خواطر في الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعيّ 2

 ريمون ر زق

الموقع الالكترونيّ للحركة - 7 نيسان 2020


فتح الكنائس أو اغلاقها

اعترض البعض من أساقفة وكهنة ورهبان وعلمانيّين، علانيّةً على قرار إغلاق الكنائس الصادر عن المقامات الروحيّة للكنائس المسيحيّة تحمّلًا منهم للمسؤولية وبغية الحدّ من انتشار العدوى. وإذا كان “الانزعاج” الذي قد يسبّبه هذا القرار أمرًا يُفهَم لكونه غيرَ مألوف، فإنّ انتقادَه علانيّة من أشخاص ذات صفة كنسيّة تمثيليّة هو أمرٌ غير مقبول، إذ يوحي وكأنَّ هؤلاء  يعتبرون أنفسهم، بقصدٍ أو بغير قصد، ممثّلي “الكنيسة الحقيقيّة” ومعلّمي المسكونة. إنَّ مَن يتجاهل توصية الرسول بأن يكون في الكنيسة “كلّ شيء بلياقة وترتيب” 1كورنثوس (14 : 40)، يتناسى أنّ مكانته الكنسية، مهما علا شأنه في نظره أو في نظر محبّيه، إنّما تُكتسب بالتواصل والتشاور مع إخوته في الكنيسة، وخاصّة الأوائل بين متساوين، وتفاعله المحبّ معهم وممارسة “الطاعة المتبادَلة”. فكلّ ابتعاد عن الشورى من قِبل الرعاة وعن تناغمهم مع جسم الكنيسة، وكلّ تهجّم عليهم من قبل أبناء الكنيسة ليس سوى انفراد آثم، لا يبني العباد، بل يشرذمهم ويشرذم بيعتهم.

التباعد الاجتماعيّ

إنّها عبارة مخيفة لما تحمله في طيّاتها ممّا يتعارض مع ما يدعونا إيماننا إليه. نحن مدعوّون أن نبحث عن المسيح، ليس فقط في الكتاب المقدّس والأسرار والصلاة، على أهمّيتها، وإنّما، أيضًا، في وجه كلّ إنسان نكون مستعدّين لغسل رجليه. لذا يصعب علينا تجاهل لقاء الآخرين. هذا التجاهل الذي تُلزمُنا به الأزمة الحاليّة، تقودنا إليه كذلك “حضارة” الفردانيّة التي تسود وتكاد تصبح عالميّة. فهل تكون العزلة الحاليّة حافزًا كافيًا لتفكيرٍ جديد وثورة على مقوّمات مجتمعاتنا، بعد أن يزول الكابوس؟ أو نعود إلى عيشِنا الفرديّ اللّامبالي؟

خليقة اللّه وتقديسها، ماذا فعلنا؟

يقول العلماء أنّ تفشيّ الأوبئة بين البشر، والّتي كانت كامنة في الحيوانات، ناتج عن الّتشويه الّذي يقوم به الإنسان لبيئتها الطبيعيّة، وإزالة الأحراج والغابات لأسباب إقتصاديّة، والاحتباس الحراريّ الذي يغيّر مرتكزات الكوكب الأرضي. أزمة “الكورونا” التي نعيشُها قد تكون مناسَبة للتفكير بما أودَت إليه مدنيّتنا المبنيّة على الفردانيّة، وتأليه الذّات الإنسانيّة من دون اللّه، والجشع الاقتصاديّ والحريّة الّتي لا حدود لها، وتسخير الخليقة لهذه الأهداف. أينَنا، ككنيسة، من تعليم آبائنا حول المسيح الكونيّ؟ أينَنا من مسؤوليّتنا، هذه، الكونيّة؟ أنعي أنَّنا، في كلّ قدّاس إلهيّ، نقدّم القرابين للإله الآب “على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء”، أي من أجل الكون الذي أرادنا أن نحرسَه؟ يؤكّد كيرلّس الأورشليمي (313-386)  هذا المفهوم قائلًا إنّنا “نذكر في الصلاة الإفخارستيّة، السماء والأرض والبحر والقمر وكلّ الخليقة “(المواعظ التحضيريّة للمعموديّة 5 ، 6).

علينا، إذًا بصلواتنا، أن نُبقيَ الحياةَ الأرضيّة منفتحة على السماء، وأن نحقّق علاقة “إفخارستيّة” مع الأرض، ومقاربة مشاكل البيئة، ليس فقط مقاربة أخلاقيّة، بل “أسراريّة وروحيّة وليتورجيّة… وإبرام ميثاق إفخارستي جديد بين الإنسانيّة والأرض”. هذا ما أشار إليه بطريركنا الراحل، المثلّث الرحمة أغناطيوس الرابع في كتاب (إنقاذ الخليقة)، حيث أضاف: “يجب ألّا يبقى موضوع الطاقات الإلهيّة سِرّ النسك الرهباني، بل عليه أن يحرِّك بطريقة خلّاقةٍ حضورَنا في العمل المشترك بين البشر”. فإلى الصلاة الدائمة التي تنقذ العالم، نرجو من الرّهبان أن ينبّهونا إلى تلك الطاقات وإلى صلاتنا الّتي يجب أن تشمل الخليقة بأسرها، البشر والطبيعة، لتكون على قياس محبّة المسيح التي لا حدود لها. فإغلاق الكنائس خلال هذه الأزمة، رغمَ ما يحمل من أسى واحتراق، هو تعبير عن هذه المحبّة، كيلا نتسبَّب بأيّ أذى أو ضرر للكون والإنسان جرّاء انتشار الأوبئة.

أُعطي لي، ذات مرّة، أن أشاهد أحد كبار الروحيّين وهو يضمّ شجرة إلى صدره ويتمتم صلاة. وكان الأب ليف جيللّة ينصح دائمًا الذين يمارسون صلاة يسوع “أن يسمّوا اسم يسوع على الطّبيعة، وليس فقط على البشر، أي أيضًا على الحيوانات الداجنة… والبرّيّة… وعلى الحجارة والزهور والفاكهة والثلج والمطر والشمس والقمر” في تفسيره لصلاة يسوع، (كما يدعونا المزمور 104)، لأنّ على “كلّ نسمة أن تسبّح الله”.

لقد دعا القديس مكسيموس المعترف الجميع إلى أن يميّزوا “جواهر الكائنات والأشياء الروحيّة ((logoi ليقدّموها للّه من قبل الخليقة” (الميستاغوجيا 2). إذ ذاك يظهر العالمُ كنيسةً مذبحُها قلب الإنسان الروحيّ. ويقول إسحق السرياني إنّ مثل هذا القلب “يشتعل محبّة من أجل الخليقة كافّة، البشر والطيور والحيوانات والشياطين وكلّ كائن حيّ” (الخطاب 81، 2) ، ولِمَ لا الفيروسات، أيضًا؟ ككائنات حيّة، علّها تفقد أذيّتها.

 

 

المشاركات الشائعة