الأرثوذكسيّة والتحدّيات العشرة[1]

 تعريب ريمون رزق

النور - العدد السادس 2010


منذ نحو عام، انتخب كيرللس الأوّل بطريركًا على موسكو وكلّ الروسيا، وإيرونيموس الثاني رئيس أساقفة لأثينا، ودانيال بطريركًا على رومانيا وإيروناوس بطريركًا على صربيا، إنّه جيل جديد من المسؤولين المنفتحين على الحوار المسكونيّ، ويفترض فيهم مساعدة الأرثوذكسيّة على تخطّي التحدّيات التي تواجهها في عالم اليوم.

روسيا: التبشير الداخليّ والانفتاح على الآخرين:

خارت قوى الكنيسة الأرثوذكسيّة في روسيا خلال النظام السوفياتيّ، لكنّها اسعادت عافيتها بفضل جهود البطريرك ألكسي الثاني، ثمّ كيرللس الأوّل المنتخب العام 2009. خلال هذه السنوات العشرين، ازداد عدد الرعايا أربعة أضعاف وعدد الأديار بخمسة وأربعين ضعفًا. رغم ذلك، يبقى الوضع هشًّا، لأنّ عدد الكهنة البالغ 30,000 لا يكفي لتلبية حاجة الشعب الروحيّة، كما أنّ نسبة ممارسة الطقوس لا تزيد على 2٪. الكنيسة الروسيّة، التي غالبًا ما اضطرّت في الماضي القريب إلى الانزواء، تنفتح شيئًا فشيئًا نحو الغرب، مع أنّها تنتقد نزعة العلمنة فيه. ومع افتتاحها معهدًا أرثوذكسيًّا روسيًّا جديدًا للاهوت في فرنسا، ربّما ترغب في تنشئة جزء من إكليروسها في إطار أوروبّي معلمن؟

أوكرانيا: إعادة الوحدة الداخليّة

في أوكرانيا، الكنيسة الأرثوذكسيّة منقسمة منذ العام 1991 إلى ثلاث مرجعيّات: الكنيسة المستقلّة المنبثقة من الشتات، الكنيسة ذات الإدارة الذاتيّة والتابعة لبطريركيّة موسكو والتي تحوي غالبيّة الروس، وبطريركيّة كييڤ المنشقّة عن موسكو. في آب، الرئيس الأوكرانيّ فيكتور إيوتشينكو، المؤيّد لكنيسة وطنيّة مستقلّة عن موسكو، دعا إلى وضع حدّ لهذا الانقسام. من جهته البطريرك كيرللس الأوّل بطريرك موسكو وكلّ الروسيا، أكّد أنّ الأرثوذكسيّة الأوكرانيّة تنعم أصلاً بهذه الاستقلاليّة مشيرًا إلى أنّ كنيسة أوكرانيا تحظى بإدارة ذاتيّة واسعة ضمن الكنيسة الروسيّة. منذ تشرين الأوّل المنصرم تحاول مجموعة عمل امتصاص هذا الخلاف.

وقد بشّر مؤخّرًا البطريرك المسكونيّ بقرب إعادة الوحدة بين هذه الكنائس.

رومانيا وبلغاريا: التخلّص من رواسب النظام الشيوعيّ

بعد دخول هذَين البلدَين في السوق الأوروبيّة المشتركة العام 2007، أخذت كلّ من البطريركيّة الرومانيّة والبطريركيّة البلغاريّة، التي عانت الكثير من النظام الشيوعيّ مع ما قاسته من المساومات، طريقًا مختلفًا للتخلّص من أوزار الشيوعيّة وللانخراط في أوروبا. في رومانيا، أبرز انتخاب البطريرك دانيال، العام 2007، رغبة الكنيسة في تخطّي هذه المرحلة بالانفتاح على الحوار المسكونيّ والحياة العصريّة، من دون التخلّي عن التقليد الأرثوذكسيّ. أمّا في بلغاريا، فالكنيسة ما تزال منقسمة منذ انشقاق بعض المطارنة السنة 1992 الذين لاموا البطريرك مكسيموس البالغ من العمر ما يزيد عن الـ95 عامًا لعلاقته بهذا النظام.

وقد زال مؤخّرًا هذا الانشقاق.

صربيا: الانفتاح على أوروبا

مواقف الكنيسة الصربيّة حول أوروبا ومشكلة كوسوفو حاسمة في بلد تختلط فيه القوميّة بالأرثوذكسيّة. يلحظ المجتمع الصربيّ حيث 80٪ من السكّان أرثوذكس، بدءًا لتأثير العلمنة والبعض يريد من الكنيسة أن تتمحور أكثر حول دورها الروحيّ. وانتخاب البطريرك إيريناوس، في الثاني والعشرين من كانون الثاني المنصرم، اعتبر علامة إيجابيّة. فهو مؤيّد للاندماج في أوروبا، ويخطّط للقاء مسكونيّ موسّع مزمع عقده في نيس جنوب شرق بلغراد العام 2013. ويأمل البعض من الكنيسة أن تقوم بخطوة مصالحة مع المسلمين والكاثوليك في البلقان، وذلك لنسيان الصفحة الدامية من النزاع اليوغوسلافي.

اليونان: العلاقة بين الكنيسة والدولة

رئيس أساقفة أثينا إيرونيموس الثاني، المنتخب العام 2008، لا ينهج نهج سلفه خريستوذولوس في التدخّل بالحياة السياسيّة. إنّه يعطي الأولويّة للعمل الاجتماعيّ. لذلك اتّخذ بعض الخطوات الحاسمة مثل عدم بناء كاتدرائيّة جديدة في أثينا، وعزل اثنين وخمسين كاهنًا تغيّبوا كثيرًا عن رعاياهم. وإزاء الحكومة الاشتراكيّة، التي تسعى إلى الاستفادة من الفضائح الماليّة التي تلطّخ الكنيسة، لتفرض فصلاً بين الدولة والكنيسة، قَبِلَ رئيس الأساقفة بزيادة الضرائب المترتّبة على الكنيسة ثلاثة أضعاف بغية مساعدة الدولة في أزمتها الاقتصاديّة. وافتتح مفاوضات حول تعاون الدولة والكنيسة بشكل "نزيه وشفّاف"، كما قال، في القضايا الاجتماعيّة.

القسطنطينيّة: الخلاف مع السلطات التركيّة

خالكي: وضع هذا المعهد اللاهوتيّ وحده يكفي لوصف العلاقة المتأزّمة بين الكنيسة الأرثوذكسيّة والسلطات التركيّة. افتتح هذا المعهد العام 1844، وكان من أهمّ مدارس اللاهوت في العالم الأرثوذكسيّ قبل أن تصدر السلطات التركيّة أمرًا بإقفاله العام 1971. العلمانيّة التركيّة تصمد أمام الضغوط الغربيّة، التي تسعى لإعادة فتح هذه المؤسّسة، التي يشكّل غيابها معضلة. يفرض القانون التركيّ أيضًا أن يكون البطريرك مواطنًا تركيًّا، ولد وتربّى في تركيا، ولا يقبل أن تطلق عليه صفة البطريرك المسكونيّ. وهذه ليس المشاكل الوحيدة التي على البطريرك المسكونيّ مجابهتها، إذ عليه أن يتصدّى أيضًا للتعدّي على ممتلكات البطريركيّة الكثيرة.

بطريركيّة أورشليم: الانقسام بين اليونان والعرب

في السادس من كانون الثاني، لمناسبة عيد الميلاد عند الطوائف الأرثوذكسيّة الشرقيّة، استقبل أرثوذكس بيت لحم البطريرك ثيوفيلوس الثالث، بشيء من العداوة إلى درجة اضطرّت معها الشرطة الفلسطينيّة إلى حماية البطريرك، الذي يلومه المؤمنون على بيعه الأراضي التابعة للبطريركّة، التي تشكّل أكبر أملاك الأرض المقدّسة. وكان قد انتخب ثيوفيلوس بطريركًا السنة 2005، بعد خلع سلفه البطريرك إيريناوس المتّهم آنذاك ببيع أراض لإسرائيل، ولكن المشكلة ما زالت قائمة، وتعزّز الخلاف القائم بين الرعيّة العربيّة والسلطة الكنسيّة اليونانيّة في أغلبيّتها.

أنطاكية: التعايش الإسلاميّ – المسيحيّ

في كانون الثاني 2006، أعرب غبطة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، أغناطيوس الرابع، عن أسفه لما نتج من التدخّل الأميركيّ في العراق من خلل في التوازن الطائفيّ في الشرق الأوسط. كما أبدى في تشرين الأوّل من السنة ذاتها، قلقه من تصريح قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في راتيسبون، بشأن الإسلام واستعمال القوّة. وكانت هذه التصريحات ضروريّة، إذ تقف البطريركيّة الأنطاكيّة في طليعة المحاورين للإسلام في منطقة تسودها العصبيّات الطائفيّة. المسيحيّون الأنطاكيّون يريدون الحوار مع المسلمين من الندّ إلى الندّ بفعل الهويّة العربيّة الواحدة. هم يسعون إلى استثمار تقليدهم المسيحيّ بهدف تجديد فكرهم والمجتمع، إذ لا يريدون قطعًا العيش في "غيتوهات" مسيحيّة.

بطريركيّة الإسكندريّة: تبشير إفريقيا

بطريرك "الإسكندريّة وسائر إفريقيا" لقب ليس شرفيًّا فقط، فالبطريرك السابق بطرس السابع آمن بأنّ الروحانيّة الأرثوذكسيّة يمكن أن تلامس الروح الإفريقيّة، فأطلق حركة تبشيريّة واسعة عبر القارّة السوداء، مشجّعًا الإكليروس المحلّيّ وإقامة الطقوس باللغات المحلّيّة. البطريرك الحاليّ ثيوذوروس الثالث، كان من قبل مطران الكاميرون، ثمّ زيمبابواي، وهو يتابع هذا الجهد في إفريقيا إضافة إلى عمله في مصر حيث يعيش ثلاثمائة ألف أرثوذكسيّ. والكنيسة تنمو بشكل مضطرد، إذ تمكّنت في العام 2007 من إعادة فتح معهد الإسكندريّة اللاهوتيّ.

أوروبا الغربيّة: إعلان كنيسة محلّيّة

الحضور الأرثوذكسيّ في أوروبا الغربيّة مرتبط بهجرات القرن العشرين. كلّ جماعة بقيت متعلّقة بكنيستها الأمّ. هذه الروابط أدّت إلى تعدّد الأسقفيّة في المكان الواحد التي تنافي القاعدة التي تقول بأسقف واحد في مكان واحد.

الأرثوذكس الغربيّون تزداد رغبتهم، أكثر فأكثر، في تشكيل كنيسة محلّيّة واحدة. لكنّ الكنائس الأمّ، التي تواجه مشاكل عدّة بعد سقوط النظام الشيوعيّ (بالنسبة إلى الكنائس السلافيّة) أو التي تعاني وضعًا سياسيًّا دقيقًا (كالكنائس في الشرق الأوسط) لا تعتبر تنظيم الشتات من أولويّاتها، وفي الوقت عينه هي لا تتخلّى عن هذه الجماعة المهاجرة، لكونها في أغلب الأحيان تساهم مادّيًّا في إنعاش كنائسها الأمّ.



[1] نشرت مجلّة La Croix الفرنسيّة المقال التالي في 27/7/2010، وقد نقلناه إلى العربيّة لأنّه مفيد، مع كونه ناقصًا ولا يعبّر عن مشاكل الكنائس كافّة وعن إيجابيّاتها، لنفهم كيف نظر إلينا الآخرون، عسانا نقوّم الأخطاء إن صحّ وجودها..

المشاركات الشائعة