أوليفيه كليمان: الكنيسة الأرثوذكسّة [1]

 ريمون رزق

النور- العدد الثاني عشر 1962

رافق حركة البعث التي انطلقت مع مطلع قرننا الحاليّ في الكنائس الغربيّة بحث حثيث عن المشرق المسيحيّ وجهد يسعى إلى المنابع، إلى الرجوع إلى حقيقة بقيت حيّة في الأرثوذكسيّة. ولقد أثار مجمع الفاتيكان وانفتاحه إلى كافّة المسيحيّين اهتمام الغربيّين ورغبتهم في التعرّف على أخوتهم الشرقيّين تعرّفًا أوسع. وليس صدور كتاب "الكنيسة الأرثوذكسيّة" في مجموعة منتشرة على نطاق واسع إلّا دليل هذا الاهتمام.

والأستاذ أوليفيه كليمان الذي دخل الأرثوذكسيّة راشدًا هو أحد تلاميذ فلاديمير لوسكي المجلين، وهو، مثله، تابع لمعتمديّة البطريركيّة الروسيّة في أوروبّا الغربيّة. والأستاذ كليمان يُعتبَر الآن من أوسع شهود الأرثوذكسيّة اطّلاعًا وأولاهم بالثقة. وفي اعتقادنا أن استيفاءه تاريخ الأرثوذكسيّة (القسم الأوّل) وأُسسها اللاهوتيّة (القسم الثاني) و"الاكليزيوجيا" (القسم الثالث) والحياة الكنسيّة والروحيّه فيها (القسم الرابع) في 126 صفحة التي تصدر بها المجموعة ضربٌ من الإعجاز. ومن البديهيّ أنّه اضطرّ، للوصول إلى هذه النتيجة، إلى الاختيار والتصنيف والتكثيف. فكان مأخذنا الوحيد الهام على الكتيّب أنّه لا يفهمه القارئ الم (إن لم؟؟) يكن له سابق خبرة في الموضوع لِما يحتويه من ألفاظ مقتبَسة من دنيا اللاهوت. لذا كان لا بدّ للمبتدئ في الاطّلاع على هذا البحث من قراءة كتاب الأب جان مايندروف "الكنيسة الأرثوذكسيّة أمس واليوم" كمدخل للبحث. كما أنّ "الأرثوذكسيّة" لبولكاكوف ما زال عظيم الشأن في هذا المضمار. ونذكر أخيرًا كتاب أفدوكيموف "الأرثوذكسيّة" لكثرة رجوعه إلى نصوص آباء الكنيسة الأوّلين.

على أننا لا نقصد ممّا تقدّم أن نبخس كتيّب كليمان حقّه. ميزته الكبرى أنّه يبدّد الأوهام السائدة لدى "جمهور المثقّفين" (ص 5) عن الأرثوذكسيّة، كما أنّه، من جهة أخرى "يجد في طلب الجوهر اللباب متعتمدًا لذلك البحث من الداخل" (ص 5).

يبيّن المؤلّف في القسم الأوّل أنّ الأرثوذكسيّة، رغم ما عرض لها من صروف، هي استمرار لكنيسة الرسل وتتمّة للمجامع المسكونيّة (ص 7 – 10) وهو يوضح أنّ الانشقاق أبعد بطريركيّة روما عن "جذع الأرثوذكسيّة القديم" (ص 10) لأسباب ثقافيّة وسياسيّة، وخاصّة لبدعة روما في عقيدة انبثاق الروح القدس و"لرغبة البابوات في تحويل أولية أدبيّة أي رئاسة المحبّة ضمن الكنائس المحليّة، إلى سلطة قانونيّة تسيطر مباشرة على الكنائس بغضّ النظر عن حقوق الأساقفة والمتروبوليتيّة والبطاركة التقليديّة" (ص 11). ومنذ القرن الحادي عشر أخذت سبل المشرق والمغرب في التباعد.

وينتقل المؤلّف بعد هذا إلى الكلام في عظمة بيزنطيا وسقوطها وعن الكنائس السلافية، والروسيّة خاصّة "التي حلّت محلّ بيزنطيا حتى إغلاق بطرس الأكبر للبطريركيّة الروسيّة التي أخضعها" خضوعًا لم تعرفه الكنيسة لدولة بيزنطيا (ص 20) ولذا، كان القرن الثامن عشر عصر فتور للأرثوذكسيّة بدأت بالتخلّص منه عند أفول القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر بفضل رهبنات جبل آثوس، و"الفيلوكاليا" (وهي مجموعة نصوص روحيّة على الصلاة المجرّدة المستديمة).

ثمّ يأتي وصف الأرثوذكسيّة المعاصرة وصفًا موضوعيًّا مجرّدًا عن الهوى. فبينما تتحرّر اليونان والبلاد العربيّة من النير العثمانيّ "تنصب حوله الإلحاد والمادّيّة والمعاصرين على الكنيسة الروسيّة التي عانت أفظع اضطهاد عرفه العالم المسيحيّ من 1918 إلى 1941" (ص 23). وبعد اطلاعنا بتفصيل على وضع الكنيسة الروسيّة نراه يلحّ على أنّ هناك "حملة جديدة منذ 1958 لا إيديولوجيّة وحسب بل يخالطها تنكيد إداريّ وإغلاق الكنائس والأديرة وجهد غايته خنق السمنارات" (ص 28).

وفي معرض كلامه على مراكز تجدّد الأرثوذكسيّة المعاصرة، يأتي المؤلّف على ذكر نهضة رومانيا الروحيّة التي شلّها فجأة سجن روّادها "1500 راهبًا أصبحوا علمانيّين، والكنيسة أزعجها ضغط الإدارة" (ص 29). وقد لفت نظرنا قوله "أنّ الأرثوذكسيّة العربيّة تحيا تجديدًا بعثته حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الكرسي الأنطاكيّ منذ 1941" (ص 29) وهناك حركات يونانيّة كالاتّحادات الأرثوذكسيّة و"زوي" (ذوي؟) تجدّد التبشير والوعظ والليتورجيا. غير أنّ هذه الحركات، على حدّ قوله "تصطدم بعناصر الأسقفيّة المحافظة". وقد تحدّث أيضًا في نشاط البعثات التبشيريّة ومولد الأرثوذكسيّة الأفريقيّة التلقائيّ وأهمّيّة الهجرة في اللقاء بين الغرب والشرق المسيحيَّين، بفضل الطليعة الأرثوذكسيّة المعاصرة كبولكاكوف ولوسكي. ويختتم البحث قائلاً أنّه بالرغم من ضغط الإدارة وروح بعض المحافظين الهدّامة، تنبع الحياة جيّاشة في الأرثوذكسيّة، ولا يصحّ أن نتجاهل هذا الفيض "في فرح الكنيسة الروسيّة المتألّمة وسط البيئة الشيوعيّة، في حركات التجديد التي فجّرتها الصلاة من الشعب المؤمن في اليونان ولبنان، في سموّ الفكر الروسيّ والرومانيّ الشريد، في مولد أرثوذكسيّة أميركيّة قويّة وفي إخصاب الغرب والشرق إخصابًا متبادلاً" (ص 31).

لسنا نرمي إلى دراسة الناحية اللاهوتيّة في الكتاب دراسة تفصيليّة، فلن نتعرّض للغموض الذي قد يحيط بقضيّة "القوى غير المخلوقة" وتمييزها عن "الجوهر" مثلاً، إلّا أنّنا نرى أنّ المؤلّف يوسّع شقّة الخلاف بيننا وبين إخوتنا الكاثوليك بإلحاحه على بعض القضايا اللاهوتيّة العريضة. غير أنّ استعراضه الاختلافات في التسمية ذو قيمة إيجابيّة في هذا البحث العقائديّ. ومحاولته رسم الخطوط الكبرى لموقف الأرثوذكسيّة تجاه مسائل متعدّدة كقضيّة والدة الإله (ص 40) وقضيّة الكنيسة المحليّة والكنيسة الجامعة، وخلافة بطرس والعصمة (ص 78) إلخ... عمل كبير الفائدة في التقارب المسكوني، وذلك لأنّ الوحدة لا تتمّ إلّا على ضوء الحقيقة.

وحسنًا فعل المؤلّف إذ توّج كتابه بالكلام في الروحانيّة الأرثوذكسيّة وحلّلها إلى عنصرَيها "الأسراريّ" sacramentel "والقدسيّ" pneumatologique موضحًا أنّ الراهب هو نموذج المسيحيّ الكامل، إذ يجعل حياته تمجيدًا غايته حيازة الروح القدس، وهذا، في نظر القدّيس سرافيم ساروفسكي غاية الحياة الروحيّة المثلى.

إنّ نهضة الرهبنة الأرثوذكسيّة المعاصرة، في رومانيا واليونان ولبنان من أوضَح معالم البعث الحاليّ، فالرهبان كما قال يوستينيانوس بطريرك رومانيا "يقومون بواجب الصلاة عن أولئك الذين لا يعرفون أو لا يريدون أو لا يستطيعون الصلاة، وخاصّة عن أولئك الذين لم يصلّوا أبدًا".

ويرى المؤلّف أنّه إذا كانت الأرثوذكسيّة بحاجة إلى الغرب المسيحيّ في تنظيمه الجادّ وفي خبرته العالم العصريّ، فبإمكانها أن تقدّم بدورها عمقًا في الصلاة لا ينتظره الكاثوليك أو البروتستانت وتشير بليتورجيّتها وأيقوناتها وصلاتها المستديمة أنّ المسيحيّة حياة تدعو الإنسان بالروح القدس إلى اختيار لانهائيّ (ص 125).

إنّ قراءة هذا الكتاب الممتع بأسلوبه الحيّ الشخصيّ والأصيل تطلع كلّ أرثوذكسيّ على ما يترتّب عليه من مسؤوليّات. العالم بحاجة إلى الكنوز التي ادّخرناها والتي نعي وجودها والتي يسعى بعضنا إلى تحطيمها. كثيرًا ما نعتزّ بأنّنا أبناء الكنيسة الحقيقيّة، غير أنّ هذا التفاخر، إن لم يصحبه عمل من الأعماق، سيذكّرنا يومًا بمرارة أنّ الله قادر على أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم.

 



[1]  Olivier Clément: l’Eglise Orthodoxe, P.U.F, Collection: Que sais-je?

المشاركات الشائعة