الأب أندريه سكريما (1925-2000)

 

ريمون رزق


وجه من نور

أشكر الله لأنّه أعطاني أن ألتقي في حياتي بأشخاص كالاب أندريه، يجسّدون إنجيله، وأرشدوني إلى السير في طريقه. وكان في طليعتهم الأب جورج (خضر)، أطال الله له عمره، والأب الياس (مرقس)، والأب ليف جيلليه الذي خصّص سنوات من حياته لخدمه شباب أنطاكية، وكثيرون من هؤلاء الشباب. جعلتني معرفتهم أدرك حقيقة "شركة القدّيسين".

الكلام على الاب أندريه

ليس "الحكي" على الأب أندريه أمر سهل، لأنّ رجال الله يتشبّهون بالله الذي لا يكفي أن نتكلّم عنه بل علينا معرفته بواسطة المحبّة والاتحاد به. أمّا الكلام فيعطي فقط معالم لملاحظة رجال الله والإشارة إليهم.

أوّل لقاء به

كان أوّل لقائي بالأب أندريه، السنة 1956، عندما دُعيت إلى الاشتراك في اجتماع في بيت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، في الأشرفية في بيروت، وكنت منتميًا حديثًا إليها، للقاء "غريبًا" من رومانيا. كان هذا الغريب الأب أندريه. كان في طريقه إلى الهند، حيث قدّم له وزير الثقافة الهنديّة، الذي تأثّر بمعرفته بالروحانيّة الهندوسيّة، أثناء زيارته لبوخاريست، منحة لقضاء سنتين في بيناريس للتعمّق بهذه الروحانيّة ومقارنة بعض مظاهرها بالهودوئيّة الأرثوذكسيّة. لا أدري لماذا مرّ ببيروت ولماذا قصد أن يجتمع بالحركة. لكن أعتقد الآن أنّ ذلك كان يتعداه ويتعدّانا، إذ كان نعمة من لدن الله.

أبهرني شيئان، خلال الاجتماع

خبر اجتماعات مجموعة "العلّيقة الملتهبة"، في دير أنتيم، في وسط بوخاريست، التي كانت تُعقد دوريًا وفي الخفية، منذ 1944، بين خيرة العلماء والفنّانين والمهندسين الرومان وكبار الرهبان واللاهوتيّين حول تلاقي العلم والدين، وخاصّة ماهيّة النور الذي وجد أثره العلماء في ظهور العالم والنور الذي يختبربه الرهبان أثناء لقائهم بالله واختطافهم فيه، وحول الروحانيّة الهدوئيّة.

 كلامه على "الغريب يوحنّا" (كوليغين)، الراهب الروسي، اللاجئ والهارب من الاضطهاد السوفياتي، والذي أعاد إشعال الروحانيّة الهدوئيّة وصلاة يسوع الدائمة، بين 1945 و1947، في رومانيا الشيوعيّة. وكان الشاب أندريه، تلميذًا جامعيًا في معهد الآداب والفلسفة، مشغفًا بعلوم الفيزياء والرياضيّات، عضوًا في العليقة الملتهبة، فأضحى بين الذين تتلمذوا على هذا الغريب. فغيّر لقاؤه به مجرى حياته، فاتّجه إلى دراسة اللاهوت والرهبنة.

لم أكن أعرف الروحانيّة الهدوئيّة إلًا بواسطة الكتب، إذ لم يكن يوجد آنذاك، في أنطاكية مَن يمارسها.

قُبض على يوحنّا وأُرسل إبلى الغولاغ، مخيمات الموت، ومات فيها. وكان قد كتب نوعًا من الوصيّة الروحيّة وجّهها إلى العليقة الملتهبة، لم يتوقّف الأب أندريه على التكلّم في  مضمونها وكتابة مقالات في تفسيرها. يمكن وصف علاقته بيوحنّا بتلمذة روحيّة حقيقيّة. يقول سكريما عن الأب الروحي إنّه "شخص يظهر خارجيًا وعلنًا، لكنّ ما يُرى منه هو انعكاس لمعلّم يسكن في داخله ويبرزه إلى النور"[1]. هذا يعني أنّ الأب الروحي الحقيقي يبقى "مخفيًا"، ويبتعد عن كلّ تسلّط. إذ كيانه لا يعني شيئًا لأنّه رسول، يدعو تلميذه إلى التعلّق بآخر. يخفي شخصه ليبرز الروح القدس الذي هو الثالث في كل علاقة. لا تختصر التلمذة على إعطاء "شيئًا ما"، بل على الإشارة إلى طريق تدعو التلميذ لاتّباعها. لذلك على الأب الروحي أن يكون دائمًا "غريبًا".

عودته إلى لبنان

لا أعرف لماذا عاد إلى لبنان، بعد قضاء سنتين في الهند، قرّر العيش فيه ونقل خبرته الرهبانيّة إلى رهبنة دير مار جاورجيوس في دير الحرف الناشئة، وإلى الحركة وإلى المجتمع اللبناني والعربي ككل. لمّح مرّة أنّ العناية الإلهيّة أقنعته ألّا يعود إلى رومانيا، بل أن ينقل الخبرة الروحية التي عاشها فيها إلى العالم بواسطة نواة متواضعة، رأى فيها، خلال اجتماعه الصغير ببعض أعضائها في بيروت، استعدادًا ومطواعيّة لتكون خميرة.

خدمته في لبنان

رهبنة دير الحرف: كرّس معظم وقته لرهبان دير الحرف. كان ينقل إليهم التقليد الرهباني بالكلام والمثال الحيّ. كان حريصًا ألّا يُظهر حياته الروحيّة الداخليّة، لأنّ الراهب تحديدًا هو إنسان "منفصل"، لا يكشف حقيقة نفسه إلّا لله. لا مظاهر تقويّة عنده من النوع الذي تعودناها عند بعض الذين يتلذّذونا بإبرازها، لأنّهم لم يصلوا إلى الأعماق، فيعوضونها بالمظاهر الخارجيّة. لكن وشى لي بعض رهبان دير الحرف أنّ الاب أندلاريه كان يقضي لياليه راكعًا يصلّي.

أمّا التعليم فكان يعطيه للرهبان بواسطة دروس حقيقيّة بالفرنسيّة، يدوّنها الأب الياس ويترجمها لاحقًا إلى العربيّة. نُشرت في منشورات النور لتعمّ الفائدة، في كتب هي الآن مترجمة إلى كثير من لغات العالم. وأهمّها أصول الحياة الروحيّة، وتفسير أقوال أنطونيوس الكبيروشرح إنجيل يوحنّا.

التعليم في معهد يوحنّا الدمشقي في البلمند، وفي جامعة الكسليك، وفي معهد الأديان في الجامعة اليسوعية. وأعرف من بعض الذين تبعوا تعليمه أنّهم كانوا مُعجَبين بمقارباته اللاهوتيّة العميقة وغير المألومة.

الاجتماعات مع الشباب في دير الحرف أو بيروت. عرّفنا خلالها على الكثير ولكن خاصة على ممارسة صلاة يسوع. كان يُبهرنا بمعرفته الموسوعيّة ومواهبه المتعدّدة. (مرّة ناقشني طويلًا في تقنيات الهندسة المدنيّة والرياضيّات). ومع ذلك كان كثير الفضول حول كلّ شيء، وكنّا نستغرب نظراته المتنبّهة لأمور لا تسترعي انتباهنا، إذ كان يعرف أنّ الله خفيّ في العالم، ويمكن أن يُظهر حضوره من خلال أبسط الأشياء.

الحوار: كان دومًا على استعداد للحوار مع كلّ إنسان، مع أنّه كان يفضّل محاورة المثقّفين. وكان لا يمتنع عن انتقاد من يعتبره غريبًا عن التقليد الأصيل. كان يقول إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة، حافظت على اللؤلؤة الإنجيليّة، لكن بآنية خزفيّة، وتغشيها التقاليد البشريّة التي تفوق أهمّية، بنظر الكثيرين، التقليد الشريف. كان يعترف بما وصلت إليه الكنيسة الأنطاكيّة من بوادر نهضة، لكنّه كان يحذّرنا من الارتياح إليها، ويتّهمنا بأنّنا أحيانا "نلهوّت أوضاعنا"، خوفًا من الارتماء الكلّي في حضن الآب، لكي نحافظ على العادات البشريّة الموروثة، التي إنّ لم نتخلّص من معظمها تعيدنا إلى حالة "الكنيسة النائمة" التي كنّاها لقرون مضت. ويا للأسف نرى الآن، في بعض تصرّفات المؤسّسة في الكنيسة، بوادر الأنحطاط.

الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة والحوار المسيحي الإسلامي: لم يكتفي أن يحاور أو يعلّم، لكنّه أراد أن يشهد بالتزامه الشخصي في كل ما كان يحدث في لبنان من أمور مصيريّة، خاصّة القضيّة الفلسطينيّة والحوار المسيحي الإسلامي. دافع عن الفلسطينيّين، معتبرًا قضيّتهم محقّة، وكان يأسف لتغاضي الغرب عنها. وقد اشترك في "مؤتمر المسيحيّين من أجل فلسطين"، في بيروت، والتي كانت الحركة، خاصّة بشخص كابي حبيب وإخوة آخرين، وراء فكرته، وساهمت بتحضيره وإنجاحه. أمّا الحوار المسيحي الإسلامي، فكان، إضافة إلى التعليم في معهد الديانات، يشارك في ندوات وحواران مختلفة مع المسلمين.

خدمته في العالم

أثناء وجوده في بيناريس باشر الحوار بين المسيحيّة والهندوسيّة على أساس الهدوئيّة.

أثناء وجوده في لبنان، كان يسافر من وقت لآخر، إلى أنحاء العالم للاشتراك في مؤتمرات لاهوتيّة رفيعة المستوى.

تعرّف السنة 1961 على البطريرك أثيناغوراس المسكوني الذي جعله ممثّله الخاصّ لدى مجمع الفاتيكان الثاني. وأصبح، بعد انتهاء المجمع، صلة الوصل المفضّلة بينه وبولس السادس. وساهم في تحضير لقاءهما في أورشليم، السنة 1964، وعمل على كتابة النص الذي رفع الحبران بواسطته الحرم المتبادل السنة 1054.

أصدر عددًا من المقالات في مجلّات غربيّة، يصعب عليّ رصدها عرّفت العالم على الروحانيّة الهدوئيّة الأرثوذكسيّة

وقد علّم في باريس وألقى محاضرات ونشط خاصّة في الأوساط الكاثوليكيّة. وقد تمكّنت في إحدى زيارتي لباريس أن أعرّفه على أوليفييه كليمان وبعض الأواساط الأرثوذكسيّة. وقد كتب أوليفيه مقالات في الاب أندريه في مجلّة كونتاكت الأرثوذكسيّة. وقد زار الأب أندريه عددًا من الأديرة الكاثوليكيّة وأرشدها على استعمال صلاة يسوع.

بعد سقوط الشيوعيّة، قرّر، السنة 1995، العودة إلى رومانيا حيث علّم وكتب مقالات كثيرة، وكان له كثير من التلاميذ، إلى أن رقد السنة 2000. وقد اجتمعت ببعضهم في بيروت حيث أتوا لاستقصاء آثره، وحصلوا على نسخ من دروسه الجامعيّة والعظات التب ألقاها في دير الحرف، التي مكّنتهم بكتابة كثير من المقالات حول فكره.

زرت مرّتين قبره في أحد الأديرة بالقرب من بوخاريست. وهو يرقد بالقرب من كبار اللاهوتيّين الرومان، خاصّة الأب ديميترو ستانيلويه.

نمط رهباني جديد

كرّس الأب أندريه حياته لمعرفة الله والآخر. وقد أبهر كثيرين بعلمه لكن أيضًا بجهوزيّته وانفتاحه وبساطته ورقّة نفسه وخاصّة استعداد القلب على التواصل المحبّ الذي جعل من معظم مَن التقاهم أصدقاء.

ابتكر نمطًا جديدًا للرهبنة، "الرهبنة في العالم" و"عيش الصحراء في العالم". مع تأكيدي على ضرورة النمط التقليدي للرهبنة الشرقيّة، التي تخلّص العالم بصلواتها، يبدو لي أنّنا بحاجة ماسّة أيضًا إلى هذا النمط الرهباني الجديد، لذا عنونت كتابي حول أوليفييه كليمان، الذي عاش "الرهبنة الداخليّة"، "الناسك في المدينة". الراهب من هذا النوع لا يعرف الحدود، حتّى حدود جدار الدير، بل يعيش "عالميّة" رسالة المسيحي. إنّه يمثّل المعنى الروحي من العولمة.  بحفاظه على التقليد الهدوئي وبعيشه بلا حدود، كان الأب أندريه سبّاقًا وشاهدًا مميّزًا للرهبنة في العالم.

لذا وصفه البعض بأنّه مارس "البلاهة من أجل المسيح" المناسبة لعصور الحداثة. كان يعتقد بأهمّية الرهبنة الفائقة، وكان يعتبر أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة كنيسة رهبانيّة. لكنّه، مع ذلك، ابتكر رؤية جديدة لدور الراهب، تختلف عن الدور الذي لعبه عبر العصور،

بعض أقواله حول الحجاب والتجوال الروحي

"يشير الحجاب إلى حضور خفيّ لا يمكن الوصول إليه إلّا تدريجيًا، بفتك الحجاب، ما يفترض تجانسًا كيانيًا مع هذا الحضور".

"توجد صلاة في التقليد الليتورجي البيزنطي موّجهة إلى الروح القدس، تطلب منه أن يأتي ويسكن في الخيمة، خيمة قلبنا. تبيّن هذه الصلاة وضعنا المشابه للرحل والمتجوّلين".

"كان كلّ رجال الله، عابري الحدود، رُحّل، متجولّين، كما كان أوّلهم إبراهيم الذي كان بدويًا فقيرًا، سمع الدعوه وعبر الحدود".

"الإنسان الذي ينغلق على نفسه، ويضع حدودًا لا يريد أن يتجاوزها، لا يتّجه إلى أيّ مكان".

"تمثّل الروحانيّة الأفق الذي لا أمتلكه، لكنّه يسحرني. إنّه يحتويني، لكنّه يبتعد في اللحظة التي أقرّر الاقتراب منه". إذا يقتضي التجوال والحركة. 

الأب أندريه كان نموذجًا لهذا التجوال. أراد أن يكون "غريبًا"،كأبيه الروحي يوحنّا الغريب، وسكن بيننا.

  



1- لقاءات حول حاج غريب، 2000.

 

المشاركات الشائعة