببرهان المحبّة. الحقيقة لا توحّد إلّا متى كانت وليدة المحبّة. المحبّة تنقّي وحدها المسعى إلى الحقّ من كلّ عيب، وتجعل وحدة الجماعة ممكنة بالعمق.

أين وحدتنا في الكأس المشتركة؟

في كلّ خدمة شكريّة، نتذكّر الصليب والقيامة، ووصيّة السيّد لتلاميذه: أن "افعلوا هذا لذكري"! هكذا خاطبهم بصيغة الجمع. الكأس المشتركة هي، أساسًا، صيغة "شراكة" لا مكان فيها للفرد وحده. فالفرد مدعوّ إلى أن يعي ذاته شخصًا له ارتباط وثيق بجماعة واحدة فريدة في إيمانها وخدمتها وشهادتها. فكلّنا معًا "جسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا". ولا أحد يستطيع أن يقول لآخر "لا حاجة لي إليك". هذا ما يؤكّده بولس الرسول. ولذلك نسأل: أين وحدتنا الشكريّة في رعايانا؟ أبرشيّاتنا وكنائسنا وحدات متباعدة، تجعل من "استقلاليّتها الإداريّة" بديلاً من وحدة الحقّ والمحبّة المصلوبة. كيف نعيش حقيقةً الكأس الواحدة بامتدادها بين الرعايا؟ بين الأبرشيّات؟ بين الكنائس؟ وتجاه العالم؟ أسئلة مؤلمة جدًّا لا يجوز تجاهلها، والأمثلة عنها كثيرة ومخيفة...

أين وحدتنا مع الفقير والمظلوم؟

في مطلع الصوم، تذكّرنا الكنيسة بهذا الأمر بشكل دراميّ. نذكره وعظًا في أوقات كثيرة، وعطاءات منظّمة في بعض الأحيان، وتبرّعات شخصيّة أيضًا هنا وهناك. لكن، هل هذا ما يطلبه السيّد، وكلامه، في إنجيل الدينونة، لم يقتصر على محاربة العوز، كما لم يحدّد الطاقة لرفع هذا العوز؟ فهل نحن معنيّون بهذا الكمّ الهائل من الناس الذين يعيشون حولنا في حالة جوع دائمة، أو هم عاطلون عن العمل، أو ساعون إلى الهجرة بحثًا عن لقمة خبز أو خوفًا من افتقاد العيش الكريم والحرّ؟ هل نحن معنيّون بالمظلومين في غير مكان، وهم كثيرون جدًّا. وهل نربّي أنفسنا على النضال من أجلهم... حتّى الموت، موت الصليب؟ أين سلّم أولويّاتنا في هذا المجال كأعضاء وجماعة؟ كيف نترجم هذا الهمّ في أوقافنا، في موقفنا من المال الذي منعنا يسوع من عبادته، وفي البذل المستمرّ؟ فحقيقة المشاركة في الخيرات التي خبرها المسيحيّون الأوائل لمّا تدخل حياتنا، وكأنّنا نريد المسيح وحده مصلوبّا. ولا نريد أن نصلب أنفسنا على جلجلة من أحبّهم ووحّد ذاته بهم، أو نمتحنها بالمحبّة الحقّ.

أين وحدتنا الفكريّة؟

في التفتيش عن الحقّ، بمنطق الصليب، لا بدّ من أن نطمح إلى قول الرسول: "أمّا نحن فلنا فكر المسيح"! لذلك، ورغم رحابة استقامة الرأي في التعاطي مع الشأن الفكريّ، فهذا التفتيش لا يكون من دون مرجعيّة. والمرجعيّة هي فكر المسيح وحياته مثلاً، كما جاء في الكتاب المقدّس، ونُصّ عقيدةً في المجامع، وخَبِرته الكنيسة عبر العصور وعبّر عنه آباؤها الكبار. من السهل طبعًا أن نتمسّك بالعقيدة، ونرجع كلّ ما له علاقة بالحياة إلى "التدبير"، التدبير ليس حرًّا فهو خاضع لحكم ضمير الكنيسة في امتداد حياتها، وليس هو بالضرورة نتاج واقع اجتماعيّ آنيّ.

هذا يجعل من كلّ فكرة "السلطة" في الكنيسة موضوع تساؤل. فالشركة في الكأس تفترض أيضًا شركة في فكر المسيح. وذلك أنّ تعليمنا المشرقيّ لا يضع المسؤول فوق الجماعة. ولكنّه يريده منفتحًا على "الشيوخ والأنبياء"، "فلا يعمل الأوّل شيئًا من دون الإخوة، ولا الإخوة شيئًا من دون الأوّل". الفكر في استقامة الرأي فعل. هو المجال المعطى لنا لنتألّه ونصبح شركاء الله في الأفعال. لا يمكننا أن نبقي الحياة الكنسيّة على صعيد النوايا الحسنة.

فأين الشورى في الكنيسة؟ الشورى على كلّ صعيد والشورى في كلّ اتّجاه. الشورى ميزة كلّ مؤمن في الجماعة مهما كان موقعه. نحن نتوحّد بفكر المسيح متى صلبنا أنفسنا وفتّشنا معًا عن الحقّ بمحبّة وانسحاق. وما يساعدنا على ذلك هو أن نجلس معًا ونعتبر أنفسنا مسؤولين جميعًا عن بيتنا الواحد، كلّ حسب المواهب المعطاة له من فوق، كما يدعونا الذهبيّ الفم. القوانين الأنطاكيّة تلحظ ضرورة تأليف مجالس تجمع بين الراعي والرعيّة. يهتمّون معًا، والأسقف إمامهم، بشؤون البيت. فلماذا لا نسعى بجديّة وتواضع، إلى تأليف هذه المجالس، وذلك في كلّ الأبرشيّات الأنطاكيّة (وهي غائبة في معظمها)، لكي نبدو عمليًّا، بلياقة وترتيب، أنّنا جميعًا أبناء هذه الكنيسة، وإخوة، وخدّام الشهادة للربّ في هذا العالم.

أين معالجة شؤون هذا العالم في كنيستنا اليوم؟ ماذا فعلنا لنصل إلى بلورة شهادة واحدة تجاه الكنائس الأخرى؟ وتجاه الملحدين؟ والديانات الأخرى؟ اعتبرنا التعلّق بالتراث المستقيم وهمّ المحافظة عليه، سببًا للاستقالة من التفتيش المشترك عن حقيقة لا بدّ  من أن نعلنها بلغة وأساليب تفهمها الأجيال الجديدة، وتكون تعبيرًا جديدًا عن البشرى السارّة، إنجيلاً حيًّا في عالم اليوم. كم هي كثيرةٌ الأمور التي تتحدّانا اليوم، وتتحدّى رؤية الكنيسة للإنسان وعلاقته بالله. باسم الموروثات دخلنا في متحفيّة لا بعدها متحفيّة، فأصبح الصليب فكرة بدلاً من أن يكون فعلاً، والحقيقة إيديولوجيا ندافع عنها فلسفيًّا، والمحبّة خطابًا طوباويًّا، لا أدري إن كان الناس قادرين على أن يذوقوا حقيقتها المعيوشة.

من هنا يأتي سؤالنا أيضًا، في سياق وحدتنا الفكريّة، عن مفهوم السلطة في العالم. الكنيسة ضمير العالم وملهمة الشأن العامّ فيه. السياسة، كلّ سياسة هي استقامة في خدمة الإنسان. ولنا كجماعة مؤمنين أن نسلك في العالم من خلال هذه الرؤية. وهذا يعني أن نعيد النظر، بطريقة جذريّة، في كثير من المفاهيم القائمة اليوم، وليس آخرها اعتبار السلطة (بسبب مسؤوليّة ما) رديف تسلّط ووجاهة، واعتبار المواطنيّة تابعة للموقف الطائفيّ الضيّق البغيض، واعتبار الاهتمام بالإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، شأنًا تنظيميًّا بحتًا.

أخيرًا وليس آخرًا، أين انضباطنا بتطويبات العظة على الجبل، ونحن نسلك، بمنطق أهل الدنيا، في ضعف ومسايرة؟ وهذا قائم في كبير شؤوننا وصغيرها. أَنَعي أنّ الطابع الدنيويّ يتسلّل شيئًا فشيئًا إلى احتفالاتنا، وغالبًا ما يؤثّر على انتقاء العاملين في العديد من الهيئات الكنسيّة ولعلّ هذا كلّه يبرّر باسم التدبير وضرورة جمع الشمل والمحبّة الواجبة للكّل. هذه الهموم وجيهة طبعًا، ألم يقل الرسول "المحبّة تتأنّى وترفق"؟! ولكن، ألا يجدر بنا، في ما نحافظ على المحبّة المتأنّية بالأشخاص لترعاهم، أن نعيشها أيضًا متأصّلة في الحقّ؟ أيعقل أن يعطّل ما هو حقّ ويستغنى عن الصليب بهذه السهولة؟

أصحاب السيادة،

قدس الآباء المحترمين،

إخوتي،

معاذ الله أن أقف بينكم واعظًا أو معلّمًا. لكن انطلاقًا من "المحبّة الأولى" التي حرّكت التيّار النهضويّ منذ سنوات، أطلق هذه الدعوة إلى الجميع، وإلى أنفسنا أوّلاً، لكي نسعى إلى إعلان الحقيقة بمحبّة مطلقة، ولا نخشى الصليب ملاذًا لنا لأنّ المسيح قام، "ولا ميت في القبر". تصرّف مثل هذا يبرز وحده وجه المسيح في كلّ واحد منّا، في رعايانا، وفي أرجاء الكرسيّ الأنطاكيّ كلّه. فتعود إذ ذاك كنيسة أنطاكية "عظيمة بين كنائس العالم". "عروسًا لا عيب فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك". ويؤمن أبناؤها والعالم بأنّ المسيح قد قام حقًّا. هكذا نصير بالحقيقة جماعة قياميّين، لا خيار لنا، سوى أن نقوم مع المسيح وأن يقوم المسيح في كلّ واحد منّا.

المسيح قام.

المشاركات الشائعة