التحرّر من الأهواء

 ريمون رزق

النور- العددين الرابع والخامس 2013


1- انفعالات النفس والأهواء

أ- إنفعالات النفس: ليست كلّ انفعالات النفس أهواء. يوجد أوّلاً في النفس عطش وحنين إلى الوطن المفقود وإلى غير المحدود، الذي لا يمكنه بلوغه. وهناك انفعالات أخرى كالجوع ولذّة الأكل، والخوف، والحزن، والشعور بالبرد أو الحرّ وغيرها الموجودة في النفس والتي تُعتبر "بحسب الطبيعة"  والتي تصبح حسنة وصالحة إن استعملها الإنسان بغية الأمور السماويّة (كما يقول مكسيموس المعترف). فالجوع إلى الطعام مثلاً يمكن تحويله إلى جوع إلى الأمور الإلهيّة وشوّق إلى الله. وكما يقول الأنبا أشعيا: "بدون شوق إليه لا توجد محبّة لله". وكذلك الخوف يمكن أن نجعل منه خوفًا من السقوط في الخطيئة ، وتاليًا خوفًا من الدينونة. والحزن يمكن أن يصبح حزنًا على الخطايا المقترفة. إذًا يمكننا من خلال هذه الانفعالات أن نقترب من الله ونحبّه. يقول بعض الآباء إنّ الله غرس هذه الإنفعالات  في النفس وإنّها صالحة وعلينا حسن استعمالها، ويقول آخرون إنّها وُجدت في النفس بعد السقوط. ويمكن لهذه الانفعالات أن تصبح شرّيرة إذا انجررنا وراءها وتركناها تعبس بالنفس، فتسمّى ساعتئذ أهواء.

 

ب- فالأهواء إذًا هي قوى للنفس معاكسة لطبيعتها ناتجة عن سوء استعمال إنفعلات النفس يمكنها أن تعارض الرجوع إلى الذات بغية تجديد الطبيعة البشريّة بواسطة النعمة، وتكون عندها قوى تفسد النفس. إذا اسلمنا ذواتنا إليها سعيًا وراء ملذّاتها، تصبح علّة الخطيئة، إذ أنّ الخطيئة تُظهر فقط وجود الأهواء في النفس. إنّها أساس الخطيئة العميق وجذورها. هي عادات تنطبع في الطبيعة تغشيّ الصورة الإلهيّة فيها وتمنعنا من الوصول إلى المثال. وُجدت في النفس عندما انعطبت طبيعتنا بعد الخطيئة الأصليّة، ويشجّع رسوخها فيها نسيان الله. هي بالفعل أمراض للنفس تدنّسها، (ويقول أندراوس الأقريطشيّ في القانون الكبير: "لقد دنّستُ جمال نفسي بملذّات الأهواء") إن لم نعالجها ونتخلّص منها.

 

ج- هناك ثلاثة حالات للاهواء: "الحالة التي يمارس فيها الإنسان الهوى، والحالة التي يتملّكه فيها، والحالة التي يقتلعه فيها. ممارسة الهوى هي أن نعمل به ونثابر. تملّك الهوى هو من جهة ألاّ نمارسه، ومن جهة آخرى ألاّ نطرحه بعيداً ، بل أن نبرّره، حافظينه في قلبنا. أمّا اقتلاع الهوى فهو أن نجاهد ونمارس أعمالا معاكسة له" (دوروثيوس الغزّاويّ).

 

د- أسباب بزوغ الأهواء: يقول مكسيموس المعترف إنّ بزوغ الأهواء يعود إلى ثلاثة عوامل هي ضعف الذهن، وخفت صوت الضمير عن دور المراقب، وطغيان الاحاسيس وخروجها عن ضبط العقل والاندفاع الأعمى نحو الملذّات والهروب اليائس أمام الألم والوجع. يقول مكسيموس المعترف : "كلّما عاش الإنسان في حواسه، غير مهتمًّا سوى بمعرفة الأشياء المنظورة، كلّما تمحور حوله جهل الله. وكلّما زاد هذا التمحور، كلّما غرق في الاستهلاك الحسّيّ للأشياء المحيطة به، واتّخم منها إلى أن تنبذ فيه محبّة الذات النابعة من هذا الاستهلاك. وكلّما شجّع محبّة الذات هذه، كلّما ابتكر ملذّات جديدة. وبما أنّ الألم يأتي بعد اللذّة، نراه يركض وراء الملذّت ويهرب من الآلام. وبفعله هذا، ينبت فيه الأهواء".ويميّز مكسيموس المعترف بين الأهواء الناتجة عن التفتيش على اللذّة، والتي تأتي هربًا من الوجع والألم، وأخرى الناتجة عن هذين السبببين مجتمعين. "لأنّه يسعى إلى الملذّات ويريد الهرب من أيّ ألم، يخترع الإنسان أشكالاً مختلفة وعديدة من الأهواء المفسدة. فابتغاء اللذّات تولّده فينا محبّة الذات، فتوقظ فينا الشراهة والكبرياء والعجب والبخل، والنهم، والظلم، وحبّ الظهور والتكبّر، وانعدام الشفقة وغيرها. لكن إن عاكس الألم حبّ الذّات فيولّد الغضب، والحسد، والبغض، والعداوة، والكلام البطّال، والحزن واليأس، واتّهام العناية الإلهيّة بكلّ شيء... أمّا وجود الألم واللذّة معًا، فيولّد فينا القساوة، والرياء، والهزء، والحيلة، والمخادعة، والممالقة، والمجاملة الرخيصة وغيرها".

 

ه- الضمير فينا هو مراقب الأهواء. هو مثل الشرارة لإنارة الذهن والفكر وجعلهما يميّزان بين الخير والشرّ. هو الناموس الطبيعيّ واللاعب الأساس في قضيّة ملاحظة الأهواء وجعل إرادتنا تتعامل معها. يقول دوروثيوس الغزّاويّ: "باستطاعتنا إمّا طمر هذه الشرارة، أمّا إشعالها حتّى تلمع مجدّداً وتنيرنا، إن وثقنا بها وأطعناها. لأنه إن أملى علينا ضميرنا شيئاً وازدرينا به، وإن كلّمنا من جديد ولم نفعل ما يوصي به، مثابرين على ازدرائه، ننتهي إلى طمره، ولا يعود يستطيع الضمير القيام بالدور المنوط به في التكلّم إلينا جهارًاً، بل يصبح كسراجٍ خَفَتَ نوره بسبب الأوساخ، فأخذ يُظهر الأشياء أكثر غموضاً وأشدّ ظلاماً... وهكذا نتوصّل شيئاً فشيئاً إلى عدم التقاط صوت ضميرنا، إلى حدّ الاعتقاد تقريبًاً بعدم وجوده. ولكن لا أحد يُحرَم من الضمير فيه، كونه شيئاً إلهيّاً لا يموت أبدًاً. هو يذكّرنا دومًاً بالواجب، ولكنّنا لم نعد نسمعه بسبب ازدرائنا إيّاه، ودوسه بالأقدام".

 

و- إرادتنا نحوّل الأهواء إلى أسباب للخطايا أو أسباب للنموّ الروحيّ. نحن وحدنا مسؤولون عمّا نفعل بأهوائنا. إنّ الدافع إلى الخطيئة ليس فقط عدو الإنسان الذي يحاربه من الخارج، بل هو جرثومة تنبت فيه عندما ينسى الله، وتبدأ أفكارالسوء تراوده، فيرتكب المعصية.  يقول نيسيتاس ستيثاتوس، وهو لاهوتي بيزنطيّ من القرن العاشر، إنّه "علينا أوّلاً، بتعب الندامة وجهاد التقشّف، أن نعكس قوى النفس ونجعلها كما أعطانا إيّاها الله في البدء، عندما خلق آدم ونفخ فيه نسمة الحياة. وإلاّ لن نتمكّن أبدًا من معرفة ذواتنا، ولا نتغلّب على الفكرة التي تسيطر على الأهواء".

 

ويقول باسيليوس الكبير وعدد واسع من الآباء إنّ الله: "ليس مسبّباً للشرّ، بل نحن أنفسنا، لأنّ أصل الخطيئة وجذورها كائنة في حريّتنا وإرادتنا... إذًاً الشرّ بطبيعته متعلّق بطبيعتنا،... أعني بالشرّ الظلم والجهل والجبن والحسد والقتل والكيد والدسائس وأشباه ذلك من الأهواء... لا تتصوّر أنّ للشرّ وجودًاً خاصًّاً لأنّ الشرّ ليس شيئاً موجودًاً... ولا يمكننا أن نعتبر عنصره موجودًاً لأنّ الشرّ هو نتيجة  فقدان الخير والصلاح،... الله يسمح به لأنّه يحترم حريّتنا ولا يريد أن ننفّذ أمراً بالقسر، بل يريد  لنا أن نحقّقه بالفضيلة وبإرادة حرّة... فليبق راسخاً في نفوسنا الاعتقاد أنّ الشرّ لا يأتي من الخير".

 

ز- إذًا، ليست الأهواء بحدّ ذاتها شرًّا، بل الشرّ يكمن في وجهة استعمالها، الخاضع لإرادتنا. هي التي تجعلها خيرًا أو شرًّا. يقول بطرس الدمشقيّ، في هذا الصدد:

 

"ليست القنية شرًّا، بل عدم استخدامها كما ينبغي. إذا تجرّدنا من كلّ شيء، فليس شرًّا أن نقتني كتبًا، بل ألاّ نقتنيها للقرائة الإلهيّة... وليست المرأة شرًّا بل الزنى. وليست الثروة شرًّا بل الحرص... وليست السلطة شرًّا، بل حبّ التسلّط. وليس المجد شرًّا، بل الطموح، وأدهى من الطموح الغرور. وليس اقتناء الفضيلة شرًّا بل التباهي بها. وليست المعرفة شرًّا بل توهّم العلم، وأدهى منه جهل جهلنا... وليس العالم شرًّا بل الشهوات، ولا الطبيعة، بل ما يخالف الطبيعة... وليست أعضاء الجسد شرًّا، بل سؤ استعمالها. فالبصر لم يُعطَ لنا لكي نشتهي ما لا يليق، بل لكي نبصر الخلائق ونمجّد الخالق فيها، ونحقّق خير نفسنا وجسدنا. كذلك السمع لم يُعطَ لنا لنسمع الشتائم والترّهات، بل لنسمع كلام الله وكلّ لغة: لغة الناس والطيور والخلائق الأخرى ونمجّد الخالق فيها. ولم نُعطَ الشمّ لتميع النفس في العطور وترخي عزيمتها،... بل لنتنفّس وننشق الهواء الذي يجود به الله علينا، ونمجّد الله لهذه المنّة."

 

ح- خطوط العلاج الكبرى: المهم أن نخدع الأهواء لإرادتنا ولا نجعلها تتسلّط علينا، بل نجعلها تتجلّى، فتصبح فضائل. ولا يجب فقط علاج الأهواء، بل الوقاية منها، ولا مقتها وتقويضها، بل تنقيتها وتحويلها إلى الفضائل المعاكسة لها. إنّ قوّتها تزول بالمعموديّة، فتعود وتقوى بنسياننا الله. ويمكننا إضعافها مجدّدًا بواسطة إحياء المعموديّة  فينا مجدّدًا بواسطة التوبة، المعموديّة الثانية، وبواسطة معموديّة الدموع بغية الوصول إلى حالة اللاهوى (الأباثيّا) الحاصلة عندما نتحرّر كلّيًّا من الأهواء، فنصبح كلّنا عندئذٍ محبّة، وأبناء وإخوة حقيقيّين للإله المحبّة. ويمرّ سلوك هذا الطريق إلى المحبّة التامّة والمشاهدة الإلهيّة عبر مراحل مختلفة، يصفها يوسف هزّايا الرائيّ (راهب سريانيّ من القرن التاسع)، قائلاً:

 

"الرحلة الأولى هي المرحلة الجسديّة... حيث تكون الأعمال مقرونة باشتراك الجسد، بواسطة الأصوام، والسهر، والتخلّي الطوعيّ عن كلّ شيء، وأعمال المحبّة والرحمة الخارجيّة. تخضع النفس، في هذه المرحلة، لتجارب مختلفة، من قِبَل شياطين الفسق ومختلف الأهواء. تحتلّ فيها الصلاة والمطالعة مركزًا أساسيًّا، وتوصل إلى نقاوة القلب، والتأمّل بالكائنات الجسمانيّة. أمّا المرحلة الثانية... فتتميّز بممارسة الفضائل الداخليّة، التواضع، والصبر، والصلاح، إلخ. وتوصل إلى الشفافيّة، والتأمّل بالكائنات غير الجسمانيّة، و غيرالدينويّة، وبالعناية الإلهيّة. ويكون التأمّل والصلاة الدائمان من علامات هذه المرحلة... أمّا المرحلة الثالثة والأخيرة، فهي درجة الكمال، التي تفوق كلّ ممارسة للنفس والحواسّ. إنّها مرحلة عمل الذهن المحتوي على رؤية نور الثالوث والمسيح القائم، الذي لا شكل له. تبدو النفس، في هذه المرحلة، كما لو أنّها نار أو شمس، تسكن في السماء الروحيّ، حيث لا جهاد، لأنّ مشاهدة الله توصل إلى الكمال"

 

2- تعداد الأهواء ووصفها

 

أ- يعدّد الآباء ثمانية أهواء، هي الشراهة، والزنى، والبخل، والغضب، والحزن، والكسل، والعُجب والكبرياء، تجمع بينها كلّها محبّة الذات (الفيلوثيا). منها مرتبطة بالمادّة، كالطعام مثلًا الذي كثرته تثير الشراهة، ومنها غير مرتبطة بشيء مادّيّ، وهي الأخطر، مثل الكبرياء والغضب وما يماثلهما. ومن محبّة الذات تصدرأوّلاً محبّة المأكل والشراهة، ومحبّة المال، ومحبّة المجد الباطل. ومن هذه الثلاثة  تنحدر بقيّة الأهواء. هذه الأهواء الثلاثة الرئيسيّة هي التي جرّب بها الشيطان السيّد في الصحراء، إذ عرض عليه تحويل الصخور خبزًا (هوى الشراهة والجشع)، وامتلاك كلّ الأرض (هوى المال والملك)، والاقتناع أنّه أقوى وأرفع من جميع الناس، إذ سوف تحميه الملائكة، إن وقع (هوى العُجب والكبرياء).

 

ب- وصف مختصر للأهواء الرئيسة

1- الشراهة هي سبب السقوط الأوّل (راجع تكوين 3). بطاعته الشيطان وضع الإنسان بطنه مكان الله. والشراهة هي الآن الهوى الأكثر وجودًا في عالم الاستهلاك الذي نعيش فيه، حيث تتكاثر الأطعمة وغير ذلك من الشهوات لإكثار اللذّة وليس للإكتفاء بما يغذّي الجسد. كما رأينا سابقًا، يقول أحد الآباء: "لا يكمن الهوى بالطعام، بل بطريقة أكله". علينا إذًا التساؤل: لماذا نأكل وكيف نأكل؟ أنأكل لنشكر الله الذي يهبنا كلّ شيء ويريدنا أن نتمتّع به، أولملء بطوننا التي عندئذٍ "تصبح، كما يقول نيلوس الناسك، أوقيانوس لا يمكن ملئه". لذلك عمليّة الأكل هي عمل غاية بالاهميّة. يمكن  ويجب أن تكون عمليّة الأكل شركة من جهة مع الله، ومن جهة أخرى مع عبيده الذين عليتنا أن نشاركهم الطعام والشراب، ومع خليقة الله الحيوانيّة والنباتيّة التي وضعها الله تحت تصرّفنا. الله موجود دومًا على مائدة الطعام (فلنتذكّر عشاء العلّيّة، ومتئدة تلاميذ عمّاوس، وموائد زكّا وبطرس وغيرهما). فيكون الإكثار من الطعام والشراب من أجل اللذّة فقط وبدون شكر الله بمثابة عمل لصوصيّة يفصلنا عن الله وعن خليقته، ويدنّس جسدنا المدعو أن يكون هيكل الروح القدس.

 

2- الزنى ليس خطيئة ضدّ الجسد وحسب، بل أيضًا ضدّ الإنسان بكامله، إذ يهين طبيعة الحبّ البشريّ. الزنى هو استعمال الشهوة الجنسيّة الحسنة بالأساس بطريقة مرضيّة تبعدها عن غايتها الحقيقيّة. كلّ ما صنع الله حسن. وهكذا هي هذه الشهوة عندما تُستعمل من أجل مبتغاها وليس من أجل ابتغاء اللذّة الشخصيّة واستعمال الآخر كأداة من أجل هذه الغاية. (راجع الرسالة الاولى إلى تيموثاوس 4: 3-4). الزنى يؤلّه الجسد ويلغي الآخر ويبعدنا عن المحبّة الحقيقيّة، إذًا عن الإله المحبّة. وكما يزني الجسد بالأفعال، وينسى أنّه هيكل الروح القدس (الأولى إلى كورنثوس 6: 19)، كذلك تزني النفس بالأفكار والتخيّلات النابعة من خلاعة المجتمع وثقافة الفجور المهيمنة. يهرب الإنسان في اللذّة ظنًّا منه أنّه يهرب من الموت. ولكن كلّ نشوة تنطفىء مباشرة بعد حصولها، ويبقى الإنسان في فراغه وخوفه من الموت، إن لم يملىء ذاته من مصدر الحياة بعينه الذي هو الله. مواجهة الموت الحقيقيّة تكمن في العيش في حضرة الله "الحياة" الدائمة وذكر اسمه المتواصل، إذ "يزيل اسم يسوع كلّ سحر مظلم يأتي من الأفكار والخيال" (هيزيخيوس العوسجي).

 

3- البخل يطاردنا بحبّ التملّك والتعلّق بالمال والمقتنيات، وهو، إضافة إلى الشراهة، مرض هذا العصر بامتياز. والمطلوب ألاّ نعتبر أنّنا نملك شيئًا بل نعتبر ذواتنا وكلاء مقامين من الله لإدارة وتوزيع ملكه. يقول بولس إلى تيموثاوس "إنّ محبّة المال أصل كلّ العلل" (1 تيموثاوس 6: 10)، ويعني بالمال االذي أعتبره مالي أنا وليس هبة من الله، فأُقيم إذّذاك الممتلكات مكان الله وأتعلّق بها. ولا يريدنا السيّد أن نعبد ربّين. يقول القدّيس نيسيتاس (القرن الرابع): "البخيل يضع خالق المادّة أدنى مرتبة من الماديّات، ويعبدها بدلاً من عبادته". البخيل همّه منوط  بممتلكاته. هو سجين جشعه ولا يجد هدف لحياته إلاّ في مزيد من الممتلكات. ولكن مَن أراد أن يخلّص نفسه هكذا يهلكها. وهو يسرق أخاه الجائع إن لم يشاركه في ماله.

 

4- الحزن او الضجر والملل والقرف وروح الفضول. تسكن هذه الروح قلوبنا منذ خروجنا من الفردوس. هي، كما قلنا، نوع من الحنين إلى الوطن المفقود. الإيجابي في هذا الهوى أنّه يدفعنا إلى وعي ما يفصلنا عن الفردوس ويحثّنا إلى العودة. ولكن إن اكتفينا بهذا الحزن وبقينا عليه يوصلنا إلى انهيار عصبيّ ويغلّف حياتنا بوشاح الظلمة والسواد. فننوح وراء الماضي وما عشناه فيه من فرح، ونرفض الوقت الحاضر، فنصل إلى اللامعنى والقرف، القرف من كلّ شيء، بما فيه الصلاة والتأمّل والكنيسة. وكذلك يبعدنا هذا القرف عن الله لأنّنا نعتقد أنّه تخلّى عنّا (بينما نحن الذين نتخلّى عنه) ولا يلبّي رغباتنا ولا يعيدنا إلى الفردوس المفقود. ينبّه الكتاب إلى خطر هذا الهوى ويدعونا إلى تلافيه.

 

لن أشفى من هذا المرض إلاّ إذا قرّرت أن أبتعد عن كلّ بعيد أو مستحيل المنال يشتهيه قلبي، وهو باستعادة ثقتي بأنّ الله لن يتركني، بل هو واقف أمامي ينتظر استجابتي لمحبّته. المسيح تألّم ليمسح كل دمعة من أعيننا. وهو دائمًا مستعدّ أن ينتشلني من الحفرة التي وضعت نفسي فيها. علينا عيش فرح القيامة في خضمّ الأحزان. لا حزن في المسيحيّة لأنّ المسيح قد قام. فعلينا تحويل بكاء الحزن إلى بكاء التوبة والفرح. هذا هو سرّ الفرح الحزين والدموع االتي تعمّدنا ثانية. يقول كاليستوس وير: "إنّ المسيح لا يهبنا طريقة لتجنّب الألم، لكن يهبنا طريقة لعبوره. لقد تالّم حتّى الموت لا لكي نُعفى من الألم، بل لكي نتشبّه بآلامه. وهو الآن لا يحلّ مكاننا في الألم، بل يرافقنا فيه حتّى الخلاص. صليبه هو علامة لغلبة التواضع المحبّ على البغضاء والخوف، وعلى بذل الذات الكامل وعلى الرأفة المفعمة بالمحبّة، وهو المثال الأعلى على أنّ الإنسان يقتني قوّة داخليّة تمكّنه من محاربة الألم"، وذلك بمساعدة الربّ.

 

وبهذا الخصوص، ينصح هزبيخيوس العوسجيّ، قائلاً: "عندما تلِمّ بنا الكروب والفشل واليأس، علينا أن نحذو في نفسنا حذو داوود. فنسكب قلبنا أمام الله، ونردّد أمامه، بلا مراوبة، حاجاتنا وكربنا. نحن نعترف لله إذًا، ونبقى على يقين أنّه يستطيع، إذا رأى في ذلك منفعة لنا، أن يسوس كلّ شؤون حياتنا، ويفرّج كربنا، ويعتقنا من الحزن القتّال والمفسد".

 

5- الغضب والكلام البطّال يظهر خاصّة عندما نلتقي بالآخرين، وينتج عن إرادتنا بنفي وجودهم كونهم يشكّلون حواجز بالنسبة إلينا. فأرفض آرائهم وتصرّفاتهم، لذلك تغضبني رؤيتهم. يعبّر الغضب عن رفض داخليّ للآخر. إن استُعمل هذا الهوى لإذلال الآخرين يصبح هوى قتّالاً إذ يريد قتل الآخر ومحيه من الوجود. يرفض الغضب تمامًا مبدأ الأخوّة. منه يلد العنف، والعنف يوصل إلى القتل (رومية 3: 13). وهناك غضب يأتي من رؤية أمر غير عادل يحثّنا إلى الدفاع على المظلومين، ولكن هذا لا يخوّلنا البتذة الغضب على مَن يسبّب حالة اللاعدل، بل على الحالة نفسها والعمل على إذالتها، إذ لا يجب أن نغضب أبدًا على أيّ من البشر، بل أن نسعى في غضبنا أن نتمثّل  بيسوع الذي غضب محبّة. أمّا الغضب "بحسب الطبيعة" فيدفعنا إلى مقت الشيطان ويشجعنا على ضبط ذواتنا بشدّة وقساوة، بغضًا للرذائل التي يغرسها الشيطان فينا، وللخطايا التي اقترفناها بإرادتنا، كما يدفعنا إلى الجهاد من أجل اكتساب الفضائل.

 

 

6- الكسل هو فقدان اليقظة وعيش حياة روتينيّة يتغلّب عليها روح البطالة. منه يتولّد هوى الشهوة والزنى، لفراغ الذهن من أيّ شيء آخر يُشغله. فبدل أن نذكر الله نذكر نجاستنا. يقول سمعان اللاهوتي الجديد إنّه "موت للنفس والجسد" . وهو يشبه في بعض مظاهره هوى الحزن.

 

7- العُجب أو المجد الباطل وحبّ الرئاسة يظهر عندما ننسب لذواتنا ولفضلنا، خلافًا للواقع، قسطًا كبيرًا ممّا نحقّقه في حياتنا مادّيًّا أو روحيًّا. هذا الموقف ينكر عطيّة الله، وأنّ كلّ شيء هو هبة منه ونعمة. ومن العُجب ينبع الحسد عندما نرى أحدًا يفوقنا علمًا أو إمكانيّات. أمّا الحسد "الذي بحسب الطبيعة"، فهو الذي يدفعنا إلى اقتناء الخيرات الإلهيّة (1 كو 12: 31). والعُجب "بحسب الطبيعة" يجعلنا نعي الإيجابي فينا من قيم ومقام، وإن جمعنا هذا الشعور بقناعتنا أنّنا عبيد بطّالون، وأن كلّ شيء يُعطى لنا من فوق، يمكننا استعمال هذا النوع من العُجب سلاحًا عندما تخيّم علينا أجواء الحزن والكسل والقنوط واليأس.

 

8- الكبرياء هي أخطر من العجب بكثير. جوهرها أن أعدّ نفسي مركزا ومحورًا لذاتي وللكون، في حين أنّ المركز الحقيقي هو الله. فنحلّ محلّ الله ولا نحتمل الآخر، ولا نقبله كآخر. ثمّ نتكلّم عن أنفسنا باستمرار ونفرض رأينا. ونسعى أيضًا إلى الكرامة  والمديح، وأحيانًا نرفضها بدافع اتّضاع غاش. يقول يوحنّا السلّمي إنّ الكبرياء "نكران لله، وصنيعة الشياطين. تجعلنا نمقت الناس، وندين الغير... ويصدر عنها الغضب، وهي باب للرياء، ومساندة للأبالسة، وحافظة للخطايا... تجهل الرأفة، تشجّع على التدخّل بما لا يعنينا، والحكم على الآخرين بدون شفقة وروح إنسانيّة. هي عدوّة الله، وجذر التجديف. بها سقط الشيطان، وأيضًا الجدّين". بالكبرياء أبتعد عن مشيئة الله وأسير وراء مشيئتي. ويقول سمعان اللاهوتيّ الجديد إنّ "القلب المتكبّر غير قادر أن يتّضع. فبقدر ما يُنصح بما يلائم حاله يرتفع. وإذا وُبّخ وبُكّت، جاوب بعنف. وإذا شُجّع انتفخ باطلاً".

 

كيف نتّقي الأهواء ونعالجها؟

 

أ- تكون المعالجة أوّلاً في ممارسة الأسرار الذين، إن أردنا، يشفون من أهوائنا بنعمة مجّانيّة من الله. فالمعموديّة هي ولادة جديدة تعيدنا إلى وضعنا قبل السقوط، أيّ بدون أهواء فاعلة فينا. وسرّ المصالحة يعيدنا إلى هذه الحالة كلمّا سقطتنا. وسرّ الشكر يقدّس جسدنا ونفسنا ويلصقنا بيسوع، غالب كلّ هوى. وسرّ الزواج يؤمّن للمتزوجَين إمكانيّة التغلّب على هوى الزنى والانغلاق على بعضهما البعض وعائلتهما، ويشجّعهما على تكوين كنيسة بيتيّة حقيقيّة. وسرّ الميرون يجعل الروح القدس خاتمًا لحواسنا، فاعلاً فينا، يساعدنا على التغلّب على الأهواء. وسرّ مسحة المرضى يمكّن هؤلاء من شفاء النفس والجسد ويعطيهم القوّة لعدم الوقوع في اليأس، بل الاتّكال على الله، مهما كانت صعوبة حالتهم المرضيّة.

 

ب- التعاضد بين الله والإنسان: النعمة الإلهيّة المجّانيّة المعطاة بالأسرار تكفي لأنّ الله أرادنا أن نساهم في خلاصنا. علينا أن نتعاون مع الله في عمل خلاصنا. يقول مكسيموس المعترف إنّ "للإنسان خاصّتين للوصول إلى السماء هي الإرادة والنعمة". ويقول أندراوس الأقريطشيّ: "من دون تحالفنا والله، وإن كنّا نتحلّى بحرّيّة الإرادة، لا نستطيع أن نتشجّع على أن نحقّق أيّ عمل في حياتنا. فطريق الإنسان لا ترتبط به وحده، ولا يستطيع أن يصل إلى نهايتها وحده. فلا ننسبنّ، إذًا، إلى أنفسنا نتائج جهاداتنا. إلينا يعود الاختيار، اختيار الأفضل، والجهاد من أجل تحقيقه، ولكنّ الله هو الذي يقود الإنسان في رغبته إلى النهاية".

ويؤكّد ثيودوروس اسقف الرها إنّه "يخدع نفسه مَن يعتقد، متكبّرًا، أنّ بإمكانه التغلّب على الخطيئة، بواسطة نسكه ومجرّد إرادته. لا تُغلب الخطيئة إلاّ بنعمة الله، لأنّها سُحقت بسرّ الصليب". ويقول الذهبيّ الفم: "إنّ قرار الإنسان لا يكفي إذا لم يُعزَّز من فوق، ومن جهة أخرى، لا ينفع الدفع من فوق إذا نقصتنا الإرادة".

ج- الأبواب التي يجب ولوجها من أجل الجهاد: القولين التالين، الأوّل لفيلوثيوس السينائيّ، والثاني لثيوغنوطيوس، المقتبسين من كتاب الفيلوكاليا، يرسمان الخطوط العريضة التي لا بدّ منها لمَن يريد سلوك طريق الجهاد للتخلّص من الأهواء.

يقول فيلوثيوس: "أوّل باب يفتح على أورشليم الداخليّة، أيّ انتباه الذهن، هو صمت الشفاه الفطن، قبل أن يصل الذهن إلى السكون. أمّا الباب الثاني، فهو الزهد المتّزن في الأكل والشراب. والباب الثالث هو ذكر الموت الدائم والتأمّل به، لتنقية النفس والجسد معًا... كم رغبتُ في أن يكون ذكر الموت، هذا الابن لآدم، رفيقي باستمرار، وأن أستكين إليه، وأتكلّم معه، وأسأله عن المصير الذي ينتظرني، عند فراقي الجسد! لكنّ النسيان اللعين، ابن الشيطان المظلم، يمنعني من ذلك".

ويقول ثيوغنوطيوس: "حافظ على النقاوة كحدقة عينيك، لكي تصبح هيكلاً لله، ومسكناً جديرًا بمحبّته، إذ يستحيل بدونها أن تتّحد بالله. تولد النقاوة من الشوق الإلهيّ، وغياب الميول الإنفعاليّة، والابتعاد عن العالم. ويحفظها التواضع، والزهد، والصلاة الدائمة، والمشاهدة الروحيّة، والدموع الغزيرة، واعتدال مزاج النفس".

ه- الأساليب العمليّة الضروريّة للتحرّر من الأهواء

 

1- التعلّم على حسن تشخيص الداء

يعلّمنا الآباء بدقّة غريبة كيفيّة الوصول إلى مثل هذا التشخيص. فعلينا قراءة ما كتبوا، واتّباع إرشاداتهم النابعة من خبرة معاشة. لقد عرفوا ماهيّة النفس البشريّة وحركاتها بحزافيرها، قبل أن يكتشفها العلم النفساني الحديث، وذلك لأنّهم أحبّوا الإنسان وأرادوا معالجة ضعفاته. ولا بدّ من الرجوع في هذا المجال، خاصّة إلى كتاب "سلّم الفضائل" ليوحنّا السلّميّ، وإلى "الطريقة" لكاليستوس وأغناطيوس كزانثوبولوس في كتاب الفيلوكاليا، و"المقالات النسكيّة" لأسحق السريانيّ.

 

2- أن يكون لنا إرادة الشفاء، إذ ليس من علاج ممكن إن لم نكن نريده ونسعى إليه.

 

3- الإرتكاز على الإيمان والاتّكال الكامل على الله، إذ بهما تبدأ الحياة الجديدة. العرّاب مثلاً يشهد على إيمان المعمَد، نيابة عنه قبل المعموديّة. الإيمان يقضي بي أن أقول: يا ربّي، إنّي أثق بك. أنت الصخرة وليس أنا. يقضي أن أخرج من قوقعتي إلى محبّة الله. وأسعى أن أعي وجوده معي في كلّ حين، وأذكر اسمه، وأتذكّر قوله: "بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا". أعرف إذّذاك أنّي لست وحدي في حربي، وأنّ الأمور لا تقتصر على مظاهرها المادّيّة، بل أنها مفتوحة على مدىً آخر. إنّني في العالم، لكن عليّ أن أتذكّر دومّا أنّي لست منه، وأن أنفتح في كلّ اللحظة على وطني الحقيقيّ. يقول مكسيموس المعترف إنّ "الإيمان هو الخير المكثّف، وإنّ الخير هو الإيمان المحقّق، المعاش". في هذا الصدد نفسه، يشهد بطرس الدمشقيّ، قائلاً: "مَن علّمته التجارب الكثيرة وشهوات النفس والجسد أن يكتشف ضعفه، عرف قدرة الله اللامتناهية، وأنّ الله ينقذ المتواضعين الذين يدعون بكلّ قلبهم، في جهادات الصلاة. ويعرف أيضًا أن الصلاة عندئذ تغدو فيه شبه طعامٍ، وأنّه بدون الله لا يستطيع أن يعمل شيئًا. وإذ يخشى السقوط يسعى إلى الاعتصام بحبل الله، ويتعجّب من أنّ الله أنقذه من مثل هذه التجارب وهذه الأهواء. فيحمد الله الذي استطاع أن ينقذه، ويقرن بالشكر التواضع والمحبّة، ولا يجرؤ على أن يدين أحدًا في شيء لعلمه أن الله الذي أمدّه بالعون يستطيع أن يُسعف، هو أيضًا، جميع الخلائق، متى شاء". ويقول أيضًا إنّ المجاهد الذي يضع ثقته بالله، " ليس هو المنتصر، بل المسيح المقيم فيه بالإيمان".

 

4- التوبة والندامة ومخافة الله: لا بدّ منها لأتغيّر، لأقلب ذاتيّ، ماقتًا الإنسان العتيق فيّ وطالبًا الجديد. "أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي قد أخطئت أمام السماء وأمامك، فسامحني واقبلني كأحد أجرائك". تقتضي التوبة رجوع النفس إلى ذاتها ومعرفة أمراضها والندم عنها والقرار بألاّ تعود إليها. على حالة التوبة هذه أن تصبح حالة داخليّة دائمة. فيوجد إذًا فرقًا بين هذه الحالة الدائمة وسرّ التوبة الذي يشجّعنا عليها ويصالحنا مع ذواتنا ومع الكنيسة. تقتضي التوبة الحقيقيّة الدموع، التي هي علامة لحضور الروح القدس. ويقول الآباء إنّ الدموع هي معموديّة أخرى، تجدّد الإنسان. ويقول الآباء أيضًا إنّ التوبة هي أسمى الفضائل لأنّها تفتح لنا الباب إلى تجديد ذواتنا وإعادة السعي والعزم في السير نحو الربّ. مجرّد الاعتراف بخطايانا إلى شخص أخر يحرّرنا منها، إذ نكون قد أخرجناها من سرّنا وسمّيناها، وما يسمّيه الإنسان يمتلكه. أمّا التحرّر الكامل من الخطايا، فيكون عند صلاة الحلّ من قبل الكاهن، المشيرة إلى غفران الله والكنيسة لما اقترفناه بحقّهما. بذلك تخرج خطايانا، التي هي نتيجة أهوائنا، من ذاكرتنا، مع أنّ بعض الآباء ينصحون بعدم نسيانها، بل بتذكّرها الدائم، لكي لا نعود نقع في مثيلاتها.

 

وهناك نوعان من التوبة، توبة الرعدة، وتوبة المحبّة، إذ تشمل النفس رعدة قبل أن يملؤها الحبّ.  تختصّ الأولى بالمبتدئين في الجهاد الروحيّ، إذ يولّد فيهم الإيمان مخافة الله، فيخافون من العقاب، ولذلك يخضعون لله، ويريدون إتمام وصاياه. أمّا توبة المحبّة، فتكمن في الخوف من أن نُحرم من محبّة الله ومن خيرات صلاحه. يصف غريغوريوس، بابا رومية، هاتين التوبتين، قائلاً: " تبكي النفس أوّلاً على خطاياها (وتخاف من العقاب)... ولكن بعد أن تضمحل الرعدة، تتأكّد أنّها حصلت على المغفرة، ويشتعل ذهنها في محبّة أفراح السماء... فتجرّ التوبة الممزوجة بالرعدة النفس الى توبة المحبّة".

 

ويتكلّم سمعان اللاهوتيّ الجديد على حالة النادم بهذه بعبارات الملهَمة، قائلاً:"يريد (الله) خاصّة روحًا نادمًا، وقلبًا تائبًا ومتواضعًا، واسعدادًا منّا للتحدّث معه بشعور تسليم. فأقول له: "تُرى مَن أنا، يا ربّي وسيّدي وإلهيّ، لأنّك نزلت وتجسّدت ومتّ من أجلي، لكي تنقذني من الموت والفساد، وتضمّني إلى مجدك وألوهتك، وتجعلني أشترك بها؟" عندما تكون في مثل هذه الحالة بما يخصّ تحرّكات قلبك غير المنظورة، ستجد السيّد كلّي الاستعداد لضمّك سرّيًّا إلى ذراعيه ولتقبيلك ومنحك روحًا مستقيمًا في داخلك، روح حريّة ومغفرة لخطاياك، وأكثر من ذلك كلّه، مستعدًّا ليكلّلك بالمواهب ويعطيك صية حكمة ومعرفة... في نفسٍ كهذه يسكن الله ويستريح محصّنًا إيّاها ضدّ مكايد الشيطان وجميع علل الخطيئة المسيئة. فلا يزدهر فيها سوى ثمار الروح: المحبّة والغبطة والسلام والوداعة والصلاح والبرّ واللطف، والتواضع وضبط النفس. ويتبع هذه الفضائل المعرفة الإلهيّة وحكمة الكلمة وبحر مقاصد المسيح الخفيّة وأسراره. مَن يصل الى هذا الحدّ ويستقرّ فيه بقوّة يمتلىء غبطة لا توصف تنبع من محبّة الله، هذه المحبّة التي لا يمكن للمرء الاقتراب منها قبل تنقيّة قلبه بواسطة التوبة والدموع الغزيرة، وإن لم يغوص في بحر التواضع".

 

ويذكّرنا يوحنّا السلّميّ أنّ: "التوبة ابنة للرجاء وجحود لليأس". ويقول اسحق السرياني: "لقد نلنا هذه الحياة من أجل التوبة؛. فلا تهدروها بالبحث سدىً عن أشياء أخرى". ويضيف: "مَن يعرف خطاياه هو أعظم ممَّن يقيم الموتى... ومَن أعطي له أن يرى نفسه أعظم ممَّن أُهّل لمشاهدة الملائكة".

 

وقد كتب الأسقف  كاليستوس وير، في حديثه عن خبرته  في التوبة: "ليست التوبة يأسًا بل هي انتظار حارّ؛ ليست الشعور بأنّك في مأزق، بل أنّك قد وجدت مخرجاً. هي أن تنظر إلى فوق، إلى محبّة الله. ألاّ تنظر إلى ما لم تستطع أن تكونه، بل إلى ما يمكنك أن تكونه بنعمة المسيح".

 

5- الصبر يجعلنا نعيد الكرّة كلّما لم ننجح في محاربتنا هوىّ من الأهواء، وكلّما نعتبر أنّ الله لم يستجب لإحدى طلباتنا. كلّ الفضائل تلتقي في الصبر، وبدون الصبر لا تقوم فضيلة. يقول ثيودوروس الستوديتيّ، مرشدًا رهبانه:"إن خطئنا سبعة مرّات في اليوم، فالنندم سبع مرّات، وسنلقى الترحاب. وإذا وقعنا سبعين مرّة سبع مرّات، فلتكون توبتنا مماثلة، ولا نفقد الرجاء، كما وعدنا الربّ. يكفي أن نثابر. أرجوكم ألاّ تفقدوا العزم، ممقتين أيّ اسرخاء فيكم".

 

ويقول بطرس الدمشقيّ:"إن نوينا وتبنا، بإمكاننا دائمًا أن نستعيد الطريق... لقد سقطت، فانهض ثانية. لا تنقط أبدًا من خلاصك مهما صار. لا تستسلم أبدًا بطوعك إلى العدو. فهذا الصبر ولوم النفس يكفيان لخلاصك... فلا تيأس إذًا من أنّك تجهل إزر الله، فهو يستطيع أن يصنع كلّ ما يشاء. ثق به فيسعى لك بطريقة أو بأخرى، أو يمهّد لتقويمك بتجارب أو بطرق أخرى يعلمها، أو يتقبّل بمثابة عملٍ لك صبرك وتواضعك، أو يفتح لك في محبّته للبشر وعبر الرجاء طريقًا أخرى تجهلها لينقذ نفسك الأسيرة. وعليك فقط ألاّ تتغاضى عمّن يستطيع شفاءك، لأنّك إذا أبيت أن تعرف غاية الله الخفيّة ستعاني الموت المزدوج".

 

ويقول أيضًا: "في كلّ علم وكلّ معرفة لا بدّ من الصبر... كلّ شيء قبل أن يكون يتكوّن عن طريق الصبر. وبعد أن يتكوّن فهو بالصبر أيضًا يثبت، ولا يستمرّ ولا يكمل بدونه. فإذا كان ثمّة شيء صالح، فالصبر يُثيّره ويحفظه. ولكن إذا كان ثمّة شيء سيّء، فالصبر يولي المرونة وعزّة النفس ولا يسمح بأن يتعرّض المجرَّب لتباريح الصغارة وعربون جهنّم. والصبر هو الذي ينقض عادةً اليأس الذي يعيث النفس دمارًا. وهو الذي يعلّم تعزية النفس فلا يعتريها الوهن، تحت وطأة الجهادات والأحزان الكثيرة... مَن يعرف أين خيره يجاهد قبل كلّ شيء ليحرز على الصبر" .

 

6- الصلاة: هي فن الفنون، إذ تدخلنا في حوار مع بالله، إن كانت واعية. نطلب فيها معونته ورحمته لمساعدتنا في حربنا على الأهواء، ونشكي له همومنا ومصاعبنا، ونشكرع على كلّ شيء. يقول البار برصانوف "إنّ الأهواء تهرب عندما نذكر إسم يسوع، وعندما يهاجمك أيّ نوع من الأهواء، لا توجد فائدة أكبر من استدعاء اسم الله. كلّ ما يمكننا فعله، مهما كان ضعفنا، هو أن نهرب طالبين ملجأ اسم يسوع. إذ إنّ الأهواء تتراجع عندما يُنادى بهذا الاسم".

 

7- إقتران الإيمان بالأعمال: الإيمان بدون أعمال باطل. إتمام الوصايا الإلهيّة تخرجنا من التقوقع على ذواتنا وتخرجنا إلى خدمة الآخرين. مساعدة الفقراء مثلاً تبيد فينا شهوة البخل والجشع والكبرياء. الحرب للتخلّص منّ الأهواء يتبعها حرب لاكتساب الفضائل (العفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبّة وعدم إدانة الغير ومعرفة الذات، كما نجد في صلاة التوبة لأفرام السريانيّ). ويؤكّد مرقس الناسك على أن: "السيّد مختبىء في وصاياه، ونحن نجده بقدر ما نسعى إليها... لا تقل قد جاهدت ولم أجد السيّد". يجب إذن معرفة الوصايا معرفةً حقيقيّة وأخذها على محمل الجدّ. من أجل ذلك، يجب أن تتطابق حياتنا مع حياة المسيح، وأن نسعى إلى التشبه به في كلّ شيء، كما يقول لنا القدّيس اسحق السرياني: "كونوا متعطّشين إلى المسيح، وهو يرويكم بمحبّته". هذا التشبّه بالمسيح، والتخلّق بأخلاقه، واكتساب فكره والاقتداء بأفعاله، والإلتصاق به إلى حدّ الاندماج، كلّ هذا هو من ركائز كلّ حياة روحيّة حقيقيّة.

 

8- الرجاء هو أخ الإيمان، إذ ندرّب ذواتنا بواسطته على الثقة بأنّ الله سوف يستجيب لنا عندما يراه هو مناسبًا، وليس ضرورة عندما نحن نريد. الرجاء يعلّمنا الصبر وانتظار رحمة الله واستجابته، مع اليقين أنّهما سيأتيان لا محالة (رومية 8:24 ). نحن نعيش على الرجاء لأنّنا أبناء الله، وعلينا أن نبقى على الرجاء مهما حلّ بنا من مصائب. يشجّعنا الرجاء على احتمال الأوجاع والمحن، إذ نسلّم كلّ شيء إلى الله ومشيئته. فنقبل ما يصيبنا من أوجاع وتجارب ونعتبرها نتيجة أفعالنا وخطايانا، لأنّنا نعرف يقينًا أنّ الله لا يريد أبدًا عذابنا، بل يريدنا أن نعتبر كلّ محنة أداة للتطهير وواسطة للاشتراك بآلام يسوع الذي ارتضى أن يشاركنا الألم والموت محبّة بنا. الرجاء يجعلنا أيضًا نتذوّق منذ الآن الملكوت الآتيّ، إذ يجعلنا نعيش في الوقت نفسه في حياتنا الحاضرة وفي ما سوف يأتي، فنطىء بذلك عتبات الملكوت، هنا وثمّة، ونعلم أنّ لا نهاية لنا على هذه الأرض، إذ نحن مواطنو السماء.

 

9- النسك الجسديّ: الإنسان حيوان، وبالتالي يجب أن يدرّب ذاته بأمور أيضًا حسّيّة، فيُشرك جسده في حربه على الأهواء. ومن أعمال النسك الجسديّ الممارسات التالية:

 

الصوم يقي من الشراهة والشهوة ويعلّمنا الشعور مع الجائعين، فنتخلّص من شهوة العُجب والكبرياء والبخل. ويعلّمنا أيضًا أن نخرج من ذواتنا لإعانة الأخ بدل أن نحاكمه  وندينه. وكذلك يعوّدنا على اتّباع مبدأ الاعتدال في الطعام والشراب والقنية وفي كلّ شيء، ونجعله مبدأ صارمًا  يطبع حياتنا ويلهمها.

 

ويعلّمنا ثيودوروس الستوديتيّ التسلسل في اكتساب الفضائل وأهميّة الصيام ومكانته  فيها، فيقول: "كما يقول الكتاب: "بدء الحكمة في مخافة الله" (مزمور 110: 9). فهي أيضًا الخطوة الأولى في طريق الفضائل، يتبعها أربعة فضائل كبار، هي الحكمة، والشجاعة، والعفّة والاستقامة. وكذلك تتبعها الفضئال الأخرى، كلّ واحدة منها مرتبطة بالتي تسبقها بوحدة المحبّة، إلى أن يكتمل هيكل الله المقدّس. فالمهمّ، أيّها الإخوة، في بناء هذا المسكن وتزيّنه بالفضائل لكي يسكن فينا الروح القدس ونُفرح الملائكة، ونفيد الجنس البشريّ بإتمامها. وبما أنّ الزهد هو من كبار الفضائل، علينا أن نجتهد لاكتسابه، ونمجّد الله الذي يمكّننا من الركون إليه طيلة (صيامنا). تتغيّر وجوهنا وتشحب، لكن تسطع فينا نعمة الزهد. تتمرّمر أفواهنا من الصوم، لكن تحلو نفوسنا بأمل الخلاص ونعمته. الجسد والروح دائمًا يتخاصمان، فعندما يقوى واحد يضعف الآخر. فالنفرح، أيّها الإخوة، لأنّنا جعلنا نفسنا أقوى، واخترنا النصيب الصالح".

 

ممارسة السجود تجعل الجسد يرافق الروح في ابتهالاتها. وللسجود نوعان: السجدات الصغيرة والسجدات الكبيرة أو المطّانيّات (من مطّانية أيّ التوبة في اللغة اليونانيّة، أو انقلاب الذات). ينصح الآباء بأن يقوم المرء بعدد من كلّ منهما في كلّ يوم، إذ إنّهما تساعدان الحياة الروحيّة وتجعلنا نتواضع وننكسر أمام الله وأيضًا أمام الإخوة، إذ من المستحسن أيضًا أن نسجد أمام بعضنا البعض تعبيرًا على محبّتنا واحترامنا المتبادل، والسجود للمسيح الموجود في كلّ واحد منّا. ويذكّرنا انبطاحنا على الأرض أنّنا أتينا من التراب وإليه ذاهبون، وأنّه علينا الانتباه والسهر في حياتنا على هذه الأرض لئلاّ نضلّ.

 

السهر: ينصح الذهبيّ الفم أن ينهض المرء مع عائلته في نصف الليل من أجل الصلاة ورفع العالم الساكن آنذاك إلى الله والتشفّع من أجل كل النائمين. وكان الناس يفعلون ذلك في أيّامه. فأين نحن اليوم من هذه الممارسات؟ خبرة الآباء تثبت أنّ الصلاة في الليل أو فجرًا باكرًا ترفع النفس والذهن إلى الله بطريقة مميّزة.

 

ملازمة الصمت التي تجعلنا نتخلّى عن عُجبنا، فنستمع بدل أن نتكلّم، ونخصّص حاسّة السمع فينا، بعيدًا عن كلّ ضجيج، للإضغاء لما يقوله لنا إلهنا في السكون. علينا أن نسكت ليس فقط باللسان، بل أيضًا بالنظر بامتناعنا عن رؤية ما يثيرنا (تلفزة ومناظر سيّئة وما شابهها). ويشجّع الصمت على التجمّع الداخليّ للذات ومراقبة الأفكار.

 

10- مراقبة الأفكار وضبطها: علينا أن نتمرّس لترقّب كلّ فكرة تجوب في خاطرنا وفحصها ورفع الخيّر منها إلى الربّ لتنميته، ورفض الرديء منها رفضًا جازمًا، ودحضها بقوّة، وتبجيل الشيطان الذي هو مصدرها. يكمن الغضب الإيجابي في قولي للشيطان، صارخًا: ابتعد عنّي أيّها اللعين! أو يا ربّي ابعد عنّي هذا العدوّ اللعين! تدرّبنا هذه العادة على التمييز والانتباه، فلا نسمح لأيّ غريب أن يدخل إلى قلبنا بدون مراقبة، وهكذا يصحو ذهننا. تنمية إمكانيّة التمييز فينا أساسيّة، إذ بدونها لا ينفع لا السهر ولا الإنتباه. ويعلّمنا هيزيخيوس العوسجيّ الطرق المختلفة لمراقبة الأفكار وصولاً إلى اليقظة، قائلاً: " (الطريقة) الأولى أن تراقب مراقبة حثيثة المخيّلة أو الوسوسة الشيطانيّة. فالشيطان، بدون المخيّلة، لا قدرة له على أن يبعث أفكارًا، ويعرضها على الذهن، ليحتال عليه بكذبه. الطريقة الثانية أن تحفظ قلبك دومًا في صمت سحيق، في حالة سكينة، مقصيًا كلّ فكر ومعتصمًا بالصلاة. وطريقة أخرى أن تستغيث، باستمرار، متواضعًا، بالربّ يسوع المسيح. وهناك، أيضًا، طريقة أخيرة، أن تضع في نفسك ذكر الموت دائمًا".

 

ويزيد فيلوثيوس السينائيّ، منبّهًا: "حافظوا على ذهنكم بانتباه شديد. وعندما تلاحظون أنّ فكرة ما (شرّيرة) تخالجه، قاوموها توًّا، وفي الوقت ذاته، أسرعوا إلى طلب معونة ربّنا المسيح، لكي ينتقم عنكم. تسمعوه، في اللحظة التي تتّجهون إليه، يقول لكم: «هاءنذا بقربك، لأعينك». وبعد أن تكون صلاتكم قد غلبت العدوّ، عودوا فانتبهوا إلى ذهنكم. ربّما ستواجهون أمواجًا تقتحمكم، الواحدة تلو الأخرى، فتهتزّ نفسكم، وتكاد تغرق. ولكنّ يسوع هو الله، وكما فعل مع تلاميذه، سيأمر رياح الشرّ. أمّا أنتم، فمجّدوا مَن خلّصكم، في كلّ حين، لكي تهدأ حرب الأعداء، وثابروا في ذكر الموت".

ويقول هيزيخيوس العوسجيّ أيضً: "اسهروا دومًا على ألاّ توجد أيّ فكرة في قلبكم، لا غير معقولة (الممنوعة) ولا معقولة (المسموحة)، لكي تتمكّنوا سريعًا من معرفة الغرباء، أيّ الأفكار الشرّيرة".

 

11- التمييز: يصف بطرس الدمشقيّ التمييز قائلاً: "سمات التمييز هي معرفة الخير ونقيضه، بلا خطأ، وعلم إرادة الله في كلّ ما نفعله. وسمات الرؤية الصافية هي معرفة أخطائنا قبل وقوعها، وعلم ما يحدث لنا عندما يحتجزنا الشياطين، ومعرفة الأسرار المكنونة في الكتب الإلهيّة والخلائق الحسّية... التمييز نور. فمَن كان يملك هذا النور، فالتمييز يبيّن له الأوان والعمل والتنفيذ والقوّة والمعرفة والسِنن والقدرة والضعف والعزيمة والحرارة والندامة والحال والجهل وعنفوان الجسد وسجيّته والصحّة والتعب والطريقة والمكان والتوبة والتربية والغيمان والنزق والهدف والسيرة والحريّة والعلم والحكمة الطبيعيّة والجهد واليقظة والوعي، ويبيّن بعد ذلك طبيعة الأشياء وفائدتها والكمّية والنوع وغاية الله في الكتب الإلهيّة ومعنى كلّ لفظة... التواضع هو مصدر التمييز الذي ينير تخوم العالم. وبدون التمييز كلّ شيء ظلام، لأنّه هو النور، ونسمّيه نورًا. فينال منّا العجب عندما نعاين الأشياء الأخرى. وقبل كلّ قولٍ وكلّ عمل، نحن بحاجة إليه. نعجب لخلق الله، النور أوّلاً، في أوّل أيّام الأسبوع، في اليوم السامي، لكيلا تظلّ الأشياء المزعمة أن تليها محجوبة عن الأنظار، وكأنّها لم تكن... فالتمييز هو النور إذًا، والرؤية الصافية الناجمة عنه هي، من بين جميع المواهب، أشدّها ضرورة".

 

12- حفظ الحواس بواسطة عيش عميق للحياة الليتورجيّة: الليتورجيا هي السماء على الأرض، فتعلّمنا أن نرتفع عن الماديّات، و"نرفع عنّا كلّ اهتمام دنيويّ لأنّنا عازمون أن نستقبل ملك المجد"، ونكون أثناءها في نقطة التقاء السماء والأرض، فنذوق هذه وتلك. وبما أنّها تقدّس الزمن، تفتح لنا المجال لإتمام دور الشفاعة ابلمنوط بنا من أجل الكون والخليقة كلّها، كوننا نشترك في كهنوت المسيح: "التي لك ممّا لك نقدّمه لك لكلّ شيء ومن جهة كلّ شيء". وبما أنّها تدمج جسد المسيح بجسدنا ودمه بدمنا، تعطينا القدرة على الصمود في معركة الأهواء، بمعونة مَن غلبها جميعها على الصليب. وكذلك تجعلنا الحياة الليتورجيّة نشعر أننّن لسنا وحدنا، بل إعضاء ضمن جماعة محبّة وعاضدة، لمواجهة أهوائنا وصعوباتنا. أضف إلى ذلك إن الإيقونة تؤدّب حاسّة النظر فينا لكي نرى من خلال كلّ الأشياء مداها الآخر الممتدّ إلى ما فوق الأرضيّات، وأن نلج من خلال مظهره الخارجيّ إلى داخل الإنسان الآخر ونكتشف الخيّر فيه. كذلك الترتيل، وخاصّة ترتيل الشيروبيكون، يسمعنا، إن أصغينا وانتبهنا، صوت الملائكة المشتركين معنا في ترتيله، فنتعوّد إذذاك على سماع ما لا يُسمع، أمثال تسبحة كلّ نسمة، وأنّات الروح، وصوت يسوع، فتتقدّس فينا حاسّة السمع، ولا نعود نرضى أن نسمع السيّئات، بعد سماعنا هذه الأصوات السماويّة. أمّا تناولنا القدسات فيهذّب ذوقنا، إذ نكتشف حلاوة الربّ التي تفوق كلّ حلاوة دنيويّة، ويقنعنا أنّ الإنسان لا يشبع فقط بالخبز بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله. وتتهذّب حاسّة الشمّ برائحة البخّور الذي يذكّرنا بضرورة حسن تسبيح خالقنا الذي لا يريد منّا ذبائح وبخّور، بل قلبًا نقيًّا منسحقًا ورحمة وسلامًا، لأنّ بهذه تكون ذبيحة التسبيح. وكذلك تهذَّب هذه الحاسّة بالأريج المتدفّق من أجساد القدّيسين الذي لا يمكن لأيّ عطر من عطور هذا العالم أن يضاهيه. أمّا حاسّة اللمس فتتقدّس بلمس القدسات والإقونات والإنجيل المقدّس والصليب والزيت المقدّس وكلّ حاملٍ لنعمة القدّوس.

 

ويتكلّم يوحنّا الدلياطيّ (راهب سريانيّ من القرن التاسع)، على تقديس الحواس هذا بقوله: "بتصويبه نحو الله، امنع نظرك من أن يتوه نحو أيّ جمال بائد، وقلْ: لن أتلذّذ برؤية هذه الأشياء، لكي يعطيني الكلّيّ الصلاح أن أتلذّذ بجماله الذي يُفرح الملائكة. وامنع أذنك من أن تسمع أيّ شيء تافه، وقلْ: أؤمن بأنّ الكلّيّ الحقّ سيعطيني، إذا امتنعت عن ذلك، إمكانيّة سماع أسراره التي هي منذ الأزل وباقية إلى الأزل. أمّا بشأن الحسّ الثالث، حسّ الشمّ، فقلّ لنفسك: لامتناعي عن شمّ أيّ رائحة خلاّبة، من روائح هذه الأرض، أنا متأكّد من أنّ الربّ سيعطيني عوضًا منها أريجًا مقدّسًا، يعبق من كيانه الخفيّ، ويُبهج ملائكة النور. أمّا الحسّ الرابع (الذوق)،... فعليك أن تلجمه، بعناية فائقة، وتبقى على الرجاء أنّ الربّ سيعطيك، مقابل انتباهك، أن تتلذّذ بمعرفته. أمّا لسانك، فالجمه أيضًا. وكما أمر الربّ، لا تلفظ كلمة واحدة تافهة، إذا رغبت، بحرارة، في أن تتكلّم مع خالقك. وضع حسّك الخامس تحت رقابة الحارس النبيه الذي هو العفّة، خوفًا من أن يقودك بعيدًا من مخافة الله".

 

13- التحرّر من الأهواء هو قصّة حياة وجهاد مستمرّ، لأنّ السارق يأتي في نصف الليل. فعلينا إذًا أن نكون مستيقظين ومنتبهين، مثل العذارى العاقلات. فلنردّد صلاة التوبة لأفرام السريانيّ كلّ يوم من حياتنا، وليس فقط أثناء الصوم الكبير، لتذكّرنا بأهوائنا وضرورة السهرالدائم لمنعها من العشعة فينا، واستبدالها بالفضائل التي أمّها جميعًا هي المحبّة، التي هي أعظم من الصلاة ومن كلّ أمر يمكننا القيام به استرضاء لله، لأنّها وحدها تجعلنا نتشبّه بالإله المحبّة. مرحلة الصوم هي لتدرّيبنا على هذه ألأمور كلّها، بغية تحريرنا من أهوائنا، وجعلنا نستعدّ لفرح القيامة، الذي يجب أن نعيشه كلّ يوم من حياتنا، إن كنّا نريد أن نكون من تلاميذ الربّ. إذًا، تروّضنا ممارسات الصوم لكي نتابعها في كلّ يوم من أيّام حياتنا. فيكون إذذّاك كلّ واحد منها يوم جديد، وبدء جديد في مسيرتنا نحو مخلّصنا، وسعينا للشهادة له في هذا العالم، بواسطة محبّتنا لبعضنا البعض، ولكلّ قريب وعدوٍّ.

 

اكتساب الفضائل: كما قلنا، علينا أن نبدّل كل هوى بالفضيلة التي تعاكسه. يدعونا الآباء مثلاً إلى محاربى هوى الشراهة بأكل الكتاب والتغذّي منه (حزقيال 3:3، أع  10 : 9)، والإقدام على الصلاة قبل وبعد تناول الطعام والشراب للشكر على ما أعطي لنا، :ما يجمعنا الصوم عن الطعام بإخوتنا الجياع، كماهو وقفة نبويّة ترفض مجتمع الاستهلاك. وكذلك يُحارَب الزنى بتوبة حقيقيّة، واعتبار العلاقة الجنسيّة ضمن الزواج كعمل سرّي يعطي الفرح ويساهم في إتمام سرّ الزواج. لا بدّ من عفّة في الزواج في نوعيّة العلاقة، والامتناع الرضائي عن العلاقة الجنسيّة من أجل الصلاة، واعتبار أن هذه العلاقة هي جزء من علاقة المحبّة التي تجمع الزوجين. "إنّ هذا السرّ لعظيم هو" (أف 5: 32)  يوحي النصّ الكتابيّ أنّ العلاقة بين الزوجين يجب أن تكون علاقة ثلاثيّة يتوسّطها يسوع. فيقول السلّميّ إنّ على العلاقة الجنسيّة أن تعطينا مثالاً لرغبتنا الموجّهة نحو الله، بقوله: "طوبى لمَن له هوى تجاه الله لا يقلّ اضطرامًا عن هواه تجاه حبيبته". ونتحرّر من الغضب بأخذ عادة استرخاء الأعضاء وعدم شدّ الأسنان أو الأيدي، ولجم اللسان، والصلاة والترتيل، وخاصّة التعوّد على الغفران ومحبّة الآخر. ولا يمكن محاربته سوى بالاتّضاع والانفتاح واعتبار الآخر، كلّ آخر، أخ وقريب لي ومسكنًا للربّ. ونتغلّب على الحزن بالعمل لاستعادة تذوّقنا الله، وباتّباع نظام حياتيّ صارم، وصوم وصلاة وطلب مساعدة الربّ، والاستعانة برجال روحيين، والاعتراف والندامة، وسجدات متكرّرة، والسعي أن نجعل كلّ شيء جديدًا للخروج من الرتابة. أمّا دواء العُجب فيكون أيضًا باكتساب

التواضع والتمثّل بيسوع الذي لم يفتّش عن أيّ مجد شخصيّ، والتعوّد على الشكر على عطايا الله، وذكر الموت، وأنّ اتّكالي الأخير هو على المسيح، لا أنا، هو الذي وحده يحييني، وليس على قواي الذاتيّة.

 

أمّا أمّ الفضائل فهي المحبّة، إذ لا تألّه يدون محبّة. ولا محبّة بدون تواضع ورفض إدانة البشر رفضًا كلّيًّا. يسوع يقول عن نفسه: إنّي وديع ومتواضع القلب. فلا اتّحاد به إنّ لم نكن مثله. فإن لم نردّ على الهوى بهوى آخر، نغلب العالم وتنقطع سلسلة الأهواء. تلميذ المسيح يكون  متواضعًا ومحبّا أو لا يكون. هذا هو الشرط الأساسيّ الذي يفتح أمامه العيشة الحقّة مع الله وفيه، ليصبح إلهًا بالنعمة والتبنّي. إضافة إلى التواضع والمحبّة، ينبّه هيزيخيوس العوسجيّ على ضرورة اكتساب فضائل أخرى، هي الانتباه الشديد، وروح المناقضة والصلاة، فيقول: "لا بدّ من التواضع، لأنّنا نحارب الشياطين، أعداء التواضع، لكي نبقى على مقربة من قلب الربّ الذي يمقت المتكبّرين. أمّا الانتباه، فلمنع قلبنا من اقتناء أيّ فكرة، مهما كانت. أمّا المناقضة، فلمجابهة العدوّ، توًّا، بغضب عند مجيئه. أمّا الصلاة بعد المناقضة، فلكي نصرخ من أعماق القلب نحو المسيح بأنّات لا توصف".

ويشدّد البار نيكون من الجبل الأسود على حسن معاملتنا لبعضنا بعضًا كأساس لحياتنا المسيحيّة، فيقول إنّ "أوّل المراقي ألاّ نبدأ بالجور والمرقاة، والثانية ألاّ نكايف الجور بمثله، والثالثة ألاّ تؤذي مؤذيك، بل تتحمّله وتصبر له، والرابعة أن تمكّن من نفسك لمَن يريد الإسائة بك، والخامسة أن تبذل له نفسك أكثر ممّا يلتمس منك، والسادسة ألاّ تبغض صانع السؤ بك، والسابعة أن تحبّه، والثامنة أن تحسن إليه، والتاسعة أن ترغب إلى الله وتطلب من أجله... فلا تفكّر أنّ الأمر ذات صعوبة خشنة،... بل فكّر، إن فعبلت، بمَن تصير مشابهًا ... وإن فعلت فقد صرت من حزب الله وقريبًا منه".

حالة اللاهوى: يصعب كثيرًا على المرء الوصول إليها، أو التكلّم عنها، إن لم يمارسها. فالأجدى بنا إذًا أن نلجأ إلى مَن يتكلّم عليها انطلاقًا من خبرة، ونستمع إلى ما يقوله لنا على هذه الحالة ثلاثة من كبار المسّارين الأرثوذكسيّيبن.

 

يقول بطرس الدمشقيّ: "اللاهوى ليس فضيلة واحدة، بل هو اسم جميع الفضائل. فكما أنّ الإنسان ليس عضوًا واحدًا، بل يظهر من خلال أعضاء الجسد كلّها، وليس هو الأعضاء فقط بل النفس أيضًا، كذلك اللاهوى هو جملة فضائل كثيرة، والروح القدس هو لها بمثابة نفس. فكلّ ما نسمّيه بالأعمال الروحيّة لا نفس له إذا خلت هذه من الروح القدس الذي به يُدعى الإنسان الروحيّ روحيًّا. فإذا لم تطرح النفس الأهواء لا يقبل الروح القدس إليها. ولا تُدعى فضيلة الشاملة لاهوى بدون الروح القدس. فالخاليّ من الهوى بدون الروح القدس هو إنسان خاليٌّ من الحسّ... بمحبّة الله الكاملة يتوصّل الخاليُ من الهوى إلى السيطرة على الشعور، فتارة يتحدّث إلى الله، وطورًا يشاهد عجائبه، ويتأمّل في كلمةٍ من الكتب الإلهيّة... هذه الحالة هي ثمرة التقيّد بوصايا المسيح الإلهيّة".

 

ويقول سمعان اللاهوتيّ الجديد:."إنّ اللاهوى ليس فقط في الامتناع عن ممارسة الأهواء بل في تحاشينا رغباتها، وأكثر من ذلك في تجريد ذهننا عن تخيّلاتها، بحيث نصعد متى شئنا الى ما فوق السماوات، خارج كلّ المنظورات والمحسوسات، وكأنّ حواسنا مغلقة وذهننا يدخل الى العالم الذي يفوق الحسّ، رافعًا معه الحواس بقدرته كما يرفع النسر جناحيه".

وأخيرًا، يقول ثيوغنوطيوس:"أتريد أن أرشدك إلى طريق آخر للخلاص، أو بالأحرى كيف الوصول إلى حالة اللاهوى؟ ألحّ على الخالق بواسطة صلواتك قدر المستطاع، ولا تزح عن هذا الهدف. واطلب، باستمرار، شفاعة كلّ القوّات السماويّة، والقدّيسين ووالدة الإله الكلّيّة الطهر، للوصول إليه. لا تفتّش عن حالة اللاهوى، لأنّك لا تستحقّ هذه الموهبة. لكن اطلب الخلاص، بجهد وتعب، ومع الخلاص ستحصل على اللاهوى أيضًا. لأنّ اللاهوى يشبه الفضّة، بينما الخلاص يشبه الذهب الخالص". آمين!

 

 

 

المشاركات الشائعة