الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الهند في القرن العشرين

 ريمون رزق

مجلة النور - العدد الرابع   1962 


القسم الأكبر من كنيسة الملبار استمرّ، بعد انشقاق كنيسة مار توما، على الاعتراف برئاسة بطريرك انطاكية السرياني الأرثوذكسي. وفي سنة 1910 نُكبت هذه الكنيسة بانشقاق جديد. ولكن هذه المرة بقي الفريق المنشق ارثوذكسياً إلا أنه رفض سلطة البطريركية الانطاكية وقرر اعتبار نفسه كنيسة مستقلة بإدارة كاثوليكوس. ونشبت مشاجرات محزنة بين أتباع البطريرك وأتباع الكاثوليكوس. ولكن العديدين من المؤمنين ناضلوا ضد هذا الانقسام الداخلي الذي يلحق الضرر بحياة الكنيسة ورسالتها. وأقيمت صلوات كثيرة وأبديت جهود مشكورة من أجل تقريب الجهتين وتألفت رابطة من أجل السلام وبعد بضع سنوات أي في عام 1959، في عهد صاحب القداسة البطريرك ما اغناطيوس يعقوب الثالث عاد السلام الى هذه الكنيسة الرسولية وتوحدت كلها معترفة ببطريركية انطاكية.

عقائدها: ولا شك في أن عجيبة حقيقية حصلت في هذه الكنيسة. فعلى الرغم من عزلتها الطويلة عن سائر الكنائس المسيحية وعلى الرغم من النوائب التي يحفل بها تاريخها، فقد استطاعت أن تصون أصالة إيمانها الرسولي. فهي تعترف بالمجامع المسكونية الثلاثة الأولى وتعتمد دستور الإيمان النيقاوي بدون زيادة "والإبن". فيما يتعلق بمجمع خلقيدون تعتقد هذه الكنيسة أن جميع المناظرات كلامية أكثر مما هي لاهوتية. وتؤمن أن "طبيعتي ربنا الإلهية والانسانية تتحدان بلا انقسام ولا اختلاط ولا امتزاج ولا تبلبل في أقنومه الواحد" (1) وتمارس الأسرار السبعة بالطريقة المتبعة في الكنيسة الأرثوذكسية. وهي تستعمل الليتورجيا المنسوبة الى يعقوب أخي الرب.

 الصوم، شفاعة القديسين وخاصة والدة الإله، الصلاة من أجل الأموات وغيرها من التقاليد، تتفق فيها الكنيسة السريانية مع جميع الكنائس الشرقية. وتسمح بزواج الكهنة ولكنها تختار الأساقفة من الرهبان الممارسين الحياة الرهبانية فقط. ويقضي الاكليريكي حالياً في مدرسة اللاهوت سبع سنوات أو ثماني على أقل تعديل قبل سيامته.

تأثير البيئة على الكنيسة

ولا ننسى أن هذه الكنيسة تأثرت ببعض العادات الهندية التي جلبت لها نفعاً كبيرة ولكن ليس بدون بعض الأضرار.

 فمثلاً حافظوا على اللغة السريانية لغة الليتورجيا في حين أن الشعب لا يهفهما. وهذا مقتبس من الهنود الذين حافظوا على استعمال اللغة السنسكريتية التي لا يفهمها إلا حفنة قليلة من الشعب واكتفت بقية الشعب الهندوسي – وهي الكثرة – بالتعليم الشفهي، معتمدة على الرسوم والتماثيل وعلى إيحاءات الرقص المقدس (2).

 كان أساقفتهم، ومعظمهم غرباء، لا يختلطون بالشعب. هكذا كان الحكماء الهنود الذين لم يكونوا دائماً خطباء فصحاء، إنما ظهروا، خاصة، كشخصيات نسكية صامتة تتميز بسلطان خاص. ولحسن الحظ أن الكنيسة السريانية تخلصت من هذا التأثير في السنوات الأخيرة. وفي الواقع فإن أساقفة الكنيسة، حالياً، يتميزون ببساطتهم وصفاء احتكاكهم برعاياهم.

وهناك أيضاً المفهوم العائلي الحاد الذي أثر في حياة الكنيسة والحق بها أضراراً كثيرة. وهكذا أغلقت أبوابها في وجه الذين يطلبون الدخول فيها وخاصة إذا كانوا من طبقات أدنى.

ولكن كل هذا يتعلق بالماضي ومن هي الكنيسة، أية كنيسة في العالم، التي لم تتأثر بتقاليد البلاد والتي لم تتعرض للخلط بين التقاليد والتقليد الشريف؟ إلا أن كنيسة الملبار قدرت أن تصون محبة صحيحة للمسيح في شعبها بواسطة ليتورجيتها الغنية. وبواسطة الليتورجيا وفيها، حافظت بدون تحريف على ما هو أصيل في عقيدة الرسل والآباء بفضل إرشادات الآباء الذين أرسلتهم البطريركية السريانية منذ القرن السابع عشر وحتى اليوم. ومن واقع هذا الاستمرار وهذه الأمانة في العقيدة، تنتج مسؤولية كبرى على كنيسة الملبار الارثوذكسية. والكنيسة تعي أكثر فأكثر هذه المسؤولية.

من نشاطاتها:

1 – مدارس ثانوية وابتدائية كثيرة

2 – دار معلمين

3 – مدارية أحدية في أكثر من مايتي رعية تشرف على تنظيمها وتسهر على نشاطها لجنة خاصة.

4 – العمل التبشيري مضطرم وينتشر في أكثر من تسعين مركزاً

-جمعية "خدام الصليب" تأتي عملاً رائعاً. وقد ربحت في العشر سنين الأخيرة أكثر من عشرين ألف نفس خاصة من طبقات المجتمع الدنيا الذين لا طائفة لهم. ولم تحرمهم الامتيازات والحقوق التي يتمتع بها أعضاء الكنيسة الآخرون.
-تحاول "الجمعية الانجيلية" استمالة المؤمنين وترغيبهم في ضرورة التبشير.
-راهبات دير جبل ثابور يساعدون في العمل التبشيري خاصة في الصلوات ومساعدة الفقراء.

 5 – دير جبل ثابور للرجال يشرف على إدارة مياتم ومآوي عجز ودور أطفال مع أنه مؤسس خصيصاً من أجل الصلاة والحياة التأملية.

6 – "جمعية القديسة مريم" تنصرف إلى نشر الإيمان الارثوذكسي وممارسته بين نساء الكنيسة.

7 – جمعية القديس جاورجيوس تهيء الشباب للعمل المسؤول في الكنيسة وتشجع حركة الشبيبة الواسعة الانتشار.

المشكلة الكبرى: تنصير الهند

وإذا أضفنا الى كل هذه النشاطات الميل المتزايد الى استعمال المليالم – اللغة المحلية – في الصلوات – نقدر على القول بأن الكنيسة السريانية الارثوذكسية في الهند الجنوبية، تبرهن عن حيوية كبيرة وتستعد لمجابهة المشاكل المستعصية بروح ايجابية فعالة، تلك المشاكل الناشئة عن تنصير البلاد. وهي تعي واجباتها، بالاتفاق مع سائر الكنائس الارثوذكسية، أن تقدم الجواب على انتظار الشعب الهندس الذي "يحن الى الارثوذكسية متوجعاً" كما قال لي أحد الكهنة الانكليكان المقيم في الهند.

عندما نتناول العقلية الهندية نلاحظ أن الهندي معجب إجمالاً بالمسيح. ولكنه لا يرى مبرراً أن يصير مسيحياً. انه ينجذب لشخصية يسوع، بحياته وتعاليمه ويرى فيه تلقائياً، تجسيداً لله مثل بوذا وكريشنا... أما الصعوبة فهي في إقناعه بأن يسوع هو التجسد الأوحد. يقول راما كريشنا (1836-1886) وهو رجل كبير الروحانية: "نأمل المسيح الذي أهرق دم قلبه من أجل فداء العالم والذي تحمل كثيراً من القلق حبّاً بالبشر. وهو السيد المتحد أبدياً بالله. هو يسوع "الحب المتجسد". ولكن هذا لا يمنعه من القول في موضع آخر: "أرى في كل مكان أناساً يتخاصمون بإسم الدين... ولكنهم لا يدركون أن الذي اسمه كريشنا أيضاً اسمه شيفا، ويسمى أيضاً القوة الأولى، يسوع أو الله! تماماً مثل "راما" وأسماؤه العديدة".

الصعوبة الكبرى متأتية من قدرة الهنودس على التميُل. يعتقدون أن الديانة الهندوسية تحتوي على حكمة وعلى نور بمقدار ما في المسيحية. إنهم يجسدون محاولة "التوفيق بين المبادئ المتباينة" Syncrétisme.ليس من دين غريب. كل الاعتقادات يباركونها ويتبنونها على طريقتهم. يعتبرون أن "ليس من ديانة أكبر من الحقيقة". يقول راما كريشنا: "إن جميع الديانات تتوجه نحو إله واحد، الله الواحد ولكن بطرق مختلفة".

من جهة ثانية ينزعج ضمير الهندي من جراء الشيع المسيحية التي تنشر عنده بشارة الانجيل. فعمل تنصير الهند شاق جداً. حالياً عدد المسيحيين، من كل الفئات، لا يتجاوز 2% من مجموع السكان أي ما يقارب 10 ملايين. وعلى هذه الضآلة في العدد فإنهم منقسمون الى كاثوليك بابويين، انكليكانيين، سريان ارثوذكس، مسيحيين من كنيسة مار توما ومختلف الشيع البروتستانتية.

في هذه التشكيلة من الانقسامات، تتمتع الكنائس القديمة في الملبار بمركز ممتاز. وفي الواقع فإن الكنائس القديمة ليست غريبة ولا هي مرتبطة ضمنياً بالسلطات الاستعمارية. أما الكنائس الحديثة، فإنها متهمة بمساعدة الاستعمار لها. هذه الكنائس القديمة لا تجد صعوبة في تقديم مسيحية هندية للجماهير غير المسيحية، مسيحية تفهمها العقلية الهندية، تعتمد الى حد ما، طرق التفكير التي ليست غريبة على الفكر الهندي.

 مأساة الارساليات الأجنبية في الهند، كما هي في كل مكان اجمالاً، إنها تفرض على سكان البلاد الأصليين نمطاً للحياة غريباً عنهم، وتعبيراً لاهوتياً لا يتجاوب دائماً مع منطقهم الروحي.

وإذا لم يكن من السهل تقديم الافتراضات أو التمنيات، فإنه يحق لنا أن نقول: ان الكاثوليك ومن بعدهم الانكليز لو لم يتعلقوا بتبشير المسيحيين القدماء وكنيستهم الى صفوفهم، بل لو أنهم ساعدوهم فقط على تدعيم ذواتهم على الأسس الروحية الذاتية، إذن لكانت الهند أقرب إلى سماع صوت مسيحية واحدة آتٍ من الأمة الهندية نفسها. كانوا تجنبوا هذا الانقسام المخجل في بلد يريدون كسبه للمسيح.

جميع الذين اشتركوا في مؤتمر الكنائس العالمي في دلهي الجديدة، أحسوا وجودياً مأساة الانقسامات وازدادوا ألماً وحسرة. هذه المأساة لا يحسها الهنود فحسب بل يعيشونها في كل لحظة ويرمون ثقلها على صلاة المخلص: "اجعلهم واحداً ليؤمن العالم ...". لذلك نقدر أن نقول أن الكثيرين منهم يحيون حياة مسيحية أكثر أصالة، أكثر عطاء، أكثر تطلعاً الى الضروري الأوحد: شخص الابن المتجسد."

على كنائس الهند، وفي طليعتها كنيسة سريانية ارثوذكسية واعية مسؤولياتها، ان تلعب دوراً خطيراً في العالم المسيحي في المستقبل، دوراً ذا وجهين: في تعميق الحياة في المسيح وفي عمل الاتحاد.

فليقبل الرب يسوع الجهود المبذولة والتي يجب أن تبذل وليوجه الكنائس جميعاً إلى حقيقة خدمته!...

------------------

1-  Mar Thoma Dionysius Metropolitan of Niranam, Wycliff Hull Magazine, Oxford (Trinity 1938)..

    2- ما عدا بعض الصلوات والخدمات التي نقلت الى اللغة الملبارية منذ نيف ومئة سنة 

المشاركات الشائعة