رسالة الأمين العامّ - ميلاد 1999


ريمون رزق 1999


"المسيح ولد فمجّدوه، المسيح أتى من السموات فاستقبلوه..."

 

ها نحن أولاء على أعتاب الميلاد، فسنشارك بعد أيّام في مولد المسيح؛ سنرى بأعين الإيمان سرّ المحبّة الإلهيّة يتجدّد أمامنا، حتّى أنّ الإله يبذل ذاته بصورة "طفل ملفوف بقمط، ومضجع في مذود" (لو 2: 12).

لقد ظنّنا أنه يجمل بنا، بهذه المناسبة، أن نخشع سويًّا لنقوم معًا باستجلاء ضميرنا وفحص وجداننا.

استحلف القدّيس غريغوريوس النزينزي رعيّته، وقد توجّه إليها واعظًا يوم عيد ميلاد، أن يبتعدوا عن العادات الوثنيّة، ولذا سمعناه يقول لهم: "لا نحلّينّ مداخل بيوتنا بالزين، ولا نرقصنّ. ولنمتنع عن تزيين شوارعنا. لا نمتّعنّ أنظارنا، أو نشنّفنّ آذاننا... لا عربدة ولا سكر... ولا نقيمنّ لإشباع البطون موائد عامرة بما لذّ وطاب... فلنزدرِ مفاتن الطبخ... ولنترك هذه الملذّات لليونانيّين... وأمّا نحن الذين نبجّل الكلمة، فإن كان لا بدّ لنا من ملذّات، فلنجدها في كلمة الله وفي ناموسه..."

فلنصغِ إلى هذه الكلمات بإمعان... إنّها موجَّهة إلينا نحن الذين نودّ أن نبجّل الكلمة. والذين نتذوّق ملاذ اليونانيّين، نحن الذين ندّعي أنّنا لسنا من العالم ونفرغ الجهد بنفس الوقت لئلّا تفوتنا أدنى ملاذه.

في مشاركتنا في عالم يرفع علم السهرات في أعياد الميلاد، ألّا نسهم نحن أيضًا، ونشارك في إفراغ أعيادنا الروحيّة من معناها، وفي إفقادها مدلولها الدينيّ.

يا للسخرية، ويا للخجل من ارتداد العالم عن المسيحيّة، ففي القرن الرابع، حينما أصبح الاحتفال بعيد الميلاد شاملاً، اختارت الكنيسة تاريخ الخامس والعشرين من كانون الأوّل جوابًا على أفراح أعياد الوثنيّة ومباهج الاحتفال بالاعتدال الشتويّ وتجلّي عيد الشمس مستبدلة هذا الأخير بعيد المسيح، شمس العدل ونور العالم. كان اهتمام الكنيسة في أن تقابل العيد الوثنيّ بعيد مسيحيّ وتضفي طابعًا مسيحيًّا على شعائر الدين الوثنيّة وسماته.

وها إن الطابع الدينيّ يتبخّر اليوم من جديد، فيعود المظهر الوثنيّ إلى الظهور، ويثبت وجوده بشكل بارز. ويحلّ الغريب المثير محلّ الروحيّ الهادئ، والإخراج الفنّيّ مقام التاريخ، والأشخاص والدّمى، مناب الأسرار... وها الميلاد المسيحيّ يغدو مجرّد فرصة للسمر الطويل، للهدايا توهب أو تؤخذ، ولجوّ فولكلوريّ عابق بأشجار الصنوبر والمغاور، تنحلّ فيه كلّ روحانيّة حقّة وتتحوّل إلى ميوعة عاطفيّة رخيصة.

أفلا تظنّون، والحالة هذه، أنّنا مدعوّون إلى بعث أزمنة الكنيسة الأولى؟ إلى استرداد ما استطاع العالم أن يغنم من مغانم؟ لقد توطّن المسيحيّون هذا العالم واطمأنّوا إليه أيّما اطمئنان. إنّهم يتصرّفون كبورجوازيّي النعمة يعيشون على ما كان لهم من رصيد الإيمان. من تُراه سيقرع ناقوس اليقظة؟ ما نفع هذه الحركة التي نحبّ ما لم تكن رافعة صوت البشارة؛ ماذا نصنع؟ ما علّة وجودنا إن لم نقصد أن نثور على استغلال النعمة هكذا؟ أليس علينا أن نكون روّاد انطلاقة جديدة وطليعة مسيرة جديدة نحو بيت لحم نبحث فيها عن مواجهة للمسيح فنخترق أخيرًا حُجب الشعائر لنصل إلى روحها، وإلى سرّ الميلاد؟

إنّ السير نحو بيت لحم لن يكون يسيرًا، إنّنا نعلم هذا أيضًا. لسنا كالرعاة الذين "أقبلوا مسرعين" (لو 2: 16) إلى المذود، لأنّ الرعاة كانوا ساهرين ومصابيحهم مضاءة لعلمهم بأنّ الختن يأتي ساعة ينتظره الناس، وبأنّ المسيح لا يكشف عن ذاته إلّا لرعاة يسهرون.

إنّ دربنا سيكون طويلاً وشاقًّا كدرب المجوس الذين أتوا من بُعد قصيّ يهتدون بالنجم. فلنحاول جهدنا من أقاصي شرقنا الخاص المنسوج بالمشاغل وباللامبالاة، وبالخيانات وبالشعائر الخالية من كلّ معنى. فلنجدَّ في اتباع الكوكب الذي بدا لنا، والذي ما زال يتألّق في الصحراء التي يحويها كلّ منّا في فؤاده.

الطريق طويلة، وكثيرة الصعاب، أن نقصد بيت لحم يعني أن نموت لذواتنا، وأن نذهب للقاء المحبّة؛ وما المحبّة إن صمّمنا مشاركتها إلا نار محرقة.. ولكن هذه الحجّة جديرة بأن نحجّها، فإنّه ربّما أُعطيَ لنا أن نصل إلى عتبة المزود، وعندها إذ نرى "الطفل مع مريم أمّه" (متّى 2: 12) نفعم قلوبنا "بفرح عظيم" (لو 2: 10).

الموضع غاص بالناس، إنّه على كلّ صغير، صغير. لذا سنضفر من أنفسنا ونصمت. دعنا نتأمّل المشهد قليلاً: إنّ هذا الوليد، هذا الفقير المضّجع في مذود "إذ لم يكن لهم موضع في النزل" (لو 2: 7)، هو ذلك المخلّص بالذات، "هو المسيح الربّ" (لو 2: 11) الذي بشّر به الملاك الرعاة. إنّه ذاك الذي تكلّم عنه أشعيا قائلاً: "ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمّانوئيل" (أشعيا 7: 14). "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا... لأنّه قد وُلِد لنا ولد، أُعطيَ لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه، ودُعيَ اسمه عجيبًا مشيرًا، إلهًا جبّارًا، أبا الأبد، رئيس السلام" (أشعيا 9: 2 و6).

من لا يرتعد ويرهب عمق سرّ كهذا "يا ربّ إنّي سمعت تعليمك فخفت، وتأمّلت أعمالك فارتعدت" (حبقوق 3: 2). إنّي أراك أنت يا من وُلِدت من الآب قبل كلّ الدهور، تُولَد من عذراء في الزمن. إنّي أراك تَلِجُ هذا العالم الذي صَنَعْتَه، وتتلبّس جسدًا فاسدًا متقبّلاً، محبّة بي، أن تصير إنسانًا، وتموت على الصليب لتفديني.

إنّي أتأمّل أعظم الأسرار مأخوذًا، مندهشًا. فالساكن في السموات نزل اليوم إلى الأرض ليدعو إلى السماء ساكني الأرض "... كيف افتقر من أجلنا، وهو الغنيّ، لكي نستغني نحن بفقره" (2 كو 8: 9).

إنّ التواضع يخلّص: أنا لا أفهم هذا إلّا برؤيتي إيّاك في مذودك مفكّرًا بعظيم التواضع الذي أتيت تتحمّله، بكأس المرارة الذي أتيت تتجرّعه، بالبصاق، بالإهانات، بالازدراء الذي استهدفت له. إنّ عقلي لا يستطيع أن يدرك مدى الاتضاع الإلهيّ. إنّني، على الأغلب، لا أفهم معناه إلّا فهمًا مبهمًا. أنا أعلم أنّ الله يتّحد بالطبيعة البشريّة لكي يرفع الإنسان إليه، وهذا حسبي حتّى أرفع "المجد لله في العلى" وأسأل أن يحلّ السلام الذي وعدت على الأرض "وفي الناس الذين أحببتهم".

أمام تجرّدك، أمام عريك، أفكّر يا مخلّصي بملايين الناس إخوتك الذين يقاسون الجوع، ويعانون البرد أو الموت أفكّر بالعديدين الذي يُضطَّهَدون، وأتحقّق أنّك إنّما جئت من أجلهم قبل الكلّ، وأنّك ظهرت كمخلّص لكلّ منهم، وأنّك غالبًا ما تجعل موطنك لديهم وتتّخذهم مسكنًا لك.

بودّي أن أذكرك هذا المساء بالذين لا يفكّرون فيك، بإخوتي الذين قد نسوك وعاشوا بدونك "اغفر لهم لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون" من أجلهم أيضًا أتيت. إنّهم لا يعرفون ذلك ولا يريدون تصديقه. أمّا أنا العارف بذلك فماذا تراني أصنع من أجل إقناعهم؟

إنّي آتي يا يسوعي وقد فنيت في تأمّل سرّك، وأطرح على قدمَيك الهدايا التي هي لي: كلّ المشاكل التي تتوزّعني، كلّ المسائل التي تعترض سبيل الحركة التي أنا منها، كلّ معضلات كنيستني التي فيها أصير مساهم جسدك... شكّ مفاجئ يخالجني، هاجس رهيب، هل من مكان لاستقبالك اليوم عندنا إذ تأتي؟ أليست فنادقنا، نحن أيضًا، مزدحمة وغاصّة بالنزلاء؟ هل في قلوبنا مكان تسند إليه رأسك؟

أشياء كثيرة تتقاسم قلوبنا: الصداقة، الأعمال، الحبّ، التبشير... أمن الممكن أن لا تبقى لك أنت زاوية؟ هل تحجّرت قلوبنا إلى هذا الحدّ: أدخل يا ربّ إليها وإن ضاق الفؤاد بمن به. وبما أنّك محبّة فلن تولَد لوحدك، إنّنا نحاول أن نولَد معك.

وبدلاً من أن نشهد أحداث المغارة ونعود إلى بيوتنا ناسين كلّ هذا، سنشارك في هذه الأحداث وعندئذ نفهم أنّ القضيّة بالنسبة لنا هي قضيّة ميلاد معك. إنّ مولدك لنا سانحة، وفرصة ميلاد جديد لنا، فرصة اتخاذ موقف جديد مصمّم، سانحة بعث وتجديد.

فلنجدّد إذن قرارات ولائنا، وتصاميم التزامنا التي غالبًا ما صمّمنا، وكثيرًا ما تركنا. فلنجدّد العهد بأن نكون أمناء مخلصين مهما حدث لهذا الطفل الآتي.

فلنعد صغارًا كما جعل نفسه صغيرًا، ولندرك أنّنا جميعًا تعوزنا البساطة، والضّعة والمحبّة. وأنّنا بعيدون كلّ البعد عن مشابهة الأطفال الذي لهم ملكوت السموات.

فلنعتزم الانسحاق، فلنعتزم أن نبذل ذواتنا كما بذل، ونمنحه كبرياءنا وأنانيّتنا وانغلاقنا، ولنصمّم على ارتداء سربال التواضع الأبيض الذي يفتح لنا أبواب العرس.

إن نحن آمنّا بدورنا كمسيحيّين، ونظرنا نظرة جدّيّة إلى التزامنا الروحيّ الحركيّ، وجدنا أن علينا أن ننسجم مع ذواتنا. فإذا ما تحسّسنا بأوجاع الكنيسة، والبلاد والعالم، وتألّمنا منها، صار لزامًا علينا قبول عواقب وجهة نظرنا، والاتضاء، في ميلاد المسيح، بنوع من الحياة هو قبل كلّ شيء موت للذات.

ولا يجوز لنا أن نرتاح إلى عيش لا هو بالحارّ ولا بالبارد طالما أخوتنا بحاجة إلينا، وطفل المغارة ذاته يدعونا إلى العمل.

ليست الحركة بالطبع للّذين لا ينوون نهوضًا من كبوة ولا استعداد لديهم لنكران ذاتهم ونسيانها، ذلك لأنّ المهمّة شاقّة، والطفل الوديع لم يأت وحده بل أتى معه بالصراع والجهاد، فعلينا بالتالي أن نختار ما بينه وين أعزّ الأشياء لدينا. وإنّي لأتساءل هل أمعنّا النظر كفاية في الفصل الإنجيليّ القائل: "دع الموتى يدفنون موتاهم، وأمّا أنت فاتبعني" (متّى 8: 22)؟.

قد يكون سبق لنا أن شعرنا بإلحاح جسدنا وعاطفتنا من جهة وبنداء المسيح بكليّتنا من جهة أخرى. وقد نكون رددنا آنئذ مع دستويفسكي: "يا مسيح إنّك أتيت لتزعجني".

نعم نحن أمام خيار نقوم به. أعتقد أنّنا، إذا أردنا الحصول على إيمان راشد مدرك فلا يسعنا أن نصطفي، ما عدنا أطفالاً، ونحن لا شكّ نفقه معنى هذه الكلمات "من ليس معي فهو عليّ ومن لا يجمع فهو يفرّق" (متّى 12: 30).

بما أنّنا وضعنا يدنا على المحراث، فينبغي أن نسير قُدمًا نحو لقاء بيسوع تزداد أصالته وحقيقته. بيسوع الذي يخاطبني، الذي يتّجه إلي، إنّه يعرفني. إنّه يحبّني، إنّه يودّني بالرغم من هناتي وضعفي. إنّه يعتمد على عملي، على ما أنجز، وعلى ما أهب... إنّني أسمع صوته. ومن منّا لم يسمع نداءه؛ نداءه المتواضع، الوقور لحرّيتنا، العذب، إنّه نداء الطفل.

في فترة الميلاد التي نجتاز، علينا أن نصغي لهذا الطفل، هذا الطفل الذي وقف على أبواب أرواحنا يقرع، أتُرانا سنجيبه؟ أتُرانا فاتحين له أبواب منازلنا، ومفسحين له فيها مكانًا؟ أم أنّنا سنستمرّ في صمّ آذاننا وإغلاقها، نكتفي في الحياة بتمثيل أدوارنا الهزليّة؟

فلنصلِّ من أجل بعضنا البعض لكي نبقى على محبّتنا الأولى.

   ميلاد 1999

أخوكم ريمون رزق

 

المشاركات الشائعة