الحركة في الستّين: تطلّعات ومرجوّات[1]

 ريمون رزق

النور - العدد الثاني 2003


"وهم لا يزنون ولا ينافقون ولا يشهدون شهادة زور، ولا يشتهون ما لغيرهم. ويكرّمون الوالدَين ويحبّون القريب. يحكمون بالحقّ ولا يفعلون للغير ما لا يريدون أن يفعل الغير بهم. ويعزّون الذين يسيئون إليهم ويصادقونهم. يتوقون لعمل الخير مع أعدائهم وهم ودعاء لطفاء ويمتنعون عن كلّ علاقة غير شرعيّة وعن كلّ إثم وشرّ ولا يحتقرون الأرملة ولا يظلمون اليتيم ومن عنده يعطي من ليس عنده بسرور. وإذا رأوا غريبًا آووه في بيوتهم وفرحوا به كأنّه أخ لهم. يدعون أنفسهم الأخوة لا بالجسد بل بالروح وهم على استعداد لتقديم حياتهم من أجل المسيح. يحفظون الوصايا بدون زيغ ويعيشون بالتقوى والطهارة كما أوصاهم السيّد إلههم، وهم يقدّمون الشكر له في كلّ ساعة لأجل المأكل والمشرب وعطاياه الأخرى"

(أستيذس الأثينيّ الفيلسوف)

إذا تأمّلنا في هذا النصّ، وهو لأحد الآباء المدافعين في أوائل القرن الثاني، نصبو إلى أن يكون همّنا بعد ستّين عامًا أن يُقال يومًا شيئًا مثله عن جماعتنا. وإذا لم يكن هذا الأمر هو همّنا الأساسيّ فلا حاجة لنا إلى هذه الحركة. فنحن نحمد الله على النِّعم الكثيرة التي منّ بها على أنطاكية في الستّين سنة الأخيرة. نحمده على المطارنة الذين يعيشون حسب قلب الله. نحمده على الكهنة والرهبان والعديد من العاملين في الجمعيّات والمؤسّسات والمدارس الذين يعيشون على هذا المنوال. كذلك نحمد الله على العمل الرعائيّ والتعليم الذي يقوم في عدد من الرعايا، ونحن نعلم أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة قد ملأت فراغًا، كان قائمًا في الماضي، على هذا الصعيد. الحركة ترغب في أن تستمرّ بملء هذا الفراغ هنا وهناك حسب الحاجة ولكن أهداف الحركة لا تُحصَر بمثل هذه الخدمة على أهمّيّتها.

همّ الحركة الأوّل هو أن تصبح الجماعة الكنسيّة جماعة إنجيليّة تحيا على صورة الجماعة المسيحيّة الأولى. جماعة متمحورة حول يسوع المسيح وكنيسته. جماعة تائبة، خادمة وشاهدة. فهل نحن، في أنطاكية، نعيش على هذا المنوال؟ باعتقادي أنّ الجماعة الكنسيّة في أنطاكية لا تزال اليوم بحاجة إلى كثير وكثير من الأشياء كي تصبو لتكون على صورة سيّدها.

يقول القدّيس بوليكاربوس وهو أسقف أزمير في أوائل القرن الثاني: "اخضعوا بعضكم لبعض واسلكوا بين الوثنيّين سلوكًا لا عيب فيه لكي تجلب أعمالكم الصالحة الثناء لكم وكي لا يجدَّف على السيّد بسببكم" (رسالته إلى أهل فيليبّي 12: 3).

هذا ما يقودنا إلى التساؤل: هل لا يجدَّف اليوم على السيّد في كنيستنا الأنطاكيّة بسببنا؟ إذا كنّا ننظر إلى أنفسنا كجمعيّة فالكنيسة ليست بحاجة إلى جمعيّات. وإذا كان همّنا الأوّل هو الاهتمام بالأطفال فثقوا أنّ هناك الكثير ممّن يمكن أن يهتمّوا بهم. ما أخشاه أن تكون توجّهات كهذه قد غيّبت عنّا، بشكل ما، منطلقنا الأساس ومحبّتنا الأولى وكلاهما مبّرر وجود حركتنا. أقول هذا الكلام وأنا أعي حجم التحدّيات التي تواجه الشهادة المسيحيّة في عالم يبتعد اليوم، في واقعه، عن الالتزام بيسوع المسيح. واقعنا اليوم يشابه، إلى حدّ بعيد، واقع المسيحيّين الأوائل – باستثناء حالتَيّ الاضطهاد والاستشهاد – فهل نحن اليوم قادرون على مواجهة هذا الواقع على شاكلة المسيحيّين الأوائل وتاليًا تقبّل هذه التحدّيات وما تقتضيه من تغيير في توجّهاتنا الأساسيّة في كلّ فرع ومركز لنكون مؤهَّلين للشهادة باسم يسوع المسيح؟ رجائي أن نكون كذلك وإلّا فالكنيسة سوف تكون بغنى عن هذه الحركة.

علينا أيّها الأحبّة أن نخرج من الغرق في الدفاع عن الإنجازات وتقويم الماضي علينا أن ننظر إلى المستقبل متطلّعين إلى ما هو مرجوّ منّا لنكون أمناء لمنطلقاتنا ومحبّتنا الأولى. ولذلك سأحاول أن ننظر إلى حاضرنا وإلى هذا المستقبل من خلال ثلاث مطلّات أساسيّة:

المطلّة الأولى:

الحركة هي ميثاق مع الله والأخوة:

خوفي، على هذا الصعيد، أن تكون المجلّدات والنصوص في المكتبات التي تجمع الأدب الحركيّ أقوالاً للاستشهاد فقط وليست للعيش. خشيتي أن يكون الأدب الذي يتكلّم على الحياة في المسيح شعرًا لا جهادًا وفعلاً وممارسة مع الأخوة. قلقي أن لا يكون أحد منّا مستعدًّا للمحاسبة كلّ حين، وأن لا نكون عائلة واحدة متشاركة، وأن تكون تسميتنا بعضنا لبعض بالأخوة هي مجرّد وهم نحياه. الأمر الذي يخرجنا من هذا القلق هو أن نجدّ ونفتّش عن المسيح في كلّ مواقع سكناه. في الصلاة الفرديّة والجماعيّة وتأمّل الكلمة وعيش الأسرار. في محبّة الأخوة وحياة الشركة وخدمة الكلّ. دعوتنا هي أن نعيش بحسب ما يقوله القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ: "إقتدوا بالمسيح كما اقتدى هو بأبيه" (رسالته إلى فيلادلفية 7: 2). و"افعلوا كلّ شيء ليسكن هو فينا ولنصبح نحن هياكل له" (رسالته إلى أفسس 15: 3). "فأنتم جميعًا رفقاء طريق حاملو الإله وحاملو الهيكل وحاملو المسيح" (رسالته إلى أفسس 9: 2).

إذا أردنا أن نكون هكذا في الحركة علينا أن نتدرّب معًا للعيش بنوع من الميثاق مع الله والأخوة، فنكون فريقًا واحدًا، تحكم بيننا المحبّة، لا القوانين ولا المساومات ولا الديمقراطيّة. لأنّ هناك من صلب من أجلنا والصلب ثمرة محبّته.

نحن مدعوّون إلى العيش وفق قانون للحياة في المسيح. وأنا أفضّل هذا التعبير على مصطلح "الحياة الروحيّة" الذي ساد في أدبنا الحركيّ فترة من الزمن. نحن مدعوّون إلى أن نكون مرتا ومريم في آن واحد. علينا أن نفتّش عن المسيح في كلّ مكان وفي كلّ المواهب ومع الكلّ. علينا أن نترجم التزامنا هذا القانون ملاقاة لوجه الآخر وذكرًا لله وصلاة وشكرًا في كلّ موقف من مواقف الحياة، لأنّ هذا ما يعطي برنامجنا وسعينا للمعرفة بُعدهما التجسّديّ.

انطلاقًا من هذه المفاهيم نستطيع أن نتكلّم على الإرشاد والعضويّة في الحركة. فلا ينحصر دور المرشد في التعليم فقط بل في التلمذة على الحياة في المسيح أوّلاً عبر حياته هو على هذ المنوال. كما يجب أن يتميّز دور العضو بالسعي إلى التتلمذ على هذه الحياة وترجمتها شهادة في وسط الأخوة والمحيط لكون الموضوع يتخطّى كلّ أشكال الانتخاب والأبعاد الإداريّة. فالقدّيس باسيليوس الكبير، مثلاً، يرفض الانتخاب بين الأخوة لأنّ مواهب الشخص هي التي يجب أن تفرضه على الأخوة، فتجعلهم يلاحظونه ويطلبون منه التمرّس في المسؤوليّة.

مدخلنا إلى هذا أن تكون الفرقة الحركيّة مختبرًا للحياة في المسيح ومعه التي ممّا لا شكّ فيه تقتضي درسًا ومعرفة فكره وترجمته عيشًا. ومدخلنا أيضًا أن نفعّل سرّ الاعتراف والمصالحة والأبوّة، لأنّه من دون التوبة لا وجود لمسيرتنا. وبالتوبة فقط نلامس أيضًا ثقافة مرجوّة في عالمنا هي ثقافة المحبّة متماهين بالعديد من القدّيسين الأوائل والمعاصرين ومن هؤلاء مثلاً الراهبة اليونانيّة الأم غبريللا التي توفّاها الله العام 1992 والتي عاشت في عصرنا بمقتضى هذه الثقافة عبر محبّتها للإنسان، كلّ إنسان، وخدمته، عبر تشديدها على أهمّيّة الصمت في حياة الإنسان وسماعه للآخرين.

المطلّة الثانية:

الحركة خادمة لوحدة شعب الله:

من هذا المنطلق نطلّ على هموم كنيستنا. تكلّمنا كثيرًا في أدبنا الحركيّ على واقع الشرذمة، على صعيد الفكر والرؤية، الذي يسود واقعنا الأنطاكيّ اليوم ومنذ زمن. من دون الحاجة إلى التذكير أيضًا بحال التفرّد السائدة وقلّة عدد الذين يفكّرون ويعملون كأعضاء في الجماعة. حاجتنا اليوم هي إلى الخروج من حال الكلام إلى حال الفعل، فقد آن الأوان كي نسعى إلى هدم الجدران القائمة بين الأفراد والجمعيّات والمؤسّسات والرهبنات والأبرشيّات، والقائمة، في داخل الحركة، بين الفروع وبينها وبين المراكز وبين المراكز والأمانة العامّة، فنطلق ثقافة الحوار في سعي لبلورة رؤية جماعيّة واحدة.

لا يكمن الخطأ في حالة الاختلاف بالرأي في إطار الجماعة الواحدة. لكن الخطر أن يخاف كلّ منّا الحوار والانفتاح ممّا يقوده حتمًا إلى رفض الآخر أو عدم قبوله. نحن نعي جيّدًا أنّ هذا الخطر قائم منذ زمن قايين وهابيل. ولكن يبدو لي أنّه يتّسع في أيّامنا هذه في ربوع أنطاكية. لا بدّ إذًا من تفعيل حلقات الحوار حول مختلف أمورنا الكنسيّة، وأرجو أن يكون لمعهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ دور بارز في هذه المسيرة. كما لا بدّ من التذكير، في هذا السياق، بأنّ التخوّف من الحوار يقوم فقط عندما لا نكون محصَّنين بالربّ يسوع.

على صعيد آخر أتساءل اليوم عن دورنا في توعية الشعب الكنسيّ حول آفاق هويّته الكنسيّة. فكم يعي شعبنا أنّه أمّة مقدّسة وكهنوت ملوكيّ، وهو بهذا المعنى، مدعوّ لكي يكون مشاركًا في هموم كنيسته لا متفرّجًا عليها. علينا أن نوضح للشعب العمق اللاهوتيّ لمفهوم المشاركة الذي يصل إلى حدّ أنّ الكاهن لا يمكن له القيام بالذبيحة الإلهيّة وحده، وكذلك لا يمكن للعلمانيّ، مهما علت مواهبه، أن يكون في الكنيسة خارج شركة الأسقف والكاهن.

لذلك نحن نرفض الفصل، في حياة الكنيسة، بين إكليريكيّين وعلمانيّين. وتجدر الإشارة إلى أنّ الكلمة الأخيرة لم ترد قط في الكنيسة الأولى التي لم تتحدّث سوى عن أعضاء شعب الله من دون تفرقة علمًا أنّها كانت تتميّز، بصراحة، المواهب والخدم. من هنا نقول إنّه من العار علينا أن نحصر دور العلمانيّ بالأمور الإداريّة والمادّيّة ودور الإكليريكيّ بوجوه ما نسمّيه الحياة الروحيّة. وتجسيدًا لرفضنا هذا نلتقي اليوم بهذا الحماس ومن مختلف المناطق، إكليريكيّين وعلمانيّين، للبحث معًا في جوانب الحياة الكنسيّة كافّة. فلا بدّ إذًا من إعادة تفعيل المجالس والقوانين على نحو يكرّس هذا التوجّه.

إضافة إلى هذا فكثيرة هي وجوه التعبير عن وحدة شعب الله. أوّلها وأهمّها أن تواكب صلاة الجماعة هموم الكنيسة ومشاكلها، بخاصّة عند استحقاق اختيار الأساقفة، ليأتينا أساقفة يعيشون بحسب قلب الله. لكنّنا لا نستطيع أن نغيّب وجوهًا أخرى كانت بارزة في تاريخنا الأنطاكيّ واضمحلّت صورتها شيئًا فشيئًا. علينا أخذ المبادرة لكي ندعم وحدة الكرسيّ الأنطاكيّ في الوطن والمهاجر وبخاصّة على صعيد الشباب. لا بدّ لنا أيضًا من أن نفعّل مجدّدًا الحوار والتفاعل مع شباب الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة (أرمن، أقباط، سريان) في منطقتنا العربيّة لنخفّف شيئًا فشيئًا من مظاهر البُعد القائمة بيننا اليوم. كما لا بدّ من إعادة تفعيل الحوار مع شباب الكنائس الأرثوذكسيّة سعيًا للحدّ من الخلافات القائمة التي تعثّر كلّ من ينظر إلى كنائسنا من الخارج. من هنا ضرورة تفعيل متزايد للدور الذي تقوم به الحركة داخل سندسموس. ولا بدّ أخيرًا من أن نطلّ على باقي المسيحيّين بصورة ولغة قادرتَين على استقطاب الشباب والشهادة المشتركة ليسوع المسيح بلغة اليوم في عالمنا اليوم.

المطلّة الثالثة:

الحركة مذكّرة دائمًا بالمحبّة الأولى:

فالويل لي إن لم أبشّر ولم أتحرّك لأجعل من لغتي بشارة يتفهّمها أبنائي والآخرون لتكون جسر تواصلهم مع يسوع المسيح. مدخلنا اليوم إلى هذا التحرّك هو أن نجعل من لغتنا الطقسيّة لغة مفهومة من شعبنا. إنّ الله، من دون شكّ، قد أنعم علينا بليتورجيا بيزنطيّة رائعة. لكنّ الكثير من التراكمات التاريخيّة عبر العصور قد أسدلت عليها بحيث غيّبت عنها، بعض الأحيان، جوهرها الأساس، وبات من الصعب على شعبنا اليوم أن يطال هذا الجوهر من خلالها. علينا أن نسعى إلى إزالة هذه التراكمات لنجعل من لغتنا الطقسيّة لغة حيّة تدخل شعبنا عمق الليتورجيا الكنسيّة بحيث تفعل في واقعه وهمومه اليوميّة وترفعه إلى ملاقاة الربّ.

شعوري أنّنا نتلهّى اليوم بأمور أقلّ أهمّيّة ممّا هو مطلوب. فلماذا، مثلاً، لا نبتكر أساليب بشاريّة جديدة لنقتحم عبرها من لا يأتي إلينا بدلاً من أن نتزاحم على من يأتي إلى الكنيسة. نحن اليوم أمام تحدّ كبير وهو أن نجلب أبناءنا إلى الحياة الكنسيّة من أماكن ربّما هي أبعد ما يكون عن رعايانا. ولكي نصل إلى هذا المبتغى لا بدّ لنا من الإجابة بوضوح عن بعض التساؤلات التي يمكن أن تكون مشكّكة وتشكّل عائقًا في وجه تحقيق هذا الهدف ومنها:

ما هو موقفنا من علاقة الكنيسة بالمال وهل نقبل أن تكون نظرتنا إلى المال وعلاقتنا به نظرة وعلاقة مع إله؟

هل ينبض الروح في مؤسّساتنا الكنسيّة الاجتماعيّة والتربويّة القائمة؟

هل الفقير سيّد في أوساطنا؟

هل في تراثنا الكنسيّ ما يستهوي الآخرين، بخاصّة على صعيدَيّ الأدب والفنّ؟

هل نطلّ على المبدعين والمفكّرين والأدباء والفنّانين في هذه الديار لنحاورهم انطلاقًا من إيماننا بأنّ يسوع المسيح هو مصدر كلّ إبداع؟

باعتقادي أيّها الأخوة أنّ الإجابة عن هذه التساؤلات والتفاعل معها هي السبيل إلى الانفتاح على الآخرين وإطلاق عمل الروح فينا وفيهم. فلنكن إذًا في يقظة لنستجيب لنداءات الروح متى وحيث يشاء هو أن يهبّ.



[1]  كلمة الأمين العامّ التي أُلقيت خلال المؤتمر الثالث والثلاثون للأمانة العامّة، فتقا، دار سيّدة الجبل، 22 – 24/11/2002.

المشاركات الشائعة